كُتّاب الموقع
غياب السنة عن "صناعة" الرئيس:انتهاء المشروع أم انكفاء المهزوم؟

منير الربيع

الخميس 17 آب 2023

عدد قليل من النواب السنّة، لا يتجاوز عدد أصابع اليد، وقّع اليوم على العريضة السياسية لقوى المعارضة. بغض النظر عن تقييم المعنى السياسي لهذا التوجه، إن كان صائباً أم غير مصيب، لكنه مؤشر على خلل كبير في التوازن السياسي والوطني والطائفي. في مقابل توازن نسبي بين نواب سنّة وسطيين، وآخرين يتحالفون مع حزب الله. 
 
ينتهج الوسطيون نهجاً نابعاً من رفض الإصطفاف، فيما المحسوبون على الحزب مواقفهم معروفة. الإختلال في هذه التوزيعة، ينعكس سلباً على المسار السياسي في البلاد، سواء كان الإتجاه يميل لصالح حزب الله أم لصالح خصومه. ومعلوم أن جمهور السنّة لا يريدون أن يكونوا وقوداً في معركة بين طرفين، مسيحي وشيعي.
 
أهل مدن وأبناء العاصمة 
 
 
تعاطى السنّة تاريخياً مع لبنان كمكوّن في صلب الدولة ومؤسساتها. عند ولادة لبنان الكبير، تحالف كُثر من  "أعلامهم" مع الموارنة، وانخرطوا في تبني الميثاق ورعايته واحتضانه منذ إعلانه، والتحالف بين بشارة الخوري ورياض الصلح خير مؤشر.
 
واستمرت العلاقة بين جانب أساسي من أركان الطائفة مع "المارونية السياسية" وان لم تلغ مطلقاً ميل قسم وازن إلى الاعتراض على أداء "السياسة الحاكمة" وانتهاج خط معاكس تماماً.
 
في حقبة الحرب الأهلية لم ينخرط السنّة في العسكرة طويلا كما غيرهم من أبناء الطوائف. لذلك اسباب عديدة، بينها اولا أن معظمهم أبناء مدن، مع ما يعنيه ذلك من انفتاح وقدرة أعلى على التواصل والميل إلى رفاهية العيش وغيرها. ثانياً، حرص السنة وارتكازهم على الدولة كمظلة ترعى شؤونهم. فحتى تجربة المرابطون في بيروت لم تستمر طويلاً لتطوق عسكرياً من ميليشيات أخرى، سواء كان ذلك بتوجهات سياسية خارجية، او نزعة أقلوية غايتها السيطرة العسكرية على بيروت، وهو ما دفع بأحد أبرز رجالات السنّة صائب سلام إلى ترك لبنان وترك بيروت بعد سقوطها عسكرياً.
 
 في جزء من انكفائهم، اعتراض على تدمير بلد كان لهم فيه ثقل وازن، وعاصمة هي "عاصمتهم اولا" طبعوا هويتها بشكل أساسي، وطبعتهم بتنوعها.
 
بناء الدولة 
 
 
في الفترة الممتدة بين الأربعينيات والستينيات، أنتج "التفاهم السنّي الماروني" نموذجاً ودولة، على الرغم من بعض التجاوزات والأخطاء وشعور المسلمين عموماً ببعض الغبن. حتى في سنوات الحرب بقيت هناك التقاءات بين بعض السنّة والمسيحيين وخصوصاً الموارنة.
 
في المقابل، تعايش أبناء الطائفة الشيعية، ما قبل الحرب، مع فكرة الحرمان، التي عززت لديهم مفهوم المظلومية. أبقاهم ذلك في صراع دائم مع كل أركان الدولة؛ وتفجّر تنامياً عسكرياً لأبناء الطائفة الشيعية، التي عملت على استثمار ذلك سياسياً في حقبة ما بعد الطائف، والتي أنتجت تفاهمات سنية، شيعية، مع قوى مسيحية ليست ذات تمثيل مرتفع، وبرعاية إقليمية ودولية. فتم تجديد النموذج "اللبناني" سياسياً وإقتصادياً ومالياً.
استشعر المسيحيون في تلك الفترة، ما عاناه المسلمون في حقبة ما قبل الطائف، بينما تعزز دور الشيعية السياسية، بما مثّله نبيه بري في قلب الدولة ومؤسساتها والنظام، وبما يمثله حزب الله في استراتيجيته العسكرية والسياسة الخارجية التي التزمت الدولة في توفير كل مقومات الحماية له.
 
تجربة الحريري
 
 
كانت محطة 14 شباط 2005، مفصلاً في تاريخ السنّة ودورهم. اغتيال رفيق الحريري، كان في أحد وجوهه اغتيال المشروع، ومحاولة شطب الدور، وهو مسعى لم ينجح في السنوات الأولى التي أعقبت الإغتيال. إذ نشأ بنتيجته تحالف لبناني واسع على مبدأ لبنان أولاً، والمطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان، وهي مطالب كان قد رفعها المسيحيون طوال سنوات سابقة لكنها لم تنجح إلا بانضمام السنّة إليهم بعد أن سالت دماء الحريري على أرض بيروت، وتوفرت الظروف الإقليمية والدولية. انقسم لبنان عمودياً في أول تجارب الصراع السنّي الشيعي الذي تعايشت معه المنطقة ككل. انقسم المسيحيون في تحالفاتهم بين جهة ناصرت السنّة، وجهة أخرى تحالفت مع الشيعة. نشأ توازن سياسي كُسر في أحداث السابع من أيار 2008، ليتوج بانقلاب أطاح بكل التوزانات في العام 2011.
 
حصل الإنقلاب على سعد الحريري، وعلى ما تضمّنه إتفاق الدوحة. انتقلت الشيعية السياسية إلى مرحلة جديدة من تقدمها داخل بنية الدولة والنظام، وهو ما تكرس فيما بعد، إثر انخراط حزب الله بالصراع السوري، والترجمة المستمرة لذلك داخلياً، فخرج معلناً الإنتصار في سوريا وتحرير الجرود من الإرهاب بعد تحرير الجنوب من الإحتلال الإسرائيلي.
 
توج الحزب ذلك سياسياً في معادلة العام 2016 والتي توفرت لها أيضاً ظروف إقليمية ودولية كنتاج لصفقة الإتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية.
 
لم يقتصر الضعف في الواقع السنّي على الساحة اللبنانية، بل كان نتاجاً وانعكاساً لمشروع إضعاف بدأ من العراق وتوسع وتكرس في سوريا. بعد سنوات على التسوية الرئاسية والتي طمح من خلالها سعد الحريري إلى استعادة التوازن، اختار الإعتكاف السياسي لأسباب متعددة، بينها ما يعلنه عن انعدام الجدوى من الممارسة السياسية في هذه المرحلة لأن لا شيء ينذر بإمكانية الوصول إلى حلول أو تسويات، وأن أزمة لبنان جزء من أزمة المنطقة. الوجه الآخر لهذا الكلام يفيد بوضوح بأنه لن يكون هناك إمكانية لحلّ المشكلة اللبنانية من دون استعادة السنّة لدورهم الفعلي والمؤثر، لما لهم من امتداد خارجي ومن أثر داخلي بما يتعلق بإعادة بناء الدولة التي تعيش مراحل جديدة من الترهل والإنهيار والتحلل وصولاً إلى الذوبان.
 
 غاب الحريري، ولم ينجح السنّة في إنتاج أي بديل عنه، فغابوا عن أي فعالية سياسية، وهو ما أنتجته الإنتخابات النيابية الأخيرة من تضعضع وضياع، فيما لا يخفى على أحد طموح حزب الله بالسعي إلى الحصول على أكثرية سنية موالية له داخل البرلمان.
 
تغييب الدور
 
 
فشل السنّة في انتاج حالة سياسية حتى الآن، تعيد لهم لعب الدور والتأثير، في أصعب مرحلة من مراحل البلاد، على وقع انهيار مالي وإقتصادي وسياسي ومؤسساتي. وفي خضم معركة انتخاب رئاسية من غير المعروف كيف ستكون وجهتها ونتائجها، بين مرشح يدعمه حزب الله ويتمسك به، في مقابل معارضة خصومه الشديدة. أزمة بكل تفرعاتها، تبعد السنّة عن المشهد، او عن التأثير فيه وإبداء الرأي وتقديم المشروع، خصوصاً أن لا جهة وازنة لديهم تمتلك مشروعاً قادرة على التفاوض مع الفرنسيين أو مع غيرهم. غياب السنّة بمشروعهم من شأنه أيضاً أن يدفع حزب الله الى الإستمرار في تطويعهم سياسياً أو تغييب دورهم، باختراقات متتالية بينها تقديم دعم ومساعدات في مناطق كثيرة منها عكار، طرابلس وصيدا. كما أن من شأنه أن يدفع المسيحيين للذهاب إلى الإغتراب أكثر عن الصيغة، وإعلان القطيعة معها لصالح "اللامركزيات الموسعة" أو حتى أكثر منها.  
 
فغياب السنّة عن الشراكة الكاملة والفاعلة في انتخاب رئيس، إمعان في ضرب ما تبقى من صيغة البلد، وانسحاب معلن من "تواطئهم" المضمر، مع المسيحيين على "الفكرة" التي صنعت لبنان، ذاك البلد الذي يتغنى به اللبنانيون والعرب إلى اليوم ويحنون الى تجربته الرائدة في ميادين شتّى.
 
 
المصدر: المدن