كُتّاب الموقع
باب الصمت ..

رنا الخوري

الثلاثاء 29 آب 2017

يقول ألبرت أينشتاين: "الكون مثل غابات يسودها الصمت، وهي مدعاة للتأمل العميق، ولكنك تخشى منها في ظل عتمة ذلك الصمت الهائل، وتفزع عندما يكسر الصمت بحركة أو رشقة أو رنين أو حفيف أو فرقعة عظيمة .. تحدثها ظروف غامضة .. إن التهيؤات لا شكل لها بتأثير كثافة التشيؤات .. ولكن الأمور تبدو طبيعية عندما يعلن الصمت عن تعبيره بأشكال مستنيرة، فتتوالد أشياء جديدة لم نألفها .. إن اختراقات الصمت قد تأتي في حالة تصوّر الصمت من عدمه، لا غير، فالأصوات تكسر الصمت، ولكن التنوير يعبر عنه .. الكون كله حالة كبرى ولكن الأرض هي حالة معينة من نوع آخر ! ".


الصمت سلاح الحكماء، الذي لا يألفه عامة الناس لأنّ معانيه في غاية العمق. فبالصمت ننفتح على أسرار الدنيا وهو أروع ما فينا من طاقات، لأنه قوة بنّاءة فاعلة لا يدركها إلا الصامتون الأشداء في وجه الضجيج الهدّام.


الصمت روحاني ينتشلنا من عقم وبرودة المادة إلى نضوج الروح، ينفي السطحية العقيمة ويوضح لنا كل صعب... والحكيم هو من سمع ورأى الكثير وتكلم القليل .


الصمت هو عبور الحواس إلى الأعماق،  يفتح الأبواب على مصراعيها لباقي الحواس لتعمل بكل طاقاتها. إنه حكمة وقوة وجمال يوصلك إلى الحق والحقيقة.


يقول فيثاغورس الذي أخذ الحكمة عن أصحاب سليمان بن داود، أنه ينبغي على الإنسان أن يعرف الوقت الذي يحسن فيه الكلام، والوقت الذي يحسن فيه السكوت. وأنّ الصمت أفضل من كلمات بلا معنى .. وكان ينتظر من الطالب الجديد أن يلتزم الصمت، "الصمت الفيثاغوري" مدى خمس سنين. والصمت الفيثاغوري هو أن يتقبل الأوامر من غير سؤال أو مناقشة، قبل أن يُعترف به عضواً كاملاً في الجماعة، وقبل أن يُسمح له بأن "يرى" فيثاغورس أي أن يدرس عليه. وتنفيذاً لهذا النظام كان التلاميذ يقسمون إلى طلاب خارجيين وطلاب داخليين، وكان الداخليون هم الذين يحق لهم أن يعرفوا الحكمة السرية للمعلم نفسه.


إن مدرسة كروطونا، وهي المدرسة الفيثاغورية الأم، تطورت فيها الرياضيات نحو مأزقها المتمثل في اكتشاف العدد الأصم الذي هز مصداقيتها ومعقوليتها، فهي لم تكن قادرة على استيعاب اكتشافها لأنها أدركت أن ذلك يقتضي إجراء مراجعة جذرية لكامل نسقها الفلسفي. فاختارت أن تكون صماء أمام خبر إعلان اكتشاف الأعداد الصماء، بل الأكثر من ذلك أعلنت "قانون الصمت" مهددة كل من يفشي السر ضماناً لتماسك الجماعة، وتحكي الرواية أن شخصاً يدعى "هيباس" قد أعدم لأنه أخرج المعضلة إلى خارج أسوار المدرسة، وأعلن شكوكه في العقيدة الفيثاغورية. ومن هنا، ينعت كل شخص صامت ولا يبوح بما لديه بأنه فيثاغوري التوجه!
الصمت يساعدنا على استعادة التحكم بحياتنا، ومراجعة أنفسنا ومعرفة حكمة الله من وجودنا على هذه الأرض. الصمت .. طريقنا إلى الله !


الصمت فضيلة أوصى بها الصالحون، يساعدنا على فهم الآخر والتغافل عن زلاته... أرسل أحد الحكماء لهملايا ويدعى بودهي دهارما من قبل معلّمه إلى الصين لينشر رسالة التأمل، مكث هناك أربعة عشر عاماً حيث أصبح له آلاف المريدين ... تقدّم في العمر وأراد العودة إلى موطنه حيث بإمكانه الآن الذوبان في الثلوج الأبدية للهملايا. دعا أربعة فقط من مريديه وقال "أريد أن أسأل سؤالاً واحداً لا غير وسيكون خليفتي من يتمكّن من الإجابة عليه ... ما هو جوهر تعاليمي؟


ساد صمت وترقّب ... نظر الجميع إلى المريد الأول والذي كان يعتبر الأكثر علماً والأوسع اطلاعاً حيث قال "يمكن ببساطة التعبير عن جوهر تعاليمك بتجاوز الفكر والمضي أعمق منه".


فقال الحكيم "حصلت على جلدي فقط، أما أعمق من ذلك، فلا".


انتقل إلى المريد الثاني الذي قال "لا يوجد فرق بين من تجاوز الفكر ومن يتوجب عليه تجاوزه، المهم في الأمر أنّ الصمت هو الأساس والجوهر، هذا هو جوهر ما علمت".


قال الحكيم "حصلت على عظامي".


توجّه الحكيم إلى المريد الثالث الذي قال "جوهر علمك أنه غير قابل للوصف".


ضحك الحكيم وقال "لكنك عبرت عنه ووصفته بشيء ... لقد قلت شيئاً ... لقد حصلت على لب عظامي".


توجّه الحكيم أخيراً إلى المريد الرابع الذي لم يمتلك سوى الصمت والدموع ولا أجوبة ... ثم سقط على قدميّ المعلم ... وقبل على أنه الخليفة رغم أنه لم يجب بشيء !


الصمت علّته سر، سرُّ شيء سيظل محجوبًا .. الصمت علَّته الحق، وحق الحق .. إنه السرُّ، سرٌّ يكتفي بالسر...