كُتّاب الموقع
طلال سلمان في موته الثاني

محمد حجيري

السبت 26 آب 2023

أشياء وأمور كثيرة تجعلنا نحزن على رحيل الصحافي وناشر جريدة "السفير"، طلال سلمان، وهو يدير ظهره لنا ويطوي نفسه ويغيب، بغضّ النظر عن السياسات والولاءات والمواقف وثقافة "المصير والمسار" الأخوية التي كان يطلقها من هنا وهناك. ربّما نحزن عليه ليس من باب أننا نتوجع ونتألم ونشعر بضعف النفس، بل من باب أننا، نحن الأحياء المؤجلين إلى حين، نحاور موتنا ونخاطبه ونحادثه ونسعى إلى تعريفه، نعيش قلقه وبعده الميتافزيقي، نرثي أنفسنا ونناشدها وندرك أن السيزيفية مآل كل شيء، والوردة لا بدّ أن تذبل، يموت أحدنا فنبحث عن المعاني لنكتب، ونحن نعي أن أوهن الكتابات، ربّما هي التي تأتي في رثاء شخص طوى نفسه وغاب...
 
والحال أن طلال سلمان، البعلبكي الشمسطاري، ابن الدركي، صعد سلّمه درجة درجة. فهو الذي بدأ مصحّحاً ثم محرراً في بعض الصحف في الخمسينيات والستينيات، مثل "النضال" و"الشرق" و"الحوادث" و"الصياد" و"الحرية"،  قبل أن يصدر جريدة "السفير" العام 1974 بعد تراكمات سياسية وبناء علاقات عربية، بين عبد الناصر وكمال جنبلاط، وبين ياسر عرفات وحافظ الأسد. فهو الآتي من ثقافة العروبة بدايةً (الناصرية، والقذافي، العرفاتية)، والمؤيد لمحور "الممانعة" لاحقاً ("سوريا الأسد" وتوابعها ومحورها)، وصاحب زاوية "على الطريق"، و"واحد من متخرّجي بيروت عاصمة العروبة"، كما يصف نفسه في سيرته، استطاع بشكل من الأشكال وبطريقة من الطرائق، بتمويل متعدّد الاتجاهات والتنقاضات، أن يبني جريدة واسعة الحضور والانتشار، ترفع شعار "صوت الذين لا صوت لهم"، وتستقطب أبرز الكتّاب اللبنانيين والعرب، من سعدالله نوس الى حسن داوود، من الياس خوري إلى جوزف سماحة من بول شاوول الى عباس بيضون، من حازم صاغية إلى جهاد الزين، من ناجي العلي إلى سعد حاجو، من مصطفى الحسيني إلى ساطع نور الدين، ومن زهير هواري إلى جورج ناصيف... فشكلت مختبراً "يسارياً" وعروبياً (وإسلامياً)، يوازي مختبر "النهار" الليبرالية المتعدّدة. فكانت "السفير" تفتح النقاشات والجدل، في مرحلة عندما كان البلد بدأ يعيش أزماته وقضياه وأحلامه وحروبه، هذه الحروب التي لم توفر حتى طلال سلمان، اذ تعرض لمحاولة كادت تقضي عليه العام 1984 أمام منزله.
 
يوم أقفلت جريدة "السفير"، بسبب التحوّلات ورواج صحف الانترنت وأزمات التمويل، عدا عن أن الورثة الأبناء لم يكونوا مهيئين لاستئناف الدور المكلف، اختارت الجريدة عنوان عددها الأخير "الوطن بلا السفير". بدا الإقفال آنذاك أشبه بالموت الأول لطلال سلمان، فقد قيل إنه بعد إقفال الجريدة، دخل في مرحلة الإكتئاب والضجر. فالصحافي العصامي، صاحب المنبر، في لحظة وجد نفسه في شبه عزلة، لم يعد يجد من يراسله، بعدما كان يتلقى كل يوم مروحة واسعة من الاتصالات من هنا وهناك، من السياسيين والمثقفين والأمنيين والناس العاديين.
 
وحين طوى سلمان جريدته إلى غير رجعة، لأسباب قاهرة، شعر أنه يطوي نفسه، ولا غرابة في أن نجد عشرات المقالات التي تشبه المراثي والغناء على الأطلال، تتحدّث عن طلال سلمان وجريدته ومسارها ومحطاتها في مقاربة السياسة، من الولاء للمقاومة الفلسطينية إلى مواجهة بشير الجميل واتفاق 17 أيار، ولاحقاً الولاء لخيار دمشق وحزب الله، والكتابات الكثيرة التي فندت "السفير" وشخصية مؤسسها، كأنها كانت كتابة عن شخص فارق حياته الأولى، أو الحياة التي صنعت اسمه...
 
موت "السفير" كان جزءاً من ميتات البلد الذي دخل، منذ تلك الفترة، في أنفاق مظلمة معتمة، وبدأ يعيش توَهانه وترهلاته وسرطاناته الاقتصادية والمعيشية. لم تقفل "السفير" وحدها، بل جريدة "الحياة" أيضاً الخليجية العربية، والكثير من المجلات الثقافية الشهرية، وكان مدير عام "النهار" جبران تويني قد اغتيل، ولم يطل الوقت حتى رحل والده غسان تويني، وعاشت "النهار" أزماتها الكبرى مع الجيل الرابع من أصحابها...
 
كان إقفال "السفير" علامة من علامات التصدّع والانهيار في وجوه بيروت الثقافية والاعلامية، قبل التصدّع المالي والحياتي، وانتشار ثقافة السوائل بمعناها الفلسفي نسبة إلى البولندي زيغمونت باومان. إذ بات البديل عن "السفير"، الإيغال في تموضع سياسي أكثر تطرفاً في الممانع،ة وصولاً إلى مقالات تحسس الرقاب والتهديد والوعيد.
 
 
المصدر: المدن