كُتّاب الموقع
عبد الناصر ظاهرة تاريخية لايمكن إستعادتها في عصر الإنحطاط

د. عصام نعمان

الأربعاء 25 تموز 2018

تساءلت قبل ان أقرأ كتاب "جمال عبد الناصر: الحلم والحضور" (*) ما دافع مؤلفه هاني سليمان الحلبي الى إنتاجه ؟ هل هو فعل تكريم في الذكرى المئوية لولادة القائد التاريخي ام تعبير عن حزن عشيةَ مرور نحو خمسين سنة على غيابه الفاجع ؟ هل هو للبرهان على قدرة المصريين وسائر العرب على إستعادة هذه الظاهرة في زماننا ؟


    الجواب وقعتُ عليه في إهداء الكتاب كما في تحليلاته المعّمقة وباقة توصياته في الخاتمة . الدافع مزدوج:
-    "تحية الى الرجال والنساء الناهضين، العاملين بصبر وعزم لوحدة الامة وحريتها ، ولاسيما رجال المقاومة ونساءها ، احياء وشهداء".


-    "فسحة نقاش محبّ لغلاة العقائد والأفكار ودعوة للنقد الذاتي والتصويب وتوسيع المشترَك وتعميقه لنكون معاً مثالاً يستحق الإنتصار".


في أثناء قراءة الكتاب تأكدت من صدق دعوة الكاتب وجدّية السعي الى تحقيقها . ذلك ان المؤلف ، الذي اسمح لنفسي بتوصيفه باحثاً خلدونياً ، اعتمد منهجيةَ رائد علم الإجتماع السياسي العربي والعالمي عبد الرحمن ابن خلدون في مقاربة الواقعات والظاهرات التي انطوت عليها شخصية جمال عبد الناصر في حلمه وحضوره. اجل ، كتاب هاني سليمان الحلبي هو ، بحق ، دراسة رائدة في تاريخ التجربة الناصرية في منظور اقتصادي اجتماعي خلافاً لدراسات وتحقيقات سابقة كانت في معظمها عبارة عن رواية او تسجيل لواقعات سياسية وعسكرية فحسب.


الى ذلك ، كنتُ ظننتُ ، عندما تفرّست في فهرس الكتاب ، ان باقة التوصيات في خاتمته هي خلاصة الدروس والعِبَر والنصائح التي يودّ المؤلف تزجيتها الى جمهور القراء كما الى اهل الرأي والقياديين والمقاومين "الناهضين العاملين بصبر وعزم لوحدة الامة وحريتها" وفق ما جاء في صفحة الإهداء  لأكتشف انها توصيات موجهة ، بالدرجة الاولى، الى الباحثين المهتمين بمقاربة موضوع عبد الناصر او سواه من الموضوعات والقضايا الاساسية والإستراتيجية في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.


في باقة التوصيات يشرح هاني سليمان الحلبي اسلوبه المعتمد في تأريخ التجربة الناصرية وتحليلها (ومقاربة قضايا وموضوعات مشابهة) من حيث التدرج  في التحليل من عرض خصائص الاقليم المصري الطبيعي ، وخصائص البناء الإجتماعي والنفسي المصري لرصد علاقات التأثر والتأثير المتبادلة بين الاقليم والخصائص النفسية للشعب في النمط القيادي الناصري.


في تحليل النهج القيادي الناصري نقع على ظاهرات لافتة ابرزها مركزية الدين الإجتماعية والسياسية وبالتالي انتشار التفكير الغيبي ، وتبؤ النزوع الديني والإستجابة له مرتبةً عالية عند المصريين ما ادى الى اجتماع سلطة الدين والسياسة لدى القائد المصري على مرّ العصور وتكريس اتوقراطية مطلقة متوارَثَة في الأسر الحاكمة.


يلاحظ المؤلف ايضاً ان السيطرة المطلقة للمؤسسة الدينية واضطرار السلطة السسياسية الى مراعاة ذلك أسهم في تكوين استنقاع وطني عام ، اصبحت معه "دعوة التجديد هجينة ومساعي التطوير والتغيير مستنكرة او مستغربة". نجم عن ذلك تقديس السلطة وتعظيمها وتقديس القائد وتعظيم شخصه ما ادى الى خلو الواقع المصري عموماً من حراك تغييرٍ يخلق دينامية منتجة (راجع الصفحات 43-55).


يستشهد المؤلف بظاهرة لفتت ابن خلدون في زمانه مفادها ان السلوك المصري التقليدي والنزوع المحافظ على الموروث بتدينٍ اولي وفطري قد يولدان تسليماً وسكوناً ، مدللاً على ذلك بملاحظة ذات دلالة : "ثمة بُلدان لا يعرف القلق منها سبيلاً الى قلب السلطان لندرة الثورات فيها. ففي مصر، مثلاً ، لا تجد غير السيد المطاع والرعية المطيعة . تكررت هذه الفكرة في رأي احمد حسين ، زعيم ومؤسس حزب "مصر الفتاة" وأحد مُلهمي عبد الناصر، بقوله : "أدى (عبد الناصر) دوره في حياة مصر كحاكم مطلق، وهو ليس اول حاكم مطلق في تاريخ مصر ولن يكون آخرهم ، فالشعب المصري اسلس الشعوب انقياداً للحاكم وهو يغري دائماً حكامه بل يدفعهم الى الإنفراد بالحكم ويحوّلهم الى طغاة مستبدين " (صفحة 127).


بعكس ما يوحي به هذا الكلام ، لم يكن عبد الناصر فرعوناً مستبداً . صحيح انه ابن مجتمعه وموروثاته الثقافية والإجتماعية ، لكنه تمكّن بوعيه وكفاءته ورؤيته الثاقبة الى واقع وطنه والتحديات التي تواجهه من تخطي هذه المعوّقات وان يعلن : "نجتمع معكم لنضع التقاليد الجديدة لمستقبل الوطن(...) الحرية التي نسعى اليها تبدأ من تحرير الفكر اولاً ، وهي الحرية التي تُبنى على الكرامة وتحرير الفرد والرزق ، والتي لا يمكن لأي فرد ان يستبدّ بإسمها ، لأنها تدعو الى المُثُل العليا" (صفحة 130).


ولا تحجب شعبيته الكاسرة عن ناظريّ عبد الناصر متطلبات الواقع فتراه يعلن في خطابٍ له في مدينة حلب بتاريخ 1960/2/18 : "إن اي نظام ثوري يستند الى الجماهير وحدها لا يكفي . لا يكفي ان يكون الشعب وراءه راضياً ومؤيداً ، إنما يحتاج الى اكثر من ذلك. يحتاج الى ان يكون الشعب امامه موجهاً وقائداً " . وعملاً بهذا المفهوم ، اعتبر نفسه مسؤولاً عن هزيمة 1967 فتنحّى مفسحاً في المجال امام الشعب ليولي غيره مهمة القيادة.


هذه السلوكية الوطنية الغيرية لا تشفع لعبد الناصر عند باحثين كثر اخذوا عليه ابتعاد نظامه عن الديمقراطية البرلمانية وتركيزه السلطة في شخص الرئيس القائد ومراكز قوة غير منتخبة. هاني الحلبي يتصدّى لهؤلاء مُذكّراً بأن ديمقراطية صندوق الإقتراع وحدها في غياب المجتمع المدني ومؤسساته هي ديمقراطية عاجزة عن تطوير الدولة كما عن تعميق وعي المواطن . هذا التخلّف في وعي الشعب وادراكه لمسؤولياته الوطنية والإجتماعية والتلذذ بشقشقة الكلام دفعت عبد الله القصيمي يوماً الى وصف العرب ، وليس المصريين فقط ، بأنهم "ظاهرة صوتية"!


لا يتوانى المؤلف عن تحديد مواطن الضعف في التجربة الناصرية وتعداد اخطاء قائدها في ميادين وازاء تحديات عدّة ، لكنه يبقى متوازناً في التحليل والتقييم اذ يحرص على ابراز انجازات ثرّة حفل بها سجل عبد الناصر القيادي، وهي انجازات تاريخية بكل المعايير الموضوعية ، ليس اقلها:


-    بناء السيد العالي ، وهو اضخم سد في العالم .
-    اطلاق ثورة صناعية ولاسيما في ميدان التصنيع الحربي.
-    تطبيق مجانية التعليم ومحاربة الأميّة وإقرار حقوق المرأة.
-    ابرام اتفاقية الجلاء البريطاني عن مصر العام 1955.
-    تأميم قناة السويس العام 1956.
-    اقامة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا 1958.
-    الإسهام الرئيس في تأسيس حركة الحياد الإيجابي ومن ثم منظمة عدم الإنحياز.
-    تحقيق الإصلاح الزراعي وتحديد الحد الادنى للرواتب.
(راجع الصفحات 256-254).


    غير ان إنجازه الأعظم ، بحسب السجين السياسي السابق شريف حتاته، هو "أن العالم لن يرى مرّة اخرى خمسة ملايين من الناس يبكون معاً".


     قد يتساءل القارىء : هل تسليط الكتاب الأضواء على الجوانب الحية من تجربة عبد الناصر محاولة لزرع الإعتقاد بأن بالإمكان استعادتها في زماننا ؟


     جوابي: إن جمال عبد الناصر ظاهرة تاريخية فريدة يصعب تكرارها ، ولاسيما في زمن القنوط والحبوط والإنحطاط العربي الراهن.