كُتّاب الموقع
العودة من اسكندرية

د. حياة الحويك عطية

الخميس 18 تشرين الأول 2018

قبل أن تعود سورية إلى موقعها في الجامعة العربية في القاهرة، عادت الدراما السورية الى موقعها على الخريطة العربية في الاسكندرية. واذ أن احتلال سورية صدارة المشهد الدرامي لم يكن جديداً، وفي المهرجانات المصرية تحديداً، إلا أن السنوات العجاف كادت تقول بأنّ دمشق ستغيب أو تغيّب نهائياًَ عن المشهد الفني والثقافي العربي.


قبل أن تعود سورية الى موقعها في الجامعة العربية في القاهرة، عادت الدراما السورية الى موقعها على الخريطة العربية في الاسكندرية. واذ ان احتلال سورية صدارة المشهد الدرامي لم يكن جديداً، وفي المهرجانات المصرية تحديداً، إلا أن السنوات العجاف كادت تقول بأنّ دمشق ستغيب أو تغيّب (بضمّ التاء) نهائياًَ عن المشهد الفني والثقافي العربي، ليحتله باسمها، كما حصل في الجامعة، من تحملهم الاكف القطرية والسعودية والاماراتية، بتكليف أميركي إسرائيلي الى مقاعد سورية وتحت علم نقيض لعلمها الوطني.

في زيارتي الأخيرة لدمشق دعيت الى العرض الخاص لفيلم دمشق – حلب، ووسط الإحتفالية الكبيرة والقاعة المكتظة كنت اسأل: هل أن البطولة المطلقة التي اعطيت للفنان الكبير دريد لحام، ستعوضه كمّ الشتائم القذرة التي تعرض لها على وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فقط لأنه وقف مع وطنه؟ لكن دريد، ومثله المخرج باسل الخطيب وفريقه، لم يكونوا بحاجة الى تعويض، فذاك حصل بانتصار دولتهم، هم الذين ظلوا بين من يحرسون الشعلة عندما كانت كل رياح العالم تجهد في اطفائها. بعيداً عن النقد الفني، الذي يترك لمكان آخر، كان في فم هذا العرض كلمة واحدة: نحن ما نزال هنا، وبخير، وقادرون على اعادة الدراما السورية الى مكانها وبابداع متجدد رائع. في كلمته قبل العرض، قال دريد: بعد هذا الفيلم لم تعد لديّ أحلام. لم أصدقه. لانني لم أرد أن أتخيل أنّه سيموت غداً. وبدون أن يحلم جاءت جوائز مهرجان اسكندرية.

جوائز لا يمكن القول بأنها سياسية ولا يمكن القول بأنها غير سياسية. فليس هناك أدنى شك بأن هذا الفيلم يستحق جائزته، وكذلك الاعمال الأخرى. وذاك ما ينطبق على الكبير دريد لحام وعلى سائر الفنانين الاخرين الذين حصدوا جوائز. لكن الاستحقاق اضحى اخر المعايير في سنوات الظلام الاخيرة. فهل لنا أن نستبشر بان هذه المرحلة قد انتهت؟ وإذ ننتبه الى انها سنوات سبع، فهل لنا ان نعود الى الايمان بقدر التراث: سبع قحط وسبع خصب. هل لنا أن نرى في هؤلاء تموز وبعل وادون والمسيح يعودون من رحلة الموت؟.

بالمعايير المنطقية، سنقول أن ثمّة عرب عملوا على دمار سورية بفعل خقد لانفهم سببه، وهناك من عملوا بفعل ارادة مسلوبة يغطي صاحبها استلابه بسفسطته وابواقه الماجورة الصغيرة، وهناك من عملوا بفعل ميركانتيلية لا اخلاقية (مع الواقف). وهناك من عمل بفعل ايديولوجية ظلامية لا يقتصر طموحها على السياسي بل يؤسس له بالثقافي. وفي كل ذلك كان هؤلاء مجرد وكلاء لقوى اجنبية لها خطتها الواضحة الدقيقة لتدمير سورية الثقافة والمشروع والمجتمع وليس فقط الحجر والبشر. وفي وسط هذا كله كان الفنانون الحقيقيون والمثقفون الحقيقيون يختنقون بطمي مركّب من التفاهة أو ردات الفعل غير الناضجة وقصور الرؤية السياسية الذي كشف خراباً هو ما سهّل نجاح منظومة الهيمنة، اومن الانتهازية والعمالة والخيانة. ورغم ذلك كانوا يقاتلون كي يحافظوا على الحالة الثقافية والفنية الوطنية. كما كانوا يعيشون رعب ان تسيطر ظلامية دينية او تكفيرية تقفل كل منافذ الابداع في وجوههم.

من هنا يمكن النظر الى المستقبل الذي بدأ: الفريق الاول لن يتخلى وسيحاول بوسائل اخرى . الثاني لن يتوقف عن السفسطة وسينتظر اشارات تسمح له بالتحول، وستكون هذه فرصة للحقيقيين المقموعين لديه والذين ينتظرون الفرج. ولعل بشائر هذه الاشارات هي ما بدا في مهرجان الاسكندرية.أمّا الميركانتيليين فسينقلبون كما تنقلب المصالح. أخيراً تبقى المدراس الظلامية الدينية، وهذه قد تجد في السلم فرصتها للتضييق بوسائل لا تقل خطورة عن وسائل الحرب. وبالمقابل سيبقى المخطط الاجنبي جاهزا للعمل في زمن السلم بادوات جديدة تختلف عن زمن الحرب لكنها تستكمله.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، بدات الحرب الباردة – حرب الافكار. لتشطر العالم المنتصر كما المهزوم الى شطرين ولتكون ادواتها الاساسية الثقافة والفنون ( الثقافة بما فيها التربية والتعليم والاعلام ). وكالات اعلام الحرب الاميركية الثلاث حلت، لتحوّل ( بالخبراء انفسهم) إلى وكالات جديدة في خدمة الحرب الجديدة. واحدة منها اصبحت (CIA) . والثانية (RDI) الاخيرة كلفت بالحاق المناطق المحايدة بالمعسكر الغربي، وترأس رئيسها دانيال ليرنر الفريق الملكف بالشرق الاوسط . وظف 1400 باحث للعمل معه على دراسة واقع المنطقة ( سورية الطبيعية وتركيا وايران ) ، وتحويل هذه التقارير الى فريقه الذي انتهى الى وضع خطة تعتمد الالحاق عبر ربط التنمية بالتحديث (النموذج الاميركي للتحديث)  وتطبيق نظرية التقمص الوجداني على الجمهور ، متوجها الى عنصر الشباب الذين اختبر توقهم الى الخروج من سياق المجتمعات التقليدية ، ومعتمدا بشكل اساسي ايضا على الاعلام، الثقافة والفنون  . هذا ما يحصل تماما الان في كل المجتمعات العربية وان كانت الوسائل قد شهدت تطويرا وتحديثا يجعلها اكثر تاثيرا ، خاصة مع تطور التقنيات الحديثة . والصراع القادم لن يكون بين شيوعية وليبرالية كما كان حال الخمسينات، بل بين ثلاثة تيارات:

أولاً: تيّارات تغريبية مخربة (اميركية ويورومركزية وصهيونية متنكرة بكل الاقنعة بما فيها العربي). تعتمد التمكن من التقنيات والتفريغ من المحتوى الوطني، وتسهيل مهمة من يسيرون في هذا الركب، خاصة من الشباب، بالتمويل والجوائز والدعم الاعلامي، خاصة عبر منظمات التمويل الاجنبي.

ثانياً: تيّارات دينية يستدعي بعضها الآخر، ستنتشر على مستوى المعارضة كما على مستوى الموالاة بأساليب مختلفة ، وهي تمتلك أيضاً المال والاعلام والسوق المحلي والعالمي. وما بين هذين، يناضل التيار الثالث، الوطني ( على اختلاف اتجاهاته) المتطلع الى مجتمع تعددي علماني ودولة مواطنة لا سلطة فيها الا للقانون ولا تجذر فيها الاّ للثقافة الوطنية القومية التي تنهل من الاصالة لبناء الحداثة القادرة على الاقناع والجذب.  

وبذا لا يكون الرد على الاستهداف المحتوم، بغض النظر عن الاختراق الاجنبي او العربي المدفوع اجنبيا. ولا بتكريس تكميم ديني تقليدي ، كما هو حال المرسوم 16. ولا بمضاعفة تدابير المنع والردع . لأن الابداع الحقيقي والثقافة الاصيلة القادرة على التحديث في السياق القومي والوطني لا يتمكنان من الفعل لا في ظل هذا ولا في ظل ذاك . الرد لا يكون الّا بتدعيم البدائل الابداعية الحقيقية ووضع خطط واعية حرّة حديثة لتفعيل هذه البدائل وتمكينها من أن تشد جهاز المناعة في وجه السرطانات المستشرسة.

هذا الانتصار الفني السوري الذي سبق السياسة ، يقول بوضوح أن المشروع الفني الثقافي قد ناضل وثبت طوال سنوات الحرب العسكرية، وها هو يثبت انتصاره. لكن الحرب ما بعد العسكرية هي الأصعب، هي الحرب الفكرية – الثقافية التي سيخوضها على الجبهتين: جبهة الاختراق الغربي المتصهين وجبهة التكميم الناعم الذي يتخذ من خلط الدين بالدولة مدخلاً.

لقد جهدت كل الدوائر الغربية والمشبوهة كي تقول ان من يدافعون عن الدولة السورية انما يدافعون عن شخص وعن حكم، وعلى المستقبل أن يثبت أننا بالفعل كنا معا ندافع عن مشروع. مشروع هو الذي أراد مهرجان الاسكندرية تقديره والتضامن معه ودعمه.    




المصدر: الميادين