كُتّاب الموقع
تركيا إلى أين؟

سركيس أبوزيد

الثلاثاء 3 تموز 2018

اتجهت مؤخراً الأنظار الى الانتخابات التركية التي جرت في 24 حزيران، وقبل نحو عام من موعدها الطبيعي، بوصفها حدثا مفصليا وستؤثر نتيجتها في مستقبل تركيا خلال السنوات الخمس المقبلة على الأقل. وهي الانتخابات الأولى التي جسدت انتقال تركيا الفعلي من النظام البرلماني التشريعي إلى النظام الرئاسي التنفيذي، ما يكسبها أهمية قصوى في تحديد صورة الوضع السياسي التركي في هذا الانتقال المفصلي، الذي حمل معه انتخابات ثنائية ومعقدة، بل مثيرة، لكونها شملت انتخاب رئيس للجمهورية، وانتخاب أعضاء البرلمان البالغ عددهم 600 عضو في الوقت ذاته، وللمرة الأولى في تاريخ تركيا الحديث.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نجح في اجتياز كل الاحتمالات الصعبة التي شكلت تحديات له في هذه الانتخابات، من جهة نال أكثر من 50% زائداً واحداً من اصوات المقترعين لرئاسة الجمهورية، ما أهّله للفوز بالرئاسة من الجولة الاولى. ومن جهة ثانية نال "تحالف الشعب"  الذي يضم حزبه وحزب "الحركة القومية" 343 مقعداً من أصل 600 مقعد في البرلمان، أي الغالبية.

في مقابل، هناك قراءة مغايرة تفيد أن حزب أردوغان فقد الغالبية النيابية، كون عدد المقاعد التي حصدها هذا الحزب منفرداً، ومن دون "الحركة القومية" حليفه الانتخابي وليس العقائدي، هو 297 مقعداً، أي ما دون عتبة الغالبية، وبالتالي فإن رئاسة أردوغان مرشحة لأن تواجه لعبة تجاذب وشد حبال مع البرلمان، تدخل تركيا في أزمة عدم تجانس بين مؤسسات الحكم.

وثمة إخفاق آخر في الانتخابات البرلمانية اصاب نصر أردوغان الرئاسي، ومفاده نجاح "حزب الشعوب الديمقراطي"، في تجاوز عتبة الفوز ( 10%)، ما أھّله لأن يصبح أحد أحزاب البرلمان ( نال 65 مقعداً).

لكن، أردوغان البارع في إدارة مشروعه السياسي ولعبة الانتخابات وتصفية الخصوم، تبدل سريعاً،  حيث واجهت سياساته الخارجية إخفاقات نتيجة ما أصاب قوى الإسلام السياسي التي رعاها ولا يزال في مصر وسوريا وليبيا في السنوات الخمس الأخيرة. ونتيجة اندلاع الحروب الأهلية والفوضى التي ضربت الإقليم من مشرقه إلى مغربه. كلها عوامل أعاقت طموحاته التوسعية، السياسية والاقتصادية. وهددت دور بلاده ونفوذها. وأطاحت مبدأ "تصفير المشكلات" في السياسة الخارجية ليحل محله كم من المشكلات مع الجيران الأقربين شرقاً وغرباً وجنوباً.

فحين جاء "الربيع العربي"، حمل "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في عدد من الدول العربية، فبدا النظام التركي حينذاك نموذجاً يحتذى. هنا بلغت طموحات إردوغان العثمانية نقطة الذروة، غير أن الانتكاسة التي شهدتها تلك "الثورات"، خصوصاً بعد سقوط حكم "الإخوان" في مصر وصمود النظام السوري، سرعان ما أطاحت هذه الطموحات ونحتها جانباً.

 وحين وقع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، بدا نظام إردوغان ذاته في مهب الريح وغير قادر على الصمود في وجه ما اعتبره البعض "ثورة مضادة"  لإجهاض أحلام الربيع العربي. ومن الطبيعي، أن يبدو قرار إردوغان اللجوء إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة كأنه محاولة ليس فقط لتأكيد شرعية نظامه المنقوصة في الداخل التركي وإنما أيضاً لاستعادة دور تركيا المتأكل على الصعيد الخارجي والولوج إلى حلبة المنافسة الإقليمية المحتدمة، مع كل من إيران و"إسرائيل"، لوراثة تركة نظام عربي راح يدخل بالفعل في غيبوبة الاحتضار.

والسؤال هنا، أي حكم لـ "السلطان أردوغان"؟ وأي مستقبل لتركيا؟!

في الواقع، أدت قيادة إردوغان إلى ظهور عدة أزمات أبرزها:

- الأولى  سياسية : تركيز السلطة في الرئاسة،  تسبب في خلل بالتوازن المؤسسي وتغييب تعددية المشهد السياسي التي كانت سائدة .
- الثانية مسألة الهوية، والتي تجلت على نحو فاحش في إخفاق حكومات متعاقبة في أنقرة على امتداد أربعة عقود في إقرار أسلوب تعايش مع الأكراد الذين يشكلون 15% على الأقل من سكان البلاد.  

- الثالثة، تتعلق بالتطلعات التركية في أعقاب نيل العضوية الكاملة بالاتحاد الأوروبي. حيث تبدو تركيا أبعد عن هذا الهدف أكثر من أي وقت مضى.

- أخيراً، خلق إردوغان أزمة رابعة  ذات طابع اقتصادي، من خلال خلق سحابة من الشكوك فوق الخيارات السياسية التي قد يتخذها بمجرد فوزه في الانتخابات ما أدى إلى تراجع في الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2010. بينما فقدت العملة التركية، الليرة، قرابة ثلث قيمتها مقارنة بسلة العملات العالمية، ويعتبر معدل النمو السنوي للاقتصاد التركي حسبما توقع البنك الدولي الأدنى منذ عام 2008 في ظل تنامي المخاوف من حدوث ركود.

- كذلك خلق إردوغان أزمة خامسة على صعيد علاقات تركيا مع دول حلف "الناتو" وخاصة الولايات المتحدة. من خلال تدخل قواته في الحرب السورية بصورة أثارت في لحظة ما المخاوف من الدخول في صدام مباشر مع القوات الأميركية التي تعاون الكرد السوريين على تعزيز سيطرتهم على مناطق بعينها. فوجد إردوغان نفسه مجبراً على محاولة التودد إلى الروس الذين شكلوا عنصراً فاعلاً مهماً هناك. وأدى ذلك بدوره إلى توسيع الفجوة بين تركيا من ناحية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.
     
وإذا كان أردوغان استعجل تقديم الانتخابات من أجل التسلح بشرعية واضحة بعد تحويله النظام إلى رئاسي، فإن ذلك لن يبدل في موقف نصف الشعب التركي المعارض.كما ان  فوز أردوغان في هذه الانتخابات سيؤدي ليس فقط إلى إعادة تجديد شباب حقبة أردوغانية كانت قد بدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة، ولكن أيضاً إلى تحويل تركيا إلى رقم صعب في نظام دولي متبدل.  تركيا بعد هذه الانتخابات ستكون مختلفة كثيراً عما كانت عليه قبلها: لاعب إقليمي  فاعل، أو دولة قابلة للانزلاق  نحو مصير الدول الفاشلة  في المنطقة، وهي كثيرة.



 

 


 (ان كافة الآراءَ الواردة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع)