كُتّاب الموقع
مشهد عام 2019: رهانات متراجعة وتحوّلات بازغة

د. عصام نعمان

الإثنين 31 كانون لأول 2018

في السياسة يمكن التوقع وليس التنبؤ، ذلك أن الواقعات تتغير وتتطور باستمرار على نحوٍ يتعذر معه التنبؤ بنتائج موثوقة، بينما في التوقع تبدو التقديرات أكثر واقعية وأكثر قابلية للتحقق. في ضوء هذه المقاربة، كيف يمكن أن نتوقع مشهد عالم العرب عشيةَ إطلالة عام 2019؟
ثمة رهانات سياسية وعسكرية وأمنية نشأت خلال السنوات الماضية وستمتدّ بحركتها ومفاعيلها في العام الجديد. كما بزغت تحوّلات في الماضي القريب سيحتدم بعضها في العام الجديد وقد يتكامل فيه. هذه الرهانات والتحوّلات يتولاها لاعبون نافذون، دوليون وإقليميون. ومن خلال حركة هؤلاء جميعاً وتفاعلهم يمكن توقع الاحتمالات والظاهرات الآتية:


اولاً: تراجع رهانات الولايات المتحدة وحلفائها
 

كانت الولايات المتحدة وما زالت أقوى اللاعبين في ملاعب عالم العرب. رهاناتها، بالإشتراك مع حلفائها الإقليميين، شملت دولاً عدّة. لعل اخطرها تقسيم سوريا إلى مجموعة كيانات قائمة على أساس طائفي أو إثني أو قبلي. لهذه الغاية استغلت أمريكا اندلاع اضطرابات ما يسمى “الربيع العربي” وحوّلتها، بالتعاون مع تنظيمات إرهابية شتى، أبرزها “داعش” و”النصرة”، إلى حربٍ ضروس في سوريا وعليها وكذلك في العراق، ونسّقت في هذا المجال مع كلٍّ من “إسرائيل” وتركيا. بعد نحو سبع سنوات من إطلاق هذا الرهان، يمكن القول إنه تراجع، بل هو في طريقه إلى الانحسار، الدليل؟ إعلان دونالد ترامب اخيراً اعتزامه سحب القوات الامريكية من سوريا. صحيح أنه لم يحدد وقتاً ولا برنامجاً لسحبها، لكن يبدو أنه أعطى نفسه هامشاً من حرية العمل للتنسيق مع اللاعبين الرئيسيين، روسيا و”إسرائيل” وتركيا، من أجل تقليص الأضرار الناجمة عن الانسحاب والحؤول دون إفادة خصوم امريكا وحلفائها، ولا سيما سوريا وإيران، من تداعياته السياسية والأمنية.


ثانياً: تعاظم دور روسيا في غرب آسيا
 

لم يكن لروسيا دور مؤثر في دول غرب آسيا قبل عام ،2015 لكن بعد تدخلها العسكري المباشر في خريف العام المذكور إلى جانب سوريا، في حربها الدفاعية ضد التنظيمات الإرهابية والدول الثمانين المساندة لها، أصبح لروسيا دور مؤثر ومتنامٍ في المنطقة المذكورة الممتدة من شواطئ البحر المتوسط غرباً إلى شواطئ بحر قزوين شرقاً. بتدخلها العسكري المباشر، المقرون بدعم سياسي ومالي وعسكري من إيران، مكّنت سوريا من صدّ التنظيمات الإرهابية وإجلائها عن ثلثي جغرافية البلاد. الأهم من ذلك، أفلحت روسيا في خفض دعم تركيا للتنظيمات الإرهابية، كما نجحت بتعاونها مع إيران في دفع تركيا إلى اعتماد الوسائل السياسية والدبلوماسية لإطفاء الحرب في سوريا وعليها ومعالجة المشاكل الناجمة عنها في مؤتمر أستانة، ما أدى إلى تطويق التدخلات الامريكية. إلى ذلك، قامت روسيا بإعادة تسليح سوريا ومدّها بمنظومة للدفاع الجوي (300-S) مستفيدةً من أخطاء جسيمة ارتكبتها كلٌ من تركيا و”إسرائيل” لدى تدخلهما السافر، كلٌّ من زاويته ولمصلحته، في الحرب لتفكيك وحدة سوريا وبعثرة شعبها. إلى ذلك، استفادت روسيا من أخطاء “اسرائيل” وخطاياها بحق الفلسطينيين عموماً، ومن تأييد أمريكا الأعمى لها، لزيادة دعمها السياسي لهم، ولاجتذاب حركتي “حماس” والجهاد الإسلامي اليها وإطلاق الدعوة، تالياً، إلى عقد مؤتمر فلسطيني موسّع في موسكو لمعالجة القضية الفلسطينية في جانبها الداخلي (حال الانقسام بين غزة والضفة) وجانبها الخارجي (حال الصدام مع “إسرائيل” وأمريكا). باختصار، أصبحت روسيا اللاعب الدولي الاول والاكثر نشاطاً وتأثيراً في غرب آسيا، ولاسيما بعدما أخرج ترامب امريكا من الاتفاق النووي مع ايران.


ثالثاً: ابتعاد تركيا المتدرج عن أمركا وتطلعها شرقاً
 

تركيا عضو قديم في حلف شمال الاطلسي (الناتو) بعد وصول رجب طيب اردوغان إلى السلطة، أخذت أنقرة تتطلع في طموحاتها ومصالحها ونشاطها شرقاً. هذا التوجّه الاستراتيجي قادها إلى التعامل مع أمريكا وأوروبا وفق متطلباته الجيوسياسية والاقتصادية. حاول أردوغان، بادئ الأمر، اعتماد الخيار الإسلامي (الإخوان المسلمون) للسيطرة على سوريا بدعم التنظيمات الإرهابية الإسلاموية التكفيرية، التي تقاتل الحكومة السورية. غير أن قيام الولايات المتحدة، بتحريضٍ من “إسرائيل”، بدعم الفصائل الكردية السورية الساعية إلى إقامة كيان حكم ذاتي في شمال شرق سوريا، أرعب أردوغان وحمله على تعديل سياسته، بشكلٍ قرّبه من روسيا وإيران ومكّنه من وقف الدعم للتنظيمات الإرهابية المقاتلة في سوريا والشروع في محاورة روسيا وإيران بغية التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية تخدم، بالدرجة الأولى، الأمن القومي التركي. بكلمة، تركيا أنشط لاعب حاليّاً في الاقليم بعد روسيا وأمريكا.


رابعاً: سقوط رهان “إسرائيل” على تقسيم محيطها الجغرافي وتزايد مخاوفها الأمنية
 

رهان “إسرائيل” الرئيس كان على تقسيم سوريا والعراق. هذا الرهان سقط مع نجاح سوريا وحلفائها في صّد التنظيمات الإرهابية المدعومة من أمريكا وتركيا وبعض دول الخليج، وإجلائها عن ثلثي جغرافيتها. إلى ذلك، تزايدت مخاوف “إسرائيل” الأمنية بعد تدخل روسيا بفعالية لنصرة سوريا ميدانيا وإعادة تسليحها (لاسيما بمنظومات الدفاع الجوي) وقيام إيران بتسليح فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية، ما جعل أحدها، حزب الله، قوة إقليمية بقدرات صاروخية متطورة وبعيدة المدى. ذلك كله، بالإضافة إلى اعتزام أمريكا سحب قواتها من سوريا (وربما اضطرارها إلى سحبها من العراق لاحقاً) ضيّق هامش المناورة أمام “إسرائيل وأضعف دورها الإقليمي، ولاسيما رهانها على تطبيع العلاقات مع دول الخليج.


خامساً: تنامي قدرات أطراف محور المقاومة ودورهم الإقليمي

 

من مجمل التطورات سالفة الذكر يمكن الاستنتاج أن أطراف محور المقاومة، سوريا وإيران وفصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية، ستكون أبرز المستفيدين من تراجع وانتكاس رهانات القوى المعادية لأطراف المحور المذكور، ما يتيح لهم إمكانية توليف تحوّلات واعدة في المشهد الاقليمي على حساب خصومهم الدوليين والاقليميين. ولعل أبرز التحديات التي تواجه هذه التحولات البازغة ثلاثة: إخراج أمريكا نهائياً من سوريا والعراق، وإخراج تركيا من “الناتو” (أو في الأقل تحييدها) فلا تبقى شوكة في خاصرة سوريا والعراق، واستعادة وحدة سوريا وسيادتها مقرونةً بالضرورة بتسويةٍ ديمقراطية للمسألة الكردية في كِلا البلدين.


في ضوء ما تقدّم بيانه يمكن الاستنتاج بأن المشهد الإقليمي ما زال مضطرباً، لكن الخط البياني لقوى المقاومة العربية عموماً يتصاعد باطراد، وأن هامش العمل والمناورة أمام اعدائها يضيق باستمرار. في المقابل يتعمّق الاقتناع لدى قيادات المقاومة بضرورة توسيع دائرة الاشتباك مع قوى الهيمنة الخارجية بمختلف أوصافها وأدوارها، ولاسيما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.