كُتّاب الموقع
التمرد العسكري في روسيا.. النهاية لم تكتب بعد

عماد عنان

الثلاثاء 27 حزيران 2023

عادت الأمور إلى طبيعتها في المدن الروسية عقب إسدال الستار على اليوم الملتهب الذي شهدته البلاد السبت 24 يونيو/حزيران 2023 جراء التمرد العسكري الذي قاده قائد مجموعة "فاغنر" رجل الأعمال يفغيني بريغوجين، بعد سيطرته على القواعد العسكرية في مدينة روستوف (جنوب) وتوعده بـ"مسيرة العدالة" إلى موسكو، مطالبًا بتسليم وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش الروسي.
 
بحلول مساء أمس تم التوصل - بوساطة الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو - إلى اتفاق يعيد بموجبه بريغوجين مقاتليه إلى قواعدهم العسكرية، ويوقف زحفه إلى العاصمة التي كان يبعد عنها أقل من 200 كيلومتر، نظير ضمانات شخصية من الرئيس فلاديمير بوتين لقائد فاغنر الذي غادر إلى مينسك.
 
تضمن الاتفاق بين الرئيس الروسي ونظيره البيلاروسي عددًا من النقاط أبرزها: السماح لبعض مقاتلي فاغنر ممّن رفضوا الانخراط في حملة بريغوجين، الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع، كما أنهم لن يخضعوا لأي ملاحقة قانونية، بجانب عودة أفراد الميليشيا إلى معسكراتها، أما الجزء الذي لا يرغب في العودة سيوقع اتفاقيات مع الجيش الروسي، وأخيرًا إغلاق القضية الجنائية بحق بريغوجين بشكل نهائي على أن يغادر الأراضي الروسية.
 
نظريًا وبعيدًا عن أطروحات المؤامرة ذات الأهداف غير المعلنة،  تجاوزت موسكو واحدة من أشرس الأزمات التي عصفت بها في تاريخها الحديث، التي كانت على بعد أمتار قليلة من نشوب حرب أهلية لا يعرف أحد مداها، لكن تبقى العديد من التساؤلات عما تركته من تداعيات وتساؤلات بشأن ارتدادات ذلك على مستقبل بوتين وسمعة الدولة الروسية في المجمل، والشكوك التي أحيطت بأسطورة الأمن الروسي والثقوب العالقة في ثوبه المهلهل، هذا بخلاف الآثار المحتملة لهذا التمرد على النفوذ الروسي خارجيًا، لا سيما في أوكرانيا أو إفريقيا حيث تلعب فاغنر هناك دور البطولة، كونها الذراع الطولى لموسكو في تمديد حضورها الإقليمي.
 
صدمة للشارع الروسي
 
 
التمرد الذي لم يستمر إلا بضعة ساعات كان بمثابة صدمة للروس الذين لم يشهدوا مثله قبل ذلك، إذ لم تتعرض الدولة الروسية الحديثة إلى أي انقلابات أو تمردات من هذا النوع طيلة العقود الماضية، وعليه جاءت ردود الفعل المتأرجحة بين الذهول والترقب وانتظار ما يمكن أن يؤول إليه هذا المشهد العبثي.
 
كما أن الطرف الذي قام بذلك كان هو الآخر مفاجأة للشارع الروسي، العامة والنخبة معًا، ففاغنر تتمتع بثقة كبيرة وشعبية جارفة نظرًا للدور التي قامت به منذ 2014 وحتى اليوم، وهو الدور الذي يعتبره المواطن الروسي قمة الوطنية، حيث تمديد نفوذ الدولة في الخارج والدفاع عنها في مواجهة أعدائها.
 
إضافة إلى أن قيادة بريغوجين نفسه لهذا التمرد رغم العلاقات القوية التي تجمعه بالرئيس الروسي، التي تمتد لسنوات طويلة من التوافق والانسجام، حتى إن البعض لقبه بـ"طباخ بوتين"، عمقت من وقع الصدمة على الشارع الروسي برمته.
 
الطريقة التي تم تنفيذ التمرد بها هي الأخرى مثيرة للجدل وباعثة للذهول، حيث الحصار السريع لمبنى القيادة العامة للجيش الروسي في روستوف، والاستيلاء على المدينة بالكامل، ثم الزحف نحو العاصمة، هذا بخلاف الأريحية التي تمت بها العملية دون أي مقاومة محتملة من قوات الجيش، كل هذا كان يتعامل معه الروس كأنها مشاهد سينمائية في فيلم يعرض على شاشات سينما ميراج في موسكو.
 
المشاهد زادت إثارتها بعد تجاهل بريغوجين لتحذيرات بوتين الذي وصف في كلمة متلفزة له صباح السبت ما حدث بأنه تمرد مسلح سيتم الرد عليه بشكل قاسٍ، مضيفًا أن ما يدور الآن خيانة داخلية وطعنة في ظهر، وأن "الذين نظموا التمرد المسلح ورفعوا السلاح ضد الرفاق في القتال خانوا روسيا وسيتحملون مسؤولية ذلك"، محذرًا من أن "المصالح الشخصية أدت إلى خيانة البلد وسندافع عن بلدنا ومواطنينا".
 
يرى بعض الخبراء أن هذا التمرد يعد الصدمة الثالثة للروس خلال أقل من عام ونصف، وذلك بعد صدمة الحرب الروسية المفتوحة على أوكرانيا التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 ثم إعلان التعبئة الجزئية لأفراد الاحتياط في سبتمبر/أيلول من نفس العام لمواجهة الدعم الغربي المستمر لكييف، هذا بجانب التغول العسكري لفيلق "روسيا الحرة" المعارض الذي وصل إلى مناطق النخبة في موسكو، وهدد باستهداف قصر بوتين ذاته، الأمر الذي حمل مؤشرات سلبية على قوة المنظومة الأمنية الروسية وأسقط الأسطورة الأمنية المزعومة.
 
بوتين المرتعش
 
 
"نظر الرئيس الروسي بوتين يوم السبت إلى الهاوية.. ثم تراجع"، تحت هذا العنوان حاول الكاتب الأمريكي ديفيد إغناتيوس في مقال له بصحيفة "واشنطن بوست" تجسيد المأزق الذي عاناه بوتين بسبب الأحداث التي جرت في روسيا الساعات الماضية.
 
الكاتب الأمريكي يرى أن بوتين وإن أنقذ نظامه من السقوط بإبرام الاتفاق العاجل مع قائد فاغنر بوساطة بيلاروسية إلا أن ما حدث وصمة عار تكشف حالة الضعف التي يعاني منها، وأنه ربما يكون جزءًا من تفكك روسيا بصفتها قوة عظمى.
 
وصف المقال ما حدث بين بوتين وبريغوجين بأنه أشبه بـ"لعبة الدجاج"، حيث يتعاركان بلا هدف محدد ويتوقفان فجأة من دون سبب واضح، وأن "المجانين وحدهم هم من يقفزون إلى الهاوية في مثل هذه المواقف، والرجلان ليسا بمجنونين"، على حد قوله.
 
بعيدًا عن السردية الروسية بأن بوتين بذكائه المعهود تجنب الصدام مع فاغنر وأجبرها على التراجع قبل أن تقترب من العاصمة، في محاولة منه لتفويت الفرصة على خصومه الغربيين بنشوب حرب أهلية في الداخل الروسي، فإن الكاتب الأمريكي لديه رؤية مغايرة، معتبرًا أن بوتين لو كان متاكدًا من إطاعة الجيش لأوامره حال إصداره قرارًا بمواجهة تحركات فاغنر لفعل، لكنه لم يكن متيقنًا من ذلك، وعليه تجنب إيقاع نفسه في مأزق قد يكلفه مستقبله السياسي برمته.
 
مما يعزز تلك الرؤية غض بوتين الطرف عن الخلافات المستعرة بين قادة الجيش وقائد فاغنر طيلة العام الماضي، التي وصلت إلى إهانات متكررة لوزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، بل وصلت إلى الرئيس الروسي نفسه، ومع ذلك لم يتحرك الرجل ولم يصدر عنه أي ردة فعل، فهو لا يريد التورط في الانحياز إلى طرف دون الآخر، شكًا منه في ولاء وطاعة أي منهما له إذا اتخذ قرارًا بالاستقطاب.
 
وهنا لم يجد بوتين بدًا من استدعاء الخطاب الشعبوي المرعب عام 1917 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث العزف على وتر القومية ومواجهة العدو الخارجي المشترك وضرورة القفز فوق الخلافات الداخلية، قائلًا إن العدو خارجي الآن مثلما كان في ذلك العام، "الغرب قلب ضدنا كل أجهزته العسكرية والاقتصادية والمعلوماتية"، وهو الخطاب الذي يستند عليه بوتين بين الحين والآخر للقفز على الأزمات الداخلية وفشله في السيطرة على المشهد المحلي وفق ما ذهب إغناتيوس.
 
الرأي ذاته توصلت إليه صحيفة "الغارديان" البريطانية في تحليلها الذي عنونت له بـ"حتى لو فشلت ثورة فاغنر المسلحة، رئاسة بوتين لم تكن أبدًا بهذا الضعف"، لافتة أنه بغض النظر عن النتيجة التي قد يؤول إليها هذا التمرد الخاطف إلا أنه يعد أحد أبرز المؤشرات على مدى الضعف الذي تمر به سلطة بوتين وقبضته الحديدية، وصورته التي تعرضت لتشويه غير مسبوق.
 
ترى الصحيفة أيضًا أن سياسة "فرق تسد" التي كانت يتبعها بوتين مع قادة الجيش والأمن بصفة عامة، على مدار العشرين عامًا التي قضاها في السلطة، ما عادت تجدي اليوم، وأنها بهذا التمرد المسلح وصلت إلى محطتها الأخيرة، متسائلة: "كيف ستكون سلطة بوتين وصورته كزعيم مطلق، التي تضررت بشدة بما يحدث بطبيعة الحال، فهل تأخر بوتين في التعامل مع بريغوجين رغم تحذيرات قيادات الجيش؟".
 
كثير من تفاصيل الاتفاق المبرم بين بوتين ولوكاشينكو غير معلومة، فيما يبدو كأن الرئيس الروسي اضطر - مجبرًا - لقبول هذه الخطوة، حفاظًا على ماء وجهه ومستقبله السياسي، ما فرض العديد من التساؤلات عما إذا كانت هناك تنازلات قدمها الرئيس لقائد فاغنر لإنهاء هذا التمرد، خاصة أن الأخير خرج من الأراضي الروسية في موكب احتفالي، وعلى وجهه الابتسامات العريضة التي لا تعبر مطلقًا عن الحالة المفترض أن يكون عليها بعدما فشل في تحقيق أهدافه من وراء حملته المتمردة، ليبقى السؤال: هل بالفعل بريغوجين حقق ما كان يسعى إليه؟ مع الوضع في الاعتبار ما يثار بشأن احتمالية أن يطيح بوتين بوزير دفاعه قريبًا، وهو الطلب الرئيسي لقائد فاغنر، الأمر الذي يدعو للتساؤل: هل رضخ بوتين فعلًا لإملاءات طباخه السابق؟ وهل أنهي التمرد بناءً على صفقة سياسية مع السجين السابق؟
 
أوكرانيا وإفريقيا.. تداعيات محتملة
 
 
هناك حالة من التعتيم على مستقبل بريغوجين بعد انتقاله إلى بيلاروسيا، كذلك مستقبل مجموعة فاغنر بأكملها، فبينما يذهب البعض إلى احتمالية تفككها حيث ينضم بعضها إلى الجيش الروسي - كما أشار بوتين - والآخر يتم تجميد نشاطه، فيما ذهب آخرون إلى أن المجموعة ستعمل بكامل طاقتها في الميادين الخاصة بها، بصرف النظر عن بقاء قائدها أو الإطاحة به.
 
تجدر الإشارة إلى أن التضحية بفاغنر مغامرة لا يمكن لبوتين ولا موسكو الإقدام عليها، نظرًا لما تمثله من أهمية لوجستية وإستراتيجية لروسيا خارج الحدود، فهي الذراع الطولى ذات التأثير القوي في أوكرانيا، كما أنها عصب الوجود الروسي في إفريقيا، خاصة في ليبيا والسودان ومالي وتشاد وإفريقيا الوسطى.
 
وعليه فإن ما حدث - أيًا كانت نتائجه - سيكون له ارتداداته العكسية على أداء فاغنر في الخارج، سواء ظل بريغوجين في منصبه أم غادره، وسواء تم احتواء المجموعة ضمن وزارة الدفاع أم ظلت على شاكلتها الحالية كشركة خاصة، في كل الأحوال فإن ما حدث سيؤثر حتمًا على وجودها في تلك المناطق المنتشرة فيها.
 
هذا بجانب الهزة النفسية المحتملة المتوقع أن تصيب الجنود الروس جراء تلك الواقعة، فصراع القادة الذي كاد أن يودي بهم في أتون معركة خاسرة على مكاسب جنرالية، سيكون له أبعاده وتأثيره على الروح المعنوية للمقاتلين في شتى الفروع القتالية، النظامية وغير النظامية.
 
بناءً على ذلك، من المتوقع أن تسابق موسكو الزمن لإثبات عدم تأثرها بما حدث، خاصة لدى الجار الأوكراني الأكثر استفادة من هذا التمرد، وذلك من خلال تكثيف الغارات والعمليات التي تحاول بها استعادة ثقة جنودها المهتزة، فضلًا عن إيصال رسالة للخارج بأن ما حدث كان حدثًا عارضًا وانتهى دون أن يترك ذيول كما كان متوقع.
 
وفي الأخير، فإن ما حدث في 24 يونيو/حزيران 2023  -سواء كان مؤامرة مدبرة أم تمرد عسكري، لن يكون كما قبله، ومهما حاول بوتين ترميم شروخات هذا اليوم، فإن تأثيره سيمتد إلى سنوات طويلة، خاصة بعدما كشف وهن القيادة البوتينية بعد عقدين من السلطة، وهشاشة المنظومة الأمنية الروسية المزعومة، فضلًا عن بقاء احتمالية تكرار سيناريو التمرد قائمًا في ظل الاستمرار على ذات السياسات، وهو البعبع الذي قد يقلب الطاولة ويسدل الستار على قوة روسيا العظمى.
 
 
المصدر: نون بوست