كُتّاب الموقع
الاستقلال : الرواية والتحديات

غالب قنديل

الجمعة 23 تشرين الثاني 2018

تحذف ذاكرة النظام اللبناني كثيرا من الوقائع التاريخية في روايتها عن حقبة جلاء الاحتلال الفرنسي الذي أعطي صفة الانتداب لإكسابه المشروعية في نظر اللبنانيين بعد تقاسم تركة الامبراطورية العثمانية وجميع مصنفات التوثيق والبحث الرسمية وبالذات ما ادرج من خلاصات مجتزأة في مناهج التعليم مكرس لحجب وقائع اوردها بعض الباحثين والمؤرخين وليس تجاهلها وطمسها عملا بريئا بل إنه يبطن غايات سياسية وثقافية نافرة.

خاض قسم من اللبنانيين حرب عصابات فعلية ضد الاحتلال الفرنسي وكان بعضهم شريكا في جبهة نضالية تحررية مع أشقاء من سورية قاتلوا في سبيل القضية نفسها بقيادة سلطان باشا الطرش ورفاقه من قادة الثورة والاستقلال السوريين وشكلوا جميعا جبهة واحدة مترابطة ضد المستعمر وعندما طارد الاحتلال الفرنسي بعضهم في لبنان لجأوا إلى سورية وكانوا في حماية رفاقهم السوريين.

وللأسف تم حذف مؤتمر الحجير بجميع اركانه وشطب أبطال وثوار وقادة كصادق الحمزة وأدهم خنجر وملحم المصري وغيرهم الكثير من المجموعات والأنوية المقاتلة من الرواية اللبنانية الرسمية وتم ذلك عمدا فلم يسقطوا سهوا ولم يخلدوا كما يستحقون كأبطال وطنيين فرضوا على الاحتلال الفرنسي ان يفكر جديا بالرحيل.

شهدت عشرينيات القرن الماضي تبلور حركة مناهضة للاحتلال الأجنبي كانت ممتدة في الأردن وفلسطين وسورية ولبنان وبعض فصائلها انتقلت من مقاتلة المحتل العثماني إلى التصدي للاحتلال الفرنسي والبريطاني في الشرق العربي.

كانت تلك المجموعات مترابطة في نسيجها وعبر رموزها وقياداتها وهي كانت على صلة بسياسيين وزعماء ورجال دين من جميع المذاهب والطوائف ناصروا بكل إخلاص فكرة التحرر من الاحتلال الأجنبي دون أي مساومة أو تنازل ولايرد أي ذكر لمعظمهم ولو بصورة عابرة في التاريخ المعتمد رسميا والذي تم تكريسه لصنف آخر من الاستقلاليين الذين صبوا اهتمامهم على المساومة والمساكنة مع المستعمر واحتفظوا بعلاقتهم العضوية به بعد اضطراره للجلاء.

اليوم نعيش زمن الاستعمار الجديد او المتجدد في سائر انحاء العالم وحيث تستمر الهيمنة الأجنبية بأنماط متعددة من السيطرة التي تناقض فكرة الاستقلال وتتعدد أدوات هذه السيطرة الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية والتقنية التي يمثل التحرر منها شرطا لابد منه لأي تنمية وتقدم في طريق الاستقلال الحقيقي ولأن منظومة الهيمنة الاستعمارية في منطقتنا مركزية التكوين ومحورها الكيان الصهيوني فإن التحرر من الهيمنة يفترض شراكة على صعيد المنطقة بين لبنان وسورية والأردن والعراق وفلسطين على الأقل ويستحيل على أي سلطة لبنانية تخطي هذه الحقيقة التي تنطلق من العلاقة اللبنانية السورية التي يتعامل معها بعض أطراف الفريق الحاكم بعدائية متأصلة تعكس ارتباطات خارجية وخضوعا جذريا للإملاءات الخارجية.

إن سلوك رئيس الحكومة المكلف المتكرر اتجاه السفير السوري في حفل الاستقلال يمثل عينة من عجز ذلك الفريق عن التعامل مع الوقائع من موقع تقديم الحرص على المصالح اللبنانية التي تفرض تطويرا للعلاقة مع سورية للتقدم على طريق شبك المصالح المشتركة وتأسيس الروابط الوثيقة التي تتيح للبنان التقاط الفرص العديدة المتاحة للتنمية الوطنية والاستقلال عن مواقع الهيمنة التي تملي الشروط وتبتز الإرادة السياسية اللبنانية بالقروض والفوائد المتراكمة والحقيقة هي ان سائر اطراف الواقع السياسي خاضعون للابتزاز في هذا المجال من خلال سلوك عام رسمي متحفظ وغير مبادر إزاء العلاقة بسورية رغم استمرار خطوط التواصل والتنسيق التي يحافظ عليها بصورة خاصة مدير عام الأمن العام وامين عام المجلس الأعلى اللبناني السوري.

الضغوط الأميركية الغربية والسعودية المانعة لإحياء العلاقة بين لبنان وسورية ناهيك عن تطويرها تمثل سعيا منهجيا لحرمان لبنان من الفرص المقبلة من النافذة السورية والتي ستكون مفصلا في التاريخ السياسي والاقتصادي للشرق العربي ولمنطقة غرب آسيا ووسطها والفرص المماثلة لا تدوم طويلا وحين يرضخ لبنان للضغوط فهو يفوتها بصورة كلية لأن كل مبادرة متأخرة تسقط نصيبا من العوائد المتوقعة والحلف الأميركي الغربي السعودي سيكون آخر الواصلين إلى دمشق وبالتالي فانقياد السلطة اللبنانية لضغوط هذا الحلف سيعني تفويت كل الفرص وتحويل لبنان إلى ورقة تفاوض وابتزاز في حقيبتي الرياض وواشنطن وعواصم الغرب عموما.

بكل صراحة ومع جزيل الاحترام لمن يخالفوننا في الرأي لسنا في دولة مستقلة ولا في نظام سياسي مؤهل للتحرر من الهيمنة الأجنبية بل نحن في واقع متكيف مع إملاءات الخارج في جميع وجوه حياتنا الاقتصادية والسياسية ولمن يرغب في إجراء فحص علمي لهذه الحقيقة ان يجيب على جميع الأسئلة المتعلقة بعرقلة العلاقات اللبنانية مع روسيا والصين وإيران التي تعرض الفرص والهبات وبداية وبداهة مع سورية وان يفكر بعمق في جواب على السؤال السريالي كيف يرضخ لبنان للعقوبات الأميركية ضد المقاومة التي دحرت الاحتلال وبنت قوة الحماية والدفاع وبرهنت على جدارتها بحمل المسؤولية ولماذا يدير لبنان ظهره لخيارات جديدة تلجأ إليها دول في المنطقة والعالم بدلا من الانصياع للإملاءات التي تناقض جوهر الاستقلال شكلا ومضمونا.




المصدر: وكالة اخبار الشرق الجديد