كُتّاب الموقع
ثقافة الهجرة الدوليّة وكِلفتها في دول شمال أفريقيا

د.عبد الهادي أعراب

الإثنين 18 شباط 2019

طُرِحَ سؤال الهجرة بشكل أكبر في نهاية القرن 20، عِلماً أنّها حركة مجاليّة مُمتدَّة في التاريخ الإنساني؛ واليوم هي عنوانٌ لإشكاليّات تهمّ دول الشمال والجنوب على حدّ سواء. فهي عابِرة للقارّات، وقضاياها ما تفتأ تتزايد بالنَّظر إلى التحوّلات الجارية دوليّاً. ومن أبرز الأصناف التي اهتمّ بها الباحثون في شمال أفريقيا وتحديداً في المغرب والجزائر وتونس، نَجد الهجرة السرّيّة التي تُعرف في اللّغة المُتداوَلة ب"الحريك".

تُعَدّ هذه الهجرة انعكاساً لعلاقة البلدان المُستعمِرة بالدول المُستعمَرة، وثمّة من الشواهد التاريخيّة والاقتصاديّة ما يوضِح كيف أَفرزت مشكلات كبرى في دُول الانطلاق والوصول على السواء، تعكس اختلالات اجتماعيّة وثقافيّة هي نِتاج علاقات لامتكافِئة رسَّختها الدول الاستعماريّة؛ وعليه فجزء من القضايا والمشكلات التي تعانيها الآن، هي ثمرة إساءاتها التاريخيّة للبلدان المُستعمَرة، بعد أن انقلب جزءٌ من السحر على الساحر كما يُقال.

ولئن كان العامل الاقتصادي إلى غاية نهاية القرن المُنصرم، يَشرَح جزءاً كبيراً من هذه الظاهرة، فإنّه اليوم لم يعُد عاملاً مُفسِّراً دقيقاً أمام قوّة الهجرة ومستوياتها المُعقّدة. نحن أمام ثقافة هجرويّة تمكَّنت عبر مراحل وتجارب مكثَّفة، من أن تصنع لنفسها أُطراً مرجعيّة للتفكير والقيَم والسلوك، تُوجِّه أشكال تدبير الحاضر والمستقبل ولا تنفصل عن إدراكات ونَماذج مُبنْيِنَة للعالَم.

عَرِف منسوب الهجرة الدوليّة تنامياً لافِتاً في ثمانينيّات القرن المنصرم ليبلغ الذروة في تسعينيّاته، بحيث انطلقت أفواجٌ كثيرة إلى دُول مثل إيطاليا، مُهيِّئةً الأرضيّة لذويها وقرابتها للالتحاق بها. وقد ساعدَ على ذلك مرونة الإجراءات القانونيّة قياساً إلى فرنسا. فإلى غاية 15 نيسان (أبريل) 1990، ظلَّت الحدود الإيطاليّة مفتوحة دون تأشيرة، لتتدفَّق في فترة وجيزة هجرات مُتتالية صَوب المُدن الايطاليّة. كانت في البدء فرديّة ثمّ أمست أسريّة وعائليّة وقبائليّة ومناطقيّة. ولأنّ المُهاجرين الأوائل كانوا قرويّين، فقد مارسوا أنشطة فلاحيّة قريبة ممّا ألفوه في قُراهم، كما نشطوا بتجارة متنقِّلة في الشوارع والساحات العموميّة المُزدحمة لفائدة إيطاليّين أو مُهاجرين قدامى. ترك المتزوّجون منهم زوجاتهم وأبناءهم ليعودوا بين الحين والآخر إلى مَوطنهم، أمّا العزّاب فقد تحرَّروا أكثر من هذه العودة. التحقت بعدها الزوجات بأزواجهنّ وإن كنّ قلّة مُقارنةً بفرنسا أو بلجيكا. على أنّ من نتائج هذا الالتحاق الزواجي والتجمّع الأُسري، تأنيث الهجرة التي طاولت المُتعلّمات وغير المُتعلّمات. استمرّ سَيل الهجرة مع فئات وشرائح مُختلفة وَجَدت في العائلة والأقارب شبكات تضامنيّة مدَّتها بالدَّعم الاجتماعي والنفسي والثقافي داخل أحياء ومُدن تأوي القادمين، فاتَّسمت بكثافة أخلاقيّة مكَّنتهم من تبادُل الزيارات وتوثيق الروابط. حوَّلَ هذا المعطى الهجرة من "مؤقّتة" إلى "شبه دائمة" أو هجرة إعمار، وإن كان مؤقّتا قياساً بفرنسا، لأنّ المُهاجرين في إيطاليا ظلّوا مُتشبّثين بالعودة إلى بلدانهم، يشهد على ذلك تحويل مُدخّراتهم إلى استثمارات ومشاريع في مُجتمعاتهم المحليّة ومَراكِز انطلاقهم. فلا هجرة إلى الأبد، بل ثمّة أُفق للعودة باستمرار مهما امتدَّت الإقامة وطالت الأعمار، فقد اشتغلوا بذهنيّة اقتناص الفُرص وجمْع المال من أجل تأمين مستقبل أفضل في الديار.

 


حين تغدو ثقافة الهجرة بناءً ديناميّاً

تبدو ثقافة الهجرة بناءً ديناميّاً يصل الأفراد بمَعيشهم، وكأنّها سعيٌ حثيث لتجديد الذّات والتكيُّف مع واقع جديد تصنعه أو تتأقلَم مع متحوّلاته، من هنا ارتهن الفعل الهجروي بأنماطٍ محدّدة اجتماعيّاً: قوّة جماعيّة ضاغِطة ومتخيَّل هجرويّ يدفع للتفكير فيها ومُمارستها؛ بل تنشئة هجرويّة تربط حياة الأفراد بنشاط الهجرة واقتصاديّاتها وعائداتها وإغراءاتها الماديّة. هكذا تُنتِج ثقافة الهجرة واقعاً خاصّاً بها، مثلما يُنتج واقع الهجرة ثقافة تخصّه وتَنشئة تُناسبه. إنّه تفاعل يفرز باستمرار مزيداً من المُهاجرين والمُرشَّحين للهجرة، ويُعمِّق مُغادرتهم لمجتمعاتهم خلافاً لما يُنتظَر من أيّ تنشئة اجتماعيّة متوازنة تزيد الأفراد التصاقاً بمَوطنهم وتخلق الرضى عن واقِعهم. فالتنشئة الهجرويّة طارِدة، بلغة الجغرافي الألماني Ernest George Ravenstein، وتزداد قوّتها مع تأثير التجارب الناجحة للمُهاجرين وتصويرهم كأبطال استطاعوا أن يُحسّنوا أوضاعهم ويُنقذوا أسرهم من وضعيّات مأزومة.

صنعت ثقافة "الحريك" شبكة ثلاثيّة الأطراف: الزبناء، وهُم المرشَّحون للهجرة، الوسطاء، وهُم فئات تجتهد في إيجاد زبائن جُدد للهجرة، ثمّ المهجّرون أو"الحرّاكة"، وهُم مُحترفو نشاط التهجير بمختلف الوسائل التي تُناسب المَعنيّين. وبالوقوف عند دلالة هذا المفهوم، نجده يتّصل بالإحراق. لكنّنا نتساءل كيف يستقيم الإحراق بالمرور بحراً؟ إنّه معنى مجازيّ يُكثِّف دلالة التخلُّص من الأوراق القانونيّة والتجرُّد من أيّ هويّة قبل ركوب البحر. إحراقٌ يَستدمج دلالة السرعة بمعناها الفيزيائي عند اشتعال الوقود داخل المحرِّك الميكانيكي، بالعبور السريع إلى أوروبا أو الانتهاء الأسرع غَرقاً في البحر.

يُحيل "الحريك" على دلالات ناريّة تقترب من الانتحار بإفناء الذّات في عُمق البحر. لكنْ ألسنا ها هنا بصدد الرغبة في الاحتراق هروباً من الاكتواء بالواقع المرير للمُقدِم على مُغامرة الهجرة؟ أليس احتراقاً لمُغادَرة الوطن نحو الضفّة الباردة والأكثر طراوة ما دامت رحلة من الجنوب إلى الشمال ومن الأدنى للأرقى وفقاً لتمثُّل المَعنيّين بالفعْل الهِجرويّ؟

لا شكّ أنّها تجربة مُكلفة جدّاً، فظروف الرحلة عبر القوارب المطّاطيّة كارثيّة؛ لذا تُعرَف بقوارب الموت. ولئن عُدَّت قوارب نجاة بالنسبة إلى مَن حالفهم حظّ الهجرة، فإنّها في النهاية مُقامَرة يكشف الإصرار عليها عنفها ولا معقوليّتها. فعلى الرّغم من كلّ شيء، يَبتدع الأطفال كلّ يوم أشكالاً من التسلُّل عبر الحاويات وبين عجلات الشاحنات، وتبرز باستمرار أساليب وطُرق جديدة تشي بأنّنا أمام ثقافة تتطوَّر وتتكيَّف مع واقعها باستمرار؛ فتتحايل على القانون مثلما ترسِّخ مُتخيَّلاً هجرويّاً يسمه التفكير الدائب في الهجرة كحلٍّ وحيد للبطالة بعيداً عن أعمالٍ صارت تُعتبر أقلّ قيمة.

لقد صارت الهجرة حلماً للشباب والأطفال والمُراهقين. إنّها تأهُّب مُستمرّ وانتظار أقرب فرصة مُمكنة، ويزداد الاحتراق لخَوض التجربة مع أخبار المُهاجرين وتَوافدهم بمظاهر تفاخريّة ضاغِطة تتضمَّن قدراً كبيراً من العنف. بهذا أمست الانتظاريّة واقعاً قائماً، كما حوَّل الكسلُ المُكتسَبُ الفردَ إلى كائنٍ يعيش ليُهاجِر فقط ، بعيداً عن أيّ غاية أخرى. إنّه فِصامٌ صارخ يعيشه الشباب بأجسادٍ مُقيمة في مُجتمعاتهم وبخيالٍ مُنبهِر بالضفّة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط. ثمّة إذاً، انهزاميّة بالغة تجعل تمثُّل الذّات بعيداً عن الهجرة مهزوزاً، ما دامت نموذج النجاح المرغوب.

 


عندما يُصبح الشريك خياراً براغماتيّاً

تتضاعف كلفة الهجرة ثقافيّاً وقِيميّاً، لأنّ الاعتراف الاجتماعي بالحظوة التي تحقِّقها، يَستلزم التنازل عن أشياء كثيرة، منها صمْت السلطة الذكوريّة عن هجرة الإناث والتطبيع مع أعمالهنّ المُريبة خارج الوطن وتلاشي المُراقَبة التي كانت تُطاولهنّ. ففي ظلّ قيَم التفاوُض والمُساوَمة تُصبِح للتواطؤ مسمّيات غير مسمّياتها الحقيقيّة، قيَم جديدة مُهادِنة وتلفيقيّة مُشبَعة بالنفحة الماديّة المُرسْملة، تغضُّ الطرف عن بَيع الأرض التي كانت بالأمس عَرضاً لا ينبغي التفريط فيه، وتشجِّع ذكاءات همّها اقتناص الفرصة لتحقيق حلم الهجرة وإنتاج استراتيجيّات زواجيّة هجرويّة. هكذا صار التفكير في الشريك خياراً براغماتيّاً مع أنواع من الزواج الأبيض تستحيل زواجاً فعليّاً، بعيداً عن القيَم التي يُفترض أن تكون وراء الزواج. إنّه الإقدام على خيارات زواجيّة منطقها المصلحة الماديّة، جسّدتها أصناف الزواج المُختلط قبل رحلة الانطلاق، تلعب فيها شبكات محليّة متخصّصة دَوراً سافِراً، باستجلاب أجانب مسنّين يرغبون في قضاء سنوات التقاعُد مع فتيات شابّات. على أنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ، متى استحضرنا تعرّضهنّ للاستغلال الجنسي في شبكات الدعارة في بلدان الوصول.

أصبح الزواج الأبيض وسيلة للتربّح وحلّاً لمشكلة العنوسة وتخلّصاً من الشباب العاطل. فالأسر المُهاجِرة تستثمر في إعداد أوراق الإقامة لبناتها ضماناً لعريسٍ مُناسِب. في المقابل تجد تلك التي تُقدِّم الذكور في هذا التبادل فرصة ثمينة لإنقاذ أبنائها. من هنا صارت صفقات الزواج الهجرويّ تبادليّة في ما بين الأسر، مروراً بمُمارسات أكثر تكتّماً، كالارتباط بمثليّين أجانب أو بآخرين أنهوا حياتهم العمليّة في بلدانهم ووجدوا في الحالِمات بمغادرة الوطن حضناً دافئاً لبداية حياة زواجيّة جديدة.

ظلَّت دول شمال أفريقيا طيلة الثلاثين سنة الماضية أسيرة نشاط الهجرة الدوليّة ونتائجها العميقة على المجتمع والأفراد، فلم تؤثِّر على الاقتصادات والإنتاج فحسب، بل أوجَدت قيَماً وثقافة خاصّة. واليوم على الرّغم من التراجُع الملموس الذي مسَّ أعداد المهاجرين وعودة أفواج من المُرحّلين أو الذين قرَّروا الإقامة نهائيّاً بمجتمعهم، من الصعب أن نؤكِّد أنّ هذا التيّار الهجرويّ توقَّف، بعد أن تجذَّرت المُمارسات الهجرويّة وصارت ذهنيّة صلبة ما تفتأ تُعيد إنتاج نفسها باستمرار.

ختاماً، نرى ضرورة توجيه المساعي اليوم لبذْل مزيدٍ من الجهد العِلمي لتأطير ظاهرة الهجرة فَهماً ودراسة، بالنَّظر لما عرفته من تحوّلات سريعة أَفرزَت أشكالاً أكثر تعقيداً من المَراحل السابقة، في ظلّ تحدّيات اجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة وأمنيّة تطرحها هذه القضيّة. ومواجهتها بنجاح لن تتحقَّق بالمقاربة الأمنيّة فحسب، بل بمُقاربات فهميّة وتحليليّة، تعزِّز منطق المعرفة قبل منطق التدخُّل وصنْع القرار عبر القوانين والسياسات الهجرويّة.



المصدر: مركز الفكر العربي