كُتّاب الموقع
ما بعد “داعش”: مستقبل الحشد الشعبي

مجدي طارق

الخميس 27 أيلول 2018

يدخل العراق منذ الإنتخابات التشريعية، التي جرت في مايو/أيار 2018، مرحلة جديدة تتضمن مهام إعادة بناء الدولة بعد الانتصار على تنظيم “داعش”. هذه المرحلة تتضمن تحديات على مستوى فرض سيادة الدولة، وأهمها ما يتعلق بالجانب الأمني، ومستقبل علاقة الميليشيات بالدولة، وأهم تلك التحديات تسوية ملف الحشد الشعبي في ضوء الصراع الأمريكي – الإيراني على رسم ملامح مستقبل الدولة العراقية.

في هذ الدراسة، سنتناول البيئة التي ظهرت فيها قوات الحشد الشعبي وكيفية نشأتها ومهامها والقوى المنضوية تحتها، ومواقف القوى الإقليمية والدولية وتصورات التحالفات السياسية العراقية لمستقبل قوات الحشد، وسيناريوهات التسوية المحتملة لذلك الملف.

البيئة المحيطة بنشأة قوات الحشد الشعبي

مر العراق، منذ سقوط نظام صدام حسين العام 2003، بتحولات جوهرية على مستوى المؤسسات والبنى الأمنية، فمن دولة كان جيشها يعتبره العراقيون الرابع على مستوى العالم، إلى دولة تنتشر على أرضها ميليشيات طائفية وقومية تنازع الدولة حقها المشروع في احتكار أدوات القمع. فقد ارتكب الحكم العسكري الأمريكي للعراق خطيئة كبرى بتفكيك الجيش العراقي وتسريح ما يقرب على 400 ألف جندي بذريعة تبعيتهم للنظام السابق، وهو ما أدى إلى انتشار ميليشيات سنية وشيعية بالإضافة لقوات البيشمركة الكردية، إذ تهدف جميعها إلى كسب أرضية سياسية عبر “ملء الفراغ” الأمني الذي عانى منه العراق، وهو ما أدى إلى انتشار أحداث عنف طائفية في الفترة ما بين 2006 – 2008.

وواكب ذلك صعود رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي فرض سيطرته وبسط نفوذه على عملية إعادة بناء الجيش وما انطوت عليه من تدخلات شخصية في أدق التفاصيل العسكرية التي وصلت إلى حد التدخل في قرارات تعيين الضباط والقادة، وذلك في مسعى منه لتأمين حكومته من الإنقلابات العسكرية المحتملة، فأدت سياساته، التي استمرت في الفترة ما بين العامين 2006 و2014، إلى بناء جيش ضعيف غير قادر على القتال وحماية الدولة.

تلك السياسات، التي استمرت لعقد كامل، أدت إلى بناء هش للجيش العراقي وهو ما انكشف في انهياره “المهين” صيف العام 2014، وفقدانه ثاني أكبر مدن الدولة، أي الموصل، وفرار جنوده وقادته أمام تنظيم “داعش” مخلفين وراءهم أسلحتهم ومعداتهم وزيهم الرسمي على الرغم من التفوق العددي لصالح الجيش.

نشأة الحشد الشعبي

عقب سقوط الموصل بيد التنظيم وفرار الآلاف من قوات الجيش العراقي، أعلن آية الله علي السيستاني، من خلال ممثله الشيخ عبد المهدي الكربلائي، إن العراق وشعبه “يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الإرهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات فقط، بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفة دون أخرى”،  ثم أضاف “ومن هنا فإن المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية.”

كانت تلك الدعوة بمثابة القوة الدافعة لتشكيل عاجل لجيش بديل بهدف الى التصدي لتنظيم “داعش” وتحرير الأراضي العراقية، حيث تدفق الآلاف للتطوع سواء كأفراد أو كميليشيات شيعية عسكرية. ونظراَ للتجاوب الواسع، قامت الحكومة العراقية، بقيادة المالكي، بتأسيس “مديرية الحشد الشعبي” لتنظيم المتطوعين، وبذلك تحولت الميليشيات الشيعية، التي كانت تنازع الدولة حق احتكار أدوات القمع، من جماعات غير رسمية إلى قوى عسكرية رسمية ترعاها الدولة.

ولفهم طبيعة تشكيل قوات الحشد الشعبي، ينبغي التعامل معها على أنها ليست كتلة واحدة بل تتضمن قوى عسكرية تحمل أجندات سياسية مختلفة، ولكن وحدتها اللحظة السياسية، في منتصف العام 2014. ويمكن تشريح القوى المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي إلى ثلاثة اتجاهات:

    القوى الموالية لإيران، ومنها على سبيل المثال ميليشيات “منظمة بدر، كتائب حزب الله، عصائب أهل الحق”، وترتبط هذه الميليشيات ارتباطاً وثيقاً بالحرس الثوري الإيراني، إذ حصلت على دعم إيراني كبير أثناء المعارك، كما يمكن اعتبارها صاحبة النفوذ الأكبر داخل قوات الحشد، كما أنها كادت أن تورط العراق في الحرب السورية، دعماً للحليف الإيراني، على الرغم من خلافاتها في فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي مع النظام السوري.

    القوى الموالية لمقتدى الصدر، وهي “سرايا السلام”، وتم تأسيسها في يونيو/حزيران 2014، وتعتبر إعادة تأسيس لـ “جيش المهدي” الجناح العسكري لـ “التيار الصدري”، الذي تم تجميده في العام 2008 قبل مغادرة مقتدى الصدر للعراق لمدة ثلاث سنوات. ويمكن إرجاع تأسيسها لرغبة الصدر في لعب دور عسكري في المعركة ضد “داعش” بما يعزز من وزنه السياسي في المجتمع العراقي، وتستند هذه القوة على خطاب الصدر المناهض للنفوذ الإيراني في العراق وتحديداً داخل قوات الحشد.

    القوى الموالية لآية الله السيستاني، وهي المجموعات التي استجابت للفتوى التي أعلنها بالجهاد ضد “داعش” وحماية المقدسات والمزارات الدينية، وتتميز بعدم تبنيها أهدافاً سياسية، وهي تلعب دوراً هامشياً داخل قوات الحشد مقتصراً على تأمين المقدسات والمزارات المقدسة.

ومنذ تشكيلها لعبت قوات الحشد دوراً رئيسياً في تحرير الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم “داعش” خاصة في المراحل الأولى من الحرب. ولحين تعافي الجيش العراقي وتصدره للخطوط الأمامية في المعارك، ومع منتصف العام 2016 تم تنفيذ قرار صادر عن رئيس الوزراء، حيدر العبادي، بتحويل قوات الحشد إلى جهاز موازي لجهاز مكافحة الإرهاب يتمتع بالتدريب والتسليح والتجهيز ذاته ويتم ترتيب مقاتليه وفق التراتيب العسكرية العراقية .

مواقف القوى الإقليمية والدولية

تتباين مواقف القوى الإقليمية والدولية تجاه قوات الحشد الشعبي، وبالتالي حول دعم مسارات مستقبل هذه القوات، وتبني تلك القوى رؤيتها ومواقفها طبقاً لموازين القوى داخل الحشد وارتباط الميليشيات صاحبة النفوذ الأكبر بقوى إقليمية أخرى. هنا، وسنستعرض مواقف أبرز الفاعلين الخارجيين في المشهد العراقي.


الموقف الإيراني: تربط إيران علاقات وثيقة بقيادات الميليشيات الشيعية صاحبة النفوذ الأكبر داخل قوات الحشد، مثل أبو مهدي المهندس وهادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض، وساهمت طهران في تخصيص دعم كبير لها أثناء الحرب على تنظيم “داعش” وظهر اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، مع قادة الحشد في التخطيط لبعض المعارك العسكرية. كما وتسعى إيران أن تحافظ على نفوذها داخله، واستمرار الأخيرة كذراع عسكري لها في العراق في تكرار لنماذج أخرى في المنطقة العربية، مثل حزب الله في لبنان وجماعة الحوثيين في اليمن، أي أنه في غير مصلحتها انصهار الحشد داخل الجيش العراقي، فهي تريد المحافظة على خطوط فاصلة بين الحشد والجيش، مثل العلاقة بين الحرس الثوري الإيراني والجيش الإيراني. ويمكن رصد حرص إيران الشديد على نفوذ رجالها داخل الحشد من خلال موقف الخارجية الإيرانية من قرار حيدر العبادي بإقالة رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، حيث انتقدته ووصفته بـ “القرار الخاطئ”، وهددت بإتخاذ اجراءات لاحقاً.

     

    الموقف السعودي: تنظر الرياض إلى الحشد الشعبي، في ضوء صراعها مع إيران في المنطقة، باعتباره أحد الأذرع العسكرية الإيرانية، وقد سبق وأن صرح وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، بأن الحشد تنظيم طائفي يقوده ضباط إيرانيون على رأسهم قاسم سليماني. وترفض الرياض وجود ميليشيات شيعية مسلحة في العراق، وتربط بين تفكيك وحل ميليشيات الحشد الشعبي وبين المساهمة في جهود إعادة الإعمار بالعراق.

    الموقف الأمريكي: تنظر واشنطن إلى قوات الحشد الشعبي كجزء من التدخل الإيراني في شؤون المنطقة العربية، حيث رفضت التعامل معه في الحرب على “داعش” من خلال رفض توفير غطاء جوي لعناصره. كما أنها أبلغت الحكومة باقتصار تعاونها على الجيش العراقي، وهددت بوقف تعاونها العسكري في العمليات التي يشارك بها الحشد الشعبي، وترى الولايات المتحدة أن مستقبل قوات الحشد الشعبي أما الدمج داخل الجيش العراقي أو التفكيك.

تصورات القوى السياسية العراقية لمستقبل الحشد الشعبي

يمكن تشريح القوى السياسية العراقية الرئيسية على أساس خريطة التحالفات داخل البرلمان في سعي الكتل المختلفة لتشكيل الحكومة، وتتباين تلك الكتل في تصوراتها حول التعامل مع القضايا المطروحة على أجندة الحكومة القادمة، وبالتالي يمكن تحليل الرؤى الداخلية لمستقبل الحشد الشعبي من خلال الكتلتين المتنافستين على تشكيل الحكومة:

    كتلة الإصلاح والإعمار: وهي الكتلة التي تضم سائرون والنصر وتيار الحكمة والقائمة الوطنية بالإضافة لمكونات سُنية وتركمانية وإيزيدية، ويمكن اعتبار تلك الكتلة أقرب في تصوراتها إلى الموقف الأمريكي – السعودي من حيث الدمج الكامل للحشد داخل الجيش العراقي ورفض توظيفه في الساحات السياسية والانتخابية وتبعيته لإيران. وتختلف فيما يتعلق بالطابع العدائي ضد قوات الحشد حيث ترى أن الحشد لعب دوراً وطنياً في تحرير العراق من قبضة تنظيم “داعش” وبالتالي يجب احترامه، وستحظى تصورات هذه الكتلة، التي ترفع شعارات “الوطنية العراقية”، بدعم أمريكي – سعودي فيما يتعلق بالدمج الكامل لقوات الحشد داخل الجيش العراقي وعدم السماح بوجود جيشين عراقيين تسيطر إيران على أحدهما.

    كتلة البناء: وهي الكتلة التي تضم الفتح ودولة القانون بشكل رئيسي واستقطبت العديد من نواب الكتل الأخرى، كالنصر والحكمة والمحور الوطني. وتلك الكتلة تتطابق تصوراتها مع الجانب الإيراني من حيث الحفاظ على خطوط فاصلة بين الحشد الشعبي والجيش العراقي، وتشكل تحالف الفتح، الذي يقوده هادي العامري من قيادات الحشد الشعبي الأقوياء الذين تربطهم علاقات عقائدية بالجانب الإيراني وحظوا بدعم إيراني كامل أثناء الحرب على “داعش” وكذلك في الفترة ما بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة عندما زار اللواء قاسم سليماني العراق وقاد شخصياً بعض الحوارات السياسية لتشكيل كتلة سياسية تضمن الأغلبية البرلمانية لرجال إيران، اي نوري المالكي وهادي العامري.

سيناريوهات مستقبل الحشد

يمكن رصد ثلاث سيناريوهات مستقبلية لقوات الحشد الشعبي وهي تتمحور حول “التسوية الشاملة”، أو “التسوية الجزئية”، أو “فشل التسوية”. وسترجح إحداها وفقاً للكتلة التي ستنجح في تشكيل الحكومة القادمة ونفوذها داخل الحشد وتحالفاتها الإقليمية والدولية، وكذلك تفاعل الطرف الآخر سواء بالتعاون أو عدمه مع تصورات تلك الحكومة:

    سيناريو التسوية الشاملة: والمقصود هنا بالتسوية الشاملة هو قبول جميع الأطراف الفاعلة في المشهد العراقي داخلياً واقليمياً ودولياً لسياسة الحكومة القادمة تجاه قوات الحشد، وهو ما يعني في حالة تشكيل كتلة “الإصلاح والإعمار” للحكومة القادمة وإتباعها سياسة تفكيك الميليشيات المسلحة من خلال عزل رجال إيران عن هيئة الحشد ودمج القوات داخل الجيش العراقي بشكل كامل أن تقبل كتلة “البناء” وإيران تلك السياسة دون تمرد وإشاعة الفوضى.

    سيناريو التسوية الجزئية: والمقصود هنا بالتسوية الجزئية هو أن يبقى ملف الحشد معلقاً دون حسمه بشكل كامل بحيث يستمر دمج قوات الحشد جزئياً كجهاز أمني عراقي، في محاكاة لنموذج الحرس الثوري، وأن يخضع لسلطة الدولة “إسمياً” وتبقى تبعيته الفعلية لإيران من خلال سيطرة رجالها على هيئة الحشد. هذا السيناريو مرجح في حال تشكيل كتلة “البناء” للحكومة، وربما يشهد انسحاب ميليشيات سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر والمتطوعين الذين استجابوا لفتوى مرجعية النجف، آية الله السيستاني، ويعلنوا المعارضة لاستمرار جهاز الحشد الشعبي بعد انقضاء مهمته التي تأسس من أجلها مع بذل ضغط خارجي على الحكومة العراقية من خلال فرض عقوبات، من جانب الولايات المتحدة والسعودية على سبيل المثال، وتعليق جهودهم في إعادة الإعمار لحين تفكيك الحشد الشعبي.

    سيناريو فشل التسوية: والمقصود هنا بفشل التسوية هو تحول ملف الحشد الشعبي الى ازمة منفجرة تبدد آمال إعادة بناء الدولة “ما بعد داعش”، وذلك في حالة صدور قرار من الحكومة القادمة بحل هيئة الحشد الشعبي، ورفض الميليشيات الموالية لإيران الإمتثال للقرار والتمرد عليه، وأن تتحول تلك الميليشيات لنموذج محاكي لحزب الله اللبناني كفصيل عسكري خارج عن سلطة الدولة ومرتبط بالمصالح الإيرانية في المنطقة، وهو ربما ما قد يؤدي لإندلاع موجة عنف مسلحة جديدة داخل العراق قد يترتب عليها تدخلات خارجية عسكرية.

ختاما، يبقى ملف الحشد الشعبي وإعادة بناء المؤسسات الأمنية العراقية وحصر السلاح في يد الدولة فعلياً وفرض سيادتها من أهم التحديات التي ستواجه أي حكومة عراقية قادمة تتبنى أجندة سياسية شعارها “الهوية الوطنية العراقية”، وستصطدم تلك الجهود بالطموحات الإيرانية للسيطرة على بعض العواصم العربية أبرزها بغداد، وعلى الرغم من ظهور بعض المؤشرات حول ضيق الشعب العراقي بالنفوذ الإيراني داخل البلاد من خلال الشعارات المرفوعة في مظاهرات محافظات الجنوب، وتراجع شعبية الحشد الشعبي داخل محافظات ذات أغلبية شيعية، كما ظهر في حرق مقرات تابعة للحشد الشعبي. إلا أن إيران لن تقبل أن تفقد نفوذها داخل العراق دون معركة، وهو ما قد ينبئ بأزمة جديدة مرتقبة داخل العراق، كأحد مراحل الصراع الأمريكي – الإيراني.



المصدر: مركز سيتا