كُتّاب الموقع
"طوفان الأقصى" والشراكة الأميركية الإسرائيلية

بثينة عليق

الخميس 19 تشرين الأول 2023

قضية العلاقة الأميركية الإسرائيلية ليست جديدة، ولكنها تفرض نفسها في الكثير من المحطات المتعلقة بأحد طرفيها. عند كل حدث، تبرز الحاجة لإعادة التذكير بخصوصية هذه العلاقة وطبيعتها وأبعادها. موقف الولايات المتحدة الأميركية الأخير منذ "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر يشكل نقطة مفصلية بحسب غالبية المحللين والمتابعين. لم يكن هذا الموقف متبنّياً وداعماً كالعادة، بل ذهبت واشنطن إلى التماهي والانخراط المباشر في دماء الفلسطينيين.
 
أعلن الرئيس الأميركي بايدن دعمه المطلق وغير المحدود. وزير خارجيته أعلن أنه يأتي إلى "إسرائيل" كيهودي، وأكد "حقّ، لا بل واجب إسرائيل"، بما سماه الدفاع عن نفسها، هو ما يعني "حقّها، لا بل واجبها"، بقتل الفلسطينيين وإبادتهم.
 
وصول الدّعم إلى هذا المستوى هو -إضافة إلى إدراك واشنطن حجم المأزق الإسرائيلي- وليد مسار تاريخي طويل تتداخل فيه عوامل عديدة. التقرير الذي حضر على طاولة جورج بوش الأب فور وصوله إلى البيت الأبيض عام 2001، والذي حمل عنوان "الملاحة في بحور مضطربة"، يوضح الكثير على هذا الصعيد.
 
في مقال شهير للصحافي العربي الكبير محمد حسنين هيكل في أيلول/سبتمبر 2001 تحت عنوان "تقرير رئاسي أميركي... خريف خطر"، نشر هيكل أجزاء من هذا التقرير الذي حدد الخطوط العامة للسياسة الأميركية في العالم، وتضمن توصيات مستشاري الرئيس فيما يخص الشرق الأوسط، ومنها:
 
"عليك أن تهتم بتقوية قواعد ووسائل عملك في الشرق الأوسط.. عليك أن تعرف أن إسرائيل هي الركيزة الأولى لضمان أمن الإقليم، والتحالف الأميركي مع إسرائيل بالفعل والقول هو القاعدة المتينة لكل الخطط والسياسات والحقيقة، وقوة الشراكة بين البلدين هي أداة الفعل الرئيسية في المنطقة.
 
عليك تحقيق الاستفادة القصوى من هذه الحقيقة الاستراتيجية، وأن تكفل لإسرائيل تفوقاً نوعياً متجدداً طول الوقت على كل الأطراف العربية. وهنا، عليك أن تقاوم وترفض بشدة كل محاولة من جانب أي طرف عربي يطلب أو يسعى للتساوي مع إسرائيل".
 
يعبّر التقرير عن "معنى إسرائيل" لدى الأميركيين. هذا المعنى تشكل نتيجة عوامل عديدة لا بد من التذكير بها دائماً حتى لا تلتبس الأمور وتخطئ التقديرات والتحليلات، وأبرزها:
 
أولاً: العامل الديني
 
 
كما هو معلوم، فإن الولايات المتحدة الأميركية تعتمد في مشروع همينتها على العالم الوسائل العسكرية والدبلوماسية والمالية، إلا أن البعد الديني يحضر مؤثراً، وبفعالية، في المواقف والسياسات الأميركية، وخصوصاً في الشرق الأوسط.
 
هذا ما يؤكّده كتاب "أميركا في الشرق الأوسط منذ 1776 حتى اليوم" للكاتب مايكل بي أورين الصادر عام 2007. يفرد الكاتب أحد فصول كتابه للحديث عن تأثير الإيمان والدين في تحديد مسار العلاقات الأميركية في منطقتنا بعد الحرب العالمية الثانية.
 
يظهر الكتاب أن الكاثوليك واليهود أدوا دوراً نشطاً في تحديد مسار هذه العلاقة، إلا أن السيطرة كانت للنفوذ البروتستانتي، ويتحدث عن مغادرة أول المبشرين البروتستانت بوسطن متوجهاً إلى الشرق الأوسط عام 1819 بهدف إعادة فلسطين إلى السيادة اليهودية.
 
هذا المسار تطور مع الزمن، وفق ما يؤكد المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في مقالة بعنوان "أميركا الأخرى". يوضح سعيد دور المتطرفين المسيحيين في تشجيع الصهيونية، لأنهم ينوون إعادة اليهود جميعاً إلى الأرض المقدسة لدى المجيء الثاني للمسيح، ويلفت إلى أن اليمين المسيحي المؤمن بهذه العودة يقرأ الأحداث العالمية انطلاقاً منها، ويؤيد "إسرائيل" تأييداً مطلقاً.
 
هذا التأييد تجلى خلال مرحلة تحالف المحافظين الجدد والإدارة الأميركية، وتحديداً بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر التي أحيطت بالكثير من المعاني الدينية واللاهوتية؛ فقد لوحظ اقتراب الأميركيين أكثر من "إسرائيل"، فضمت واشنطن قوى المقاومة الفلسطينية إلى لائحة الإرهاب.
 
وصلت الأمور إلى حد أصبحت فيه واشنطن جزءاً مما تصفه "إسرائيل" بحربها ضد الإرهاب، وذهب البعض إلى حد الكلام عن نوع من السيطرة الإسرائيلية على أعلى مواقع القرار.  
 
نقلت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية عن سكوكروفت الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي لدى الرئيس جورج بوش الابن عبارة صادمة تصف العلاقة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك شارون والرئيس الأميركي جورج بوش الابن.
 
قال المسؤول الأميركي: "إن بوش مسحور بشارون الذي يلفه حول إصبعه الأصغر. وكلما قامت إسرائيل بالرد العسكري الكبير على أي هجوم فلسطيني، فإن بوش يتصل بشارون الذي يقول له إن إسرائيل جزء من الحرب ضد الإرهاب، فيرد عليه بوش: نعم".
 
ثانياً: عامل اللوبي الصهيوني 
 
 
خطف السياسة الأميركية الخارجية من قبل "إسرائيل" في عهد بوش الابن تم تداوله بشكل كبير في الولايات المتحدة الأميركية. كتاب جون ميرشيمر وستيف والت "السياسة الخارجية الأميركية واللوبي الإسرائيلي" كشف الكثير من التفاصيل عن دور اللوبي اليهودي في عملية الخطف هذه.
 
خلص الكاتبان إلى أن المحرك الرئيسي وراء السياسة الأميركية تجاه "إسرائيل" كان المصلحة الإسرائيلية كما يراها اللوبي الإسرائيلي، وليس المصلحة الأميركية.
 
وتحدثا عن جهد منظم ومستمر قامت به عبر عقود طويلة المنظمات والقوى اليهودية المناصرة لـ"إسرائيل"، وتحديداً منظمة "إيباك"، فضلاً عن منظمات اليمين المسيحي والمحافظين الجدد، وهم الذين أسفرت جهودهم عن الحالة التي تشهدها الولايات المتحدة.
 
أوضح الكتاب كيف برعت "إيباك" في أداء الدور الّذي رسمته لنفسها، والذي جعل التأييد غير المشروط لأي حكومة إسرائيلية أمراً مقبولاً وعادياً في الولايات المتحدة الأميركية، وصولاً إلى تكوين قناعة لدى أعضاء الكونغرس بأن "إيباك" قادرة على إطاحة من يقف ضد مطالبها من خلال استخدام المال والأصوات.
 
لم يقتصر العمل الإسرائيلي على التعامل مع الإدارة والكونغرس، وامتدت الجهود لتشمل المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمؤسسات الفكرية، وعملت على تشكيل رأي عام في أوساط النخب السياسة الفكرية من خلال إنشاء مراكز تفكير، أبرزها "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى". 
 
ثالثاً: العامل النفعي
 
 
لا يلغي البعد الديني ودور اللوبي اليهودي البعد النفعي والمصلحة. الولايات المتحدة هي مزيج من عقيدة دينية وسطوة عسكرية ومصالح لا تقف عن حد أخلاقي مع استعداد كامل للتجاوز عن الظلم الناتج من السعي لتحقيقها.
 
لم توفر أميركا وسيلة أو أداة للوصول إلى مصالحها. ولا شكّ في أن "إسرائيل" شكلت الأداة الأقوى والأكثر فاعلية لتحقيق الأهداف الأميركية في منطقتنا التي تشكل منطقة استراتيجية مهمة تؤثر في الأمن القومي الأميركي.
 
اعتبر الأميركيون "إسرائيل حاملة الطائرات الأميركية التي لا تغرق"، وفق ما قاله وزير الطيران الأميركي بعيد تأسيس الكيان ستيوارت سيمنجتون، وهي "قاعدة يمكن الاعتماد عليها في الأمور العسكرية والاستراتيجية في الشرق الأوسط والبحر المتوسط"، كما قال النائب الجمهوري جاكوب جافيتش. وقال زميله جوزيف ماركوماك "إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي نستطيع الاعتماد عليها ولا نستطيع الاعتماد على غيرها".
 
هذه المقولات سيطرت على الحياة السياسية الأميركية، ما دفع الحزبين الأميركيين الأساسيين إلى التسابق لدعم "إسرائيل" وخطب ودها وإعلان مناصرتها. ومع أن الانطباع السائد هو أن الجمهوريين هم الأقرب إلى "إسرائيل"، إلا أن الوقائع تؤكد أن العلاقة المميزة هي قرار أبعد من التمايزات الحزبية. إنه قرار "المؤسسة" الحاكمة أو الدولة العميقة التي تعتبر أن العلاقة بين "إسرائيل" وأميركا هي "علاقة شراكة تؤدي فيها الولايات المتحدة الأميركية دور الشريك الأكبر"، وفق الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل.
 
هذه الشراكة تشرب من المنبع الحضاري والفلسفي نفسه الذي لا يعترف إلا بقيم القوة التي تترجم عدواناً وتمييزاً وازدواجية في المعايير وحروباً عدوانية ومجازر. ويبدو أن الحرب التي أعلنتها "إسرائيل" على غزة بعد "طوفان الأقصى" بدعم وغطاء وتأييد، بل إدارة أميركية مباشرة، تؤكد أن الشراكة تنسحب على فعل الاحتلال وفعل القتل. وبناء عليه، فإن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي يجب أن تنسحب على شريكها الأميركي الأكبر.
 
 
 
المصدر: الميادين