كُتّاب الموقع
على طريق لبنان جديد

جوني منير

الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

دخل لبنان لتوّه مرحلة جديدة على أنقاض الحرب المدمّرة التي اقتلعت كثيراً من بلداته وقراه وأحيائه السكنية، وفق اتفاق تمّ الإعلان عنه من بيروت وتل أبيب وواشنطن وباريس، وهو ما يعكس طابعه الإقليمي والدولي في آن معاً، وكمؤشر للعمل على تأسيس معادلة إقليمية جديدة جاري العمل على صوغها وهندستها.
 
وجاء تعليق مايك والتز والذي اختاره الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ليكون مستشار الأمن القومي في إدارته، الأكثر وضوحاً في هذا الإتجاه، إذ أنّه اعتبر أنّ هنالك لحظة متاحة الآن لصوغ ترتيبات قادرة فعلاً على توفير الإستقرار في الشرق الأوسط، ومبنية على التوازنات الميدانية الحالية. وفي حين اعتبر عدد من المراقبين بأنّ مرحلة الشهرين تبدو شديدة الحساسية والخطورة كونها ستشكّل مرحلة اختبار للنجاح في تطبيق الإتفاق، في وقت بدت بعض البنود وكأنّها تفتقد إلى الوضوح حيال آلية التطبيق، وكذلك غياب بنود أخرى أساسية كمثل موضوع أسرى «حزب الله» لدى إسرائيل. لكن البعض الآخر اعتبر أنّ هذا الغموض كان مقصوداً، والهدف منه حجب تفاهمات أخرى أكثر أهمية وتمّت حياكتها مع أطراف أخرى، واتُفق على أن تبقى سرّية. ولم يكن مفاجئاً ما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» نقلاً عن مسؤول في إدارة بايدن، بأنّ العاصمتين الأميركية والإيرانية تبادلتا رسائل بنحو منتظم قبل التوصل الى إتفاق وقف إطلاق النار في لبنان. ولم يكن أيضاً محض مصادفة أن تعلن الحكومة الإيرانية يوم الثلاثاء، وتزامناً مع الإعلان عن وقف النار، استعدادها للتفاوض مع واشنطن ودول غربية، ولو أنّها غلّفتها بشرطي إثبات الثقة والإلتزام بأوامر المرشد. واستطراداً فإنّ السؤال المركزي يبقى حول الدور الذي لعبته طهران للوصول إلى ما نحن عليه الآن. لكن قبل التطرّق إلى الدور الذي لعبته طهران وكذلك دمشق، فلا بدّ من التوقف أمام بعض الإشارات التي واكبت إعلان الهدنة. ذلك أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والذي بدا في كلمته المخصصة لسكان الشمال وكأنّه ينتقي تعابيره، وجّه رسالة حازمة إلى الرئيس السوري قائلا إنّه «يلعب بالنار». وبعد الإنتهاء من كلمته أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على المعابر الحدودية اللبنانية ـ السورية، ما جعل جميع المعابر الحدودية خارج الخدمة، في ما يشبه الرسالة الملحقة للرسالة التحذيرية. وجاء التفسير بأنّ على سوريا الإلتزام بقرار قطع طرق الإمداد العسكرية لـ«حزب الله». في الواقع دار همس في الأروقة الديبلوماسية خلال الأسابيع الماضية، عن أنّ دمشق وبتشجيع روسي التزمت بضبط الطرق البرية التي تصل إلى لبنان.
 
وفي وقت بدأت تُسمع كلمات إيجابية عن دمشق في العواصم الغربية، وعن البحث في فك القيود الإقتصادية عنها، نقلت أوساط إعلامية عربية عن وجود «عتب» إيراني على النظام السوري بسبب معبر القصير. ويأتي تحذير نتنياهو حول «اللعب بالنار» من باب الإشارة الى أنّ «الخربطة» ستكون قاتلة. وفي الاتفاق ذلك البند المثير للجدل حول «حق كل طرف في الدفاع عن النفس». وهذا البند الغامض والمفتوح على التأويل فسّرته إسرائيل على أنّه امتلاكها الحق في التحرك عسكرياً ضدّ أي تهديد ضدّها، بعد إبلاغ لجنة المراقبة الدولية وفي حال عدم تحرك هذه اللجنة. يُذكر هنا أنّ ضابطاً أميركياً رفيعاً تابع لـ«السينتكوم» سيتولّى رئاسة هذه اللجنة، ما يجعل الجنوب تحت إشراف عسكري أميركي دائم وعلى مدار الساعة، أي أنّ النفوذ الإيراني والذي كان غير مرئي في الجنوب، تحول إلى إشراف عسكري أميركي مباشر وعلى مدار الساعة وبموافقة إيرانية. والملاحظة الأهم أنّه أصبح يمتلك بيده قرار «المعاقبة» العسكرية كبديل عن المهمّة التي كان من المفترض أن تتولاها قوات «اليونيفيل»، وحيث طرح أحياناً أن تعمل تحت الفصل السابع. وهذا ما يعكس «مناغشة» ولو من بعيد بين الأميركيين والإيرانيين. كذلك كان لافتاً أن يتطرّق بايدن في كلمته حول وقف النار في لبنان إلى غزة، وعلى اعتبار أنّ ما تحقق في لبنان سيفتح الباب أمام إنجاز مماثل في غزة. وحتى نتنياهو لمّح إلى ذلك ولو بطريقة أخرى. لكن الملف الأبرز في غزة يبقى ملف الأسرى ومن بينهم 7 يحملون الجنسية الأميركية. فهل هنالك من يراهن على ربط مصير أسرى وجثامين مقاتلي «حزب الله» بالأسرى الموجودين مع «حماس»؟
 
وعن الشرق الأوسط تحدث ترامب مراراً عن واقع اقتصادي كبير ستكون في صلبه المملكة العربية السعودية، والتي حرصت على رغم من كل شيء على إبقاء علاقاتها الرسمية مع إيران جيدة، لا بل مع السعي لتطويرها، على رغم من أنّ الإعلام المحسوب على الطرفين كان يقف على طرفي نقيض، خصوصاً خلال الحرب الدائرة في لبنان. كل هذه الصورة توحي أنّ الشرق الأوسط الجديد جارٍ رسمه، وأنّ وقف النار في لبنان يشكّل محطة في هذا المسار. ولأجل ذلك يستوجب إزالة خطوط التماس الإقليمية من الساحة اللبنانية، وهو ما يعني الركون إلى الأحجام السياسية والشعبية وترك الأرض والقرار العسكري للجيش اللبناني وحده دون سواه. لكن التوقف هنا سيكون قاتلاً، ما يعني وجوب استكمال دفع المركبة اللبنانية في الإتجاه نفسه، والمقصود هنا إعادة إطلاق عجلة الدولة اللبنانية تماماً كما قال الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في إطلالته الأخيرة، بالذهاب الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتحت سقف «اتفاق الطائف»، أي من دون المساس بالمعادلة العريضة التي تمّ تركيزها يومها ووفق توازنات الحكم القائمة. لذلك أرسلت باريس، بعد أن تعزز دورها من خلال اتفاق وقف إطلاق النار، موفدها الرئاسي جان إيف لودريان إلى بيروت بعد طول غياب، وهو المكلّف الملف الرئاسي اللبناني. ومن المنطقي الإستنتاج أنّ إعادة تشكيل السلطة بهدف ضخ الحياة فيها وإطلاق عجلاتها لا بدّ من أن يكون متجانساً مع التوازنات التي خلصت إليها الحرب. وهو ما يعني أنّ ثمة تفاهمات كثيرة ستُحاك في الكواليس. في المقابل، سيستعد «حزب الله» لتجديد انطلاقته في ثوبه الجديد.
 
وكما قال امينه العام نفسه، أي كقوة شعبية وسياسية كبيرة. مبدئياً سيُقدم الحزب على ورشة إعادة تنظيم نفسه داخلياً، وإجراء تعيينات شاملة مستفيداً من إعادة قراءة دروس المحنة القاسية التي مرّ فيها، وبالتالي إعادة نسج استراتيجية جديدة للتعاطي مع المرحلة المقبلة. وهو سيعيد إبراز قوته الشعبية في تشييع رمزه التاريخي السيد حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية، وبحيث تشكّل هذه المحطة وثبة لانطلاقته الجديدة، وفي انتظار الإنتخابات النيابية التي سيخوضها لتوسيع كتلته النيابية إلى الحدّ الأقصى. لكن قبل كل ذلك، ثمة فترة اختبارية لواقع الميدان تمتد لشهرين وتنتهي بعد 5 أيام من تسلّم دونالد ترامب مهمّاته الرئاسية. وعندها من المفترض أن يكون الملف النووي الإيراني قد تمّ فتحه على مصراعيه طالما أنّ الخطوط باتت مفتوحة بين طهران وإدارة ترامب، ومع ما يحمله من حلول لما تبقّى من حرب غزة وشطب العقوبات الإقتصادية وإعادة رسم سياسة إقليمية جديدة لطهران في المنطقة لا تقوم على مبدأ «تصدير الثورة». لكن توقف إطلاق النار في لبنان وعلى إيجابيته الكبيرة، كشف الخراب الكبير والكوارث الإقتصادية والإجتماعية لدولة تحلّلت مؤسساتها بسبب نزاعات إقليمية مزّقت كل بنية الدولة. ما يعني أنّ الدفع الذي سينتج من انتخاب رئيس جديد للجمهورية لن يكون كافياً من دون دعم كبير خصوصاً من دول الخليج العربي، والتي بدورها لم تعد تؤمن بالدعم المجاني بل بدعم مقابل خطوات سياسية. قد يكون وقف النار الخطوة الأولى في طريق الألف ميل الطويل أو في طريق بناء لبنان جديد.
 
 
 
المصدر: الجمهورية