كُتّاب الموقع
سوسيولوجيا التواصل الاجتماعي في المجتمعات الشبكية العربية

حلمي ساري

الجمعة 21 تموز 2023

يمكن القول، بدرجة عالية من الثقة، إنه ما من وسيلة من وسائل التواصل، التي أوجدها الإنسان عبر مسيرته التواصلية الطويلة، كانت أحدثت تغيرات جوهرية في طبيعة التواصل بين الناس، وبنية العلاقات الاجتماعية بينهم، كما فعلت شبكة الإنترنت. 
 
صحيح أن كل وسيلة من الوسائل التي أوجدها الإنسان وأضافها إلى الوسائل التي سبقتها، كانت أحدثت في حينها تغيرات ملموسة في حياة الناس، غير أن الخصائص الفريدة، التي تتمتع بها شبكة الإنترنت، تجعلها تُعَدّ، بحق، ثورة تُضاف إلى ثورات التاريخ الإنساني العظمى، كالثورة العلمية والثورة الصناعية والثورة الجينية (ريمي ريفل. 2018؛ جون مكنيل، وليام مكنيل. 2018). ويذهب عالم الاجتماع كاستلز، في تشبيهه قوة التغيرات التي أحدثها التواصل عبر الإنترنت في حياة الناس، بتلك التي أحدثتها الحروف الأبجدية (Castells, M..1996).
 
لقد نقل هذا النوع من التواصل الإنسان إلى آفاق رحبة من العلاقات والفضاءات والممارسات، لم تكن تخطر في باله في يوم من الأيام، ولم يكن يتوقع حدوثها بهذه السرعة المذهلة. لقد وفّر له العيش في فضاءات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية وترفيهية وصحية ورياضية، مفتوحة، ومكّنه من اختراق "فوبيا" المكان والزمان، وربط أجزاء هذا العالم المترامية بفضائها الواسع، ومهّد الطريق أمام المجتمعات للتقارب والتعارف وتبادل الآراء والأفكار والرغبات، واستفاد كل متصفح لشبكة الإنترنت من الوسائط المتعددة المتاحة فيها. 
 
لقد غيّر التواصل عبر الشبكات تداولَ المعلومات بين الناس وإنتاجها وتوزيعها، تغيراً كبيراً وجوهرياً. فكما غيرت المطبعة والبث، إذاعياً وتلفزيونياً، تداوُلَ الأخبار والمعلومات، فإن الشبكة خلقت حالة جديدة وقواعد مغايرة للتواصل بين الناس والتأثير فيهم وفي طرائق مشاركتهم في الفضاء أو المجال العام. 
 
السياق السوسيو تاريخي لظهور المجتمع الشبكي
 
 
نتج من التغيرات الهائلة في تكنولوجيا التواصل الاجتماعي والتراكم الرأسمالي في المجتمعات الصناعية الغربية في سبعينيات القرن المنصرم شكل جديد من أشكال المجتمع. لم يحدد المفكرون، الذين تنبّأوا بقدومه، اسمه بشكل دقيق. فعلى الرغم من التسميات المتعددة، التي أطلقوها عليه، مثل مجتمع المعلومات ) Information Society (، أو مجتمع المعرفة، أو مجتمع المعلومة، أو مجتمع ما بعد الصناعي، أو مجتمع ما بعد الحداثة... إلخ، فإن تسمية عالِم الاجتماع مانويل كاستلز له تبقى الأكثر قبولاً وشيوعاً، وهي المجتمع الشبكي (Network Society)، ذلك لأن التواصل عبر الشبكة في هذا المجتمع هو المحور الأساس الذي يميز هذا المجتمع (إدريس الغزواني، 2020).
 
لقد رافق ظهور المجتمع الشبكي الجديد، أو مجتمع المعلومات، وصاحبه في الحقيقة شكل جديد من أشكال التواصل الاجتماعي، يتماشى مع بنيته الاقتصادية والمعرفية، شكل من التواصل یتباين في مفهومه وسماته وخصائصه ووسائله عن أشكال التواصل السابقة، ویتباين أيضاً في تأثیراته الاجتماعية والسیاسیة والثقافیة والتربویة. لقد حولت الشبكة الحياة في المجتمعات المعاصرة إلى حياة شبكية. 
 
لم يُولَد المجتمع الشبكي ثم التواصل الشبكي بين عشية وضحاها، بل مرّ كل منهما في تحولات وتغيرات اقتصادية وتكنولوجية وتواصلية عميقة. وتعدّ محاولة عالم الاجتماع دانييل بيل من أولى المحاولات التي أولت اهتماماً كبيراً لهذا المجتمع الوليد، إذ يرى أن النظام الاقتصادي في هذا المجتمع تغير، بحسب قوله، من اقتصاد صناعي قائم على الصناعة إلى اقتصاد معرفي قائم على إنتاج المعرفة وتطبيقها (Bell.D.1973).
 
تتالت الجهود بعد ذلك في تحديد خصائص هذا المجتمع، والدور الذي يقوم به التواصل الشبكي فيه. وكان من أبرزها جهود المفكر الفرنسي جان بودریار، الذي أكد دور الإعلام وأهميته في تشكيل معارفنا واتجاهاتنا نحو كل ما يقع خارج إدراكنا وخبراتنا المباشرة. لقد باتت هذه الوسائل، كما يؤكد، تتغلغل في مجريات حياة الأفراد اليومية وتحاصرهم في كل مكان (أنطوني غيدنز: 2005). 
 
من جانبه، قام بيتر دروكر بجهد كبير في تحديد خصائص هذا المجتمع، وتأكيد الدور الذي يقوم به "عمال المعرفة" أو "العمالة الجديدة" في إنتاج المعرفة وتصنيعها في هذا المجتمع، الذي يسميه مجتمع المعلومات (1994 Drucker.P). 
 
أمّا التحليل الآخر فكان لعالم الاجتماع الفرنسي جان لوجكين، الذي يؤكد خاصية المعلومات كأهم سمة يتمتع بها هذا المجتمع؛ حيث نجده يقرر في كتابه "الثورة المعلوماتية" أن الأخيرة في الأصل ثورة تكنولوجية حلت محل الثورة الصناعية، وتمثل حضارة جديدة ستتجاوز التقسيمات الطبقية القديمة التي سادت المجتمعات القديمة، (السيد ياسين، 2010).
 
وفي تتبعنا أهم المحاولات التي تركت أثراً واضحاً في تحديد خصائص هذا المجتمع، لا نستطيع القفز عن محاولة جان فان ديك؛ بحيث يعدّ أول من أطلق على المجتمع الجديد اسم "المجتمع الشبكي". ففي كتابه "مجتمع الشبكة" (1991)، يعرّف المجتمع الشبكي بأنه المجتمع الذي يتكون من الشبكات الإعلامية والاجتماعية التي تشكل بنيته الأساسية في كل المستويات (hassan,R.2004). 
 
ومن المحاولات المهمة في هذا المجال أيضاً، تلك التي قدمها عالم الاجتماع الكندي باري ويلمان؛ الذي رأى أن افضل طريقة يمكن أن ننظر فيها إلى المجتمعات المعاصرة هي معاملتها بعدّها مجتمعات شبكية ( Wellman. 1997). 
 
ثم عالم الاجتماع مانويل كاستلز الذي نظّر لدور التواصل الشبكي وقوة هذا النوع من الاتصال في المجتمعات المعاصرة، ونجد ذلك واضحاً في البرادايم /النموذج (Paradigm) الذي وضعه لهذا المجتمع. 
 
حلل كاستلز الأبعاد التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية الكامنة خلف التحولات والتغيرات التي مرت فيها تقانة المعلومات في المجتمعات الغربية، التي أفضت إلى تشكل هذا المجتمع.
 
ينطلق كاستلز في هذا "البرادايم/ النموذج، النظرية" من تحديد التغيرات التي اعترت بنية الاقتصاد في المجتمعات الغربية وضرورة أخذها بعين الاعتبار، فهو يؤكد أننا أمام مجتمع جديد قوامه "رأسمالية معلوماتية"، أي أن المعرفة والمعلومة فيه هما مصدر الثروة ورأس المال في هذا المجتمع. 
 
ويرى كاستلز أن منتصف القرن العشرين، كان بداية تشكل ما يسمى المجتمعات ما بعد الصناعية التي أصبحت ترتكز في عملياتها الإنتاجية على المعلومة بدلاً من الطاقة. وأدّى هذا التحول إلى إحداث تغيير جوهري في بنية النظام الرأسمالي، لأن الهيمنة فيه لم تعد تقتصر على تملك وسائل الإنتاج، بل على النظم المعلوماتية والمعرفية (مانويل كاستلز 2014).
 
أفضت جهود كاستلز وغيره من الباحثين إلى تأسيس علم اجتماع جديد أثارت تسميته خلافاً واسعاً. فهناك من يطلق عليه علم اجتماع الإنترنت، أو علم الاجتماع السايبري، أو علم اجتماع الفضاء المعلوماتي، وهناك من يطلق عليه علم الاجتماع الرقمي، ومنهم من ينحاز إلى تسميته علم اجتماع المعلومات العالمي. 
 
في كتابه "المجتمع الشبكي" الذي يتصدر مجلده الضخم المسمى "العصر المعلوماتي: الاقتصاد والمجتمع والثقافة"، نجد كاستلز يعرض الخصائص الأساسية للمجتمع الشبكي، من زاوية بنيته، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً واتصالياً، ويؤكد الكيفية التي ساهم فيها التطور التكنولوجي في تغير موازين القوى العالمية، إذ تحول الصراع من السيطرة على مصادر الطاقة إلى الصراع على امتلاك المعلومات. 
 
ويؤكد كاستلز أن الشبكات غدت القوى المحركة للحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات المعاصرة. ويعبر عن ذلك بالقول إن "ثمة نزعة تاريخية تنتظم بمقتضاها الوظائف والعمليات الأساسية بشأن الشبكات على نحو متزايد، وتكون هذه الشبكات الوجه الاجتماعي لمجتمعاتنا، ويعمل انتشار منطق التشبيك على تعديل العمل وثماره تعديلاً جوهرياً في نواحي الإنتاج والتجربة والقوة والثقافة (إدريس الغزواني، 2020).
 
ويمتاز المجتمع الشبكي وفق كاستلز بصفة "التدفق" الذي أوجد خصائص ثقافية وأنماط حياة جديدة أطلق عليها اسم الثقافة الافتراضية الواقعية، إذ يرى أن وسائل التواصل عملت على خلق نوع جديد من الحياة في هذا النوع من المجتمعات، فالحياة فيها ليست واقعية تماماً، وليست بالخيالية تماماً، بل هي مزيج من الأمرين معاً.
 
الفضاء الافتراضي في المجتمعات الشبكية
 
 
يرتبط الفضاء/المجال الافتراضي (public Sphere) بالأنترنت ارتباطاً وثيقاً. يشكل المشاركون فيه ثقافة تسمى "ثقافة الفضاء الافتراضي"، وهي ثقافة لها قيمها وعاداتها ولغتها وسلوكها الذي يميزها عن الثقافة الواقعية (حمادة بسيوني، 2001). وهذه الجماعات كما يرى رينجولد في كتابه "الجماعات الافتراضية"، هي تجمعات اجتماعية تشكلت من خلال الإنترنت من أفراد يقطنون في أماكن متفرقة في أنحاء العالم، يتواصلون مع بعضهم البعض، عبر شاشات الكمبيوتر والبريد الإلكتروني، ويتبادلون المعارف والهوايات، ويجمع بينهم اهتمامات مشتركة ويحدث بينهم ما يحدث في العالم الواقعي أو الفعلي من تفاعلات، لكنها ليست وجهاً لوجه  (Rheingold. 2003).
 
عملت الفضاءات الافتراضية على إنهاء العزلة الجغرافية التي كانت تقف عائقاً أمام التواصل بين البشر، وأوجدت ثقافة جديدة من نوع جديد، بدأت تفرض نفسها على المجتمع الواقعي أو الحقيقي.
 
ومن أهم خصائص هذه الفضاءات هو "الافتراضية". إذ يشكل الخيال لدى عدد كبير من الناس متعة فائقة قد تفوق تلك التي يحصلون عليها في مجتمعاتهم الواقعية أو الحقيقية. فالتفاعلات المصاحبة للخيال في الفضاء الافتراضي تغري الناس وتجذبهم بصورة كبيرة، وخصوصاً أولئك الذين يبحثون عن التغيير وعن السبل التي تخرجهم من القيود الاجتماعية الثقيلة التي تواجههم في عوالمهم الفعلية - الحقيقية (المنصوري، 2014).
 
ومن الخصائص الأخرى للفضاءات الافتراضية "اللاتعيّن" أو اختفاء الهوية (Anonymity) ؛ إذ يتيح الفضاء الافتراضي للمشتركين فيه فرصة لإخفاء هوياتهم. وهذه الخاصية تساعد المستخدم على التعبير عن نفسه بحرية أكبر تبعده عن التقيد بالقواعد الروتينية التي يفرضها عليه المجتمع الحقيقي أو الواقعي.
 
ومن الخصائص الأخرى صفة التشاركية التفاعلية؛ إذ يسمح الفضاء الافتراضي للمشتركين أن ينخرطوا في نشاط محدد أو قضية محددة، تعمل على توحيد جهود المشتركين في هذا المجتمع من أجل تحقيق أهدافهم. 
 
رأس المال الاجتماعي الافتراضي في الفضاء الافتراضي
 
 
من المفاهيم الأخرى الجديدة التي أوجدها التواصل الشبكي مفهوم رأس المال الاجتماعي الافتراضي (Virtual Social Capital)، إذ يُعَدّ من أكثر المفاهيم التي جذبت اهتمام العاملين في العلوم الاجتماعية في العقدين الأخيرين لارتباطه الوثيق بالمجتمع المدني. 
 
كان بيار بورديو من أوائل علماء الاجتماع الذين قاموا في بداية الثمانينيات بجهود كبيرة في تحليل مفهوم رأس المال الذي يشكل حجر الزاوية في مشروعه النظري المسمى "نظرية الممارسة (Practice Theory). لقد أعاد بورديو اكتشاف مفهوم رأس المال الاجتماعي، وساهم في تأسيس نظرية سوسيولوجية بشأنه، وكشف أهمية شبكة العلاقات الاجتماعية في انتفاع الفرد والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها من الموارد الاجتماعية المادية والرمزية (Swartiz, D. 1997).
 
ففي نظرية الممارسة، يوسع بورديو فكرة رأس المال التي كانت مطروحة في علم الاقتصاد وفي النظرية الماركسية تحديداً، لتتضمن رؤوس أموال جديدة، مثل: رأس المال النقدي ورأس المال غير النقدي. 
 
وفي سياق توصيفه للأنواع المتعددة من رأس المال يذكر بورديو 3 أنواع خلاف رأس المال الاقتصادي، هي: رأس المال الثقافي الذي يتكون من رأس المال الذي يمنحه التعليم والتدريب من مهارات ومعرفة وامتيازات وتوقعات ومكانة اجتماعية، إذ لم ينظر بورديو إلى المدارس والجامعات باعتبارها مواقع لتوزيع رأس المال الثقافي، بل هي مواقع لمنح شرعية لرأس المال الثقافي للطبقتين الوسطى والعليا (إنغليز، وهيوسون، 2013).
 
أما رأس المال الاجتماعي عند كولمان، فيستخدمه ليشير به إلى العلاقات الموجودة بين الأفراد في إطاري الأسرة والمجتمع المحلي؛ إذ يعتقد أن العلاقات داخل الأسرة تمارس تأثيراً قوياً في مستويات التحصيل الدراسي عند أبنائها (حسني عبد العظيم، 2012). 
 
يرى كولمان أن هناك نوعين من شبكات العلاقات الاجتماعية: الشبكات "المغلقة" أو المتينة داخل المجتمعات المحلية وداخل الجماعات الصغيرة، وينتج من هذا النوع من الشبكات أداء وظيفي ناجح للأفراد الذين ينضوون داخلها.
 
أما رأس المال الاجتماعي عند بوتنام فأحدثت رؤيته له تحولاً كبيراً في فهم هذا النوع من رأس المال، بحيث لم يعد التركيز منصباً على وجود علاقات السلطة واللامساواة الناتجة من تباين الأفراد فيما يملكونه من رأس المال، في أنواعه المتعددة، وإنما أضحى التركيز لديه ينصب على القيم الاجتماعية الأساسية والمهمة في حياة الناس، وفي مقدمتها الثقة بالآخرين، والتسامح، والتبادل القائم على الانتماء المشترك.
 
وفي ضوء الفهم السابق لرأس المال الاجتماعي الافتراضي الذي أوجده التواصل الشبكي في المجتمع الشبكي، أو مجتمع المعلومات، يمكن القول إن استثمار الأفراد والجماعات والمؤسسات للفضاءات الافتراضية هو أهم الاستثمارات في تكوين رأس مال اجتماعي لهم على أكثر من صعيد، كما أوضحت تحليلات بورديو وكولمان وبوتنام، إذ يقوم رأس المال الاجتماعي لدى هؤلاء المفكرين في الأساس على شبكة العلاقات الاجتماعية التي يملكها الفرد، والتي يحصل منها على فوائد متعددة، وفي مجالات متعددة.
 
وتقوم الثقة بدور كبير في ذلك؛ فأينما وجدت الثقة وجد التبادل كما يقول بوتنام. فكلما كانت هناك ثقة بين الأعضاء، الذين يشكلون الجماعة الافتراضية، كان تبادلهم في هذا النوع من المجتمعات قوياً، وكان رأس مالهم الاجتماعي قوياً كذلك. لذا، عدّ بوتنام الثقة المقوم الأساس الذي يستمد منه رأس المال الاجتماعي الافتراضي قوته. فالجماعة التي يكون أعضاؤها جديرين بالثقة هي جماعة أكثر قدرة على الإنجاز، كما يقول، مقارنة بالجماعات الأخرى التي تفتقد هذا المقوم من مقومات رأس المال الاجتماعي في المجتمعات الافتراضية. 
 
ويتبين دور الثقة في المجتمعات الافتراضية في عدد من الدراسات الميدانية، وخصوصاً تلك الدراسة التي أجراها الباحث آجرين. فلدى سؤاله المشاركين في الجماعة الافتراضية التي أجرى عليها دراسته عن مقدار الثقة في المحادثات التي يجرونها فيما بينهم، تبين له أن هناك قدراً كبيراً منها بينهم. وتبين له أيضاً أنه لا يوجد معلومات يتم تبادلها ولا معايير تلاحظ ولا سلطة موجودة ولا توقعات والتزامات ظاهرة من دون وجود ثقة بين المشاركين في هذا النوع من المجتمعات (وليد زكي، 2010).
 
أمّا المقوم الآخر من مقومات تشكيل رأس المال الافتراضي، فهو التبادل في مجال المعلومات. وإذا كان نجاح الجماعات الاجتماعية في المجتمع الحقيقي أو الواقعي في قيامها بوظائفها وتحقيق أهدافها وممارسة نشاطاتها يحتاج إلى التبادل، كما يرى علماء الاجتماع التبادلي، فإن مثل هذا النجاح في الجماعات الافتراضية يحتاج إلى التبادل أكثر مما تحتاج إليه المجتمعات الحقيقية، ذلك بأن التبادل يعد مقوماً ضرورياً للتفاعل والمشاركة في نشاطات الجماعات الافتراضية. فشعور الأفراد بأنهم يشكلون مجتمعاً افتراضياً، هو مجتمع الــ "نحن"، وإحساسهم بهذا المجتمع هو أحد أهم المحددات لتكوين رأس المال الاجتماعي لهؤلاء الأفراد.
 
تؤكد الدراسات في مجال رأس المال الافتراضي أن أهم المجالات التي يفصح فيها التبادل عن نفسه في المجتمعات الافتراضية هو مجال تبادل المعلومات، إذ يساهم التبادل المعلوماتي في طرح مجال للاستفادة في حل المعضلات ذات الأبعاد التقنية والاجتماعية. وتوصل الباحث آجرين إلى هذه النتيجة من خلال دراسة قام بها على عينة من الصحافيين السويديين المبتدئين في العمل الصحافي ومجموعة أخرى لها اهتمام بمجال النشر والمعلومات. 
 
وظهر له أن إمكان تبادل المشاركين للمعلومات التي بحوزتهم والعمل على توظيفها في علاقاتهم الاجتماعية في واقعهم اليومي، هما إحدى أهم الفوائد التي يجنيها المشاركون في الفضاء الرمزي. فهذا الفضاء هو بمثابة رأس مال اجتماعي لهم.
 
ويعدّ الدعم والمساعدة، من أهم مقومات تكوين رأس المال الاجتماعي الافتراضي، ونعني بذلك المؤازرة والمساعدة اللتين يتلقاهما المشترك من خلال امتلاكه شبكة من العلاقات الاجتماعية عبر تفاعلاته في المجتمع الافتراضي.
 
يمكن القول إن المعرفة والمعلومة في المجتمعات المعاصرة، وخصوصاً الشبكية أو المعلوماتية، باتتا تشكلان مورداً اقتصادياً أساسياً وضرورياً لتغيير المجتمعات وتقدمها. فقد أدخلت تكنولوجيا المعلومات تغيرات عميقة في المجتمعات الغربية في مختلف المجالات. 
 
ويُعَدّ نمط التواصل الشبكي من أهم العوامل التي غيرت حياتنا. لقد غيرّ التواصل الشبكي أنماط تفكيرنا، وفتح أمامنا آفاقاً جديدة ودفع هذا النوع من التواصل المجتمعات إلى إعادة تنظيم نفسها وإدارة مواردها وثقافتها على نحو شبكي، وليس على أساس هرمي، كما كان سائداً في المجتمعات السابقة. وهذا ما يتوجب على مجتمعاتنا العربية إدراكه والتعامل معه. 
 
وهنا يمكن أن نثير التساؤلات الآتي: أين موقع المجتمعات العربية من هذه التغيرات التي أوجدتها الثورة التكنولوجية والتواصل الشبكي؟ وهل تستطيع هذه المجتمعات استيعاب المعرفة والمعلومات؟ 
 
يشكك كثيرون من المفكرين العرب في ذلك. ففي رأيهم، لا يقتصر مجتمع المعلومات على استخدام المعلومات في مرافق الحياة فحسب، بل لا بدّ أيضاً من الدخول في عملية إنتاج المعرفة، ولمحيط ثقافي واجتماعي وسياسي يؤمن بالمعرفة ودورها في الحياة اليومية للمجتمع (أحمد أبو زيد، 2003؛ أحمد سيد خليل، 2012). 
 
ويضيف أصحاب هذا الرأي أن المجتمعات العربية لم تمر في مرحلة التصنيع التي مرت فيها مجتمعات الغرب خلال تاريخ تطورها الاقتصادي، فكيف تقفز إلى مجتمع هو أرقى من المجتمع الصناعي؟
 
وعلى هذا الأساس، لا خيار أمام المجتمعات العربية راهناً سوى العمل على تنمية منظومة تكنولوجيا المعلومات ودمجها العضوي في المؤسسات المتعددة في المجتمع، وخصوصاً المؤسسات التعليمية والإعلامية والصحية وغيرها من المؤسسات التي يقتضي استمرار وجودها التعامل مع المعلومة والمعرفة، ذلك بأن الطريقة المثلى المتاحة أمامنا هي العمل على تنشئة أجيال جديدة من الشبان العرب تكون لهم توجهات مغايرة لما هو سائد، وقدرات على التأمل والتفكير والإبداع والابتكار، بحيث يؤلفون قوة ضخمة متخصصة عاملة في إنتاج المعرفة ويكرسون جهودهم في إنتاجها وتطويرها وتطبيقها في المجالات المتعددة، وخصوصاً في المجال الإعلامي، وذلك بحكم الدور الفاعل والقوي الذي يقوم به الإعلام في التغيير الاجتماعي، والتحول إلى مجتمعات أكثر حداثة ومعاصرة ومواكبة التغيرات الدولية والإقليمية. وهذا أمر ممكن، لكنه يحتاج إلى فلسفة وقواعد متعددة في الإدارة والتفكير. 
 
المراجع
أحمد أبو زيد (2003). المعرفة: صناعة المستقبل. العربي.
 
أحمد سيد خليل (2012). خطة تطوير التعليم في الوطن العربي وإعداد المعلم في ضوء متطلبات مجتمع المعرفة (رؤية مستقبلية) ورقة عمل غير منشورة مقدمة إلى المنتدى الدولي للتعليم: وزارة التربية والتعليم – الرياض.
 
ادريس الغزواني (2020). مانويل كاستلز ومفهوم مجتمع الشبكات من المجتمع إلى الشبكة: نحو مقاربة تأويلية للهوية والسلطة في عصر المعلومات. مجلة عمران. العدد 33/9. 
 
انوني غيدنز. (2005). علم الاجتماع. ترجمة فايز الصياغ. مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت
 
جون روبرت مكنيل، وليام هاردي مكنيل (2018). الشبكة الإنسانية: نظرة محلّقة على التاريخ العالمي. ترجمة مصطفى قاسم. سلسلة عالم المعرفة. آذار/مارس 458. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت.
 
حسني عبد العظيم. (2012). رأس المال الاجتماعي. الحوار المتمدن. العدد (3871). 
 
ديفيد إنجلز، وجون هيوسون. (2013). مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة. ترجمة لما نصير. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 
 
ريمي ريفيل (2018). الثورة الرقمية، ثورة ثقافية. ترجمة سعيد بلمبخوت. سلسلة عالم المعرفة. تموز/يوليو 462. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت.
 
السيد ياسين (2010). الثقافة العربية في ظل وسائط الاتصال الحديثة: النقد الثقافي العربي في الفضاء ألمعلوماتي. كتاب العربي. العدد (81).
 
عزت حجازي. (2006). رأس المال الاجتماعي كأداة تحليلية في العلوم الاجتماعية. المجلة الاجتماعية القومية. المجلد الثالث والأربعون. العدد الأول. كانون الثاني/يناير. 
 
مانويل كاستلز (2014). سلطة الاتصال، ترجمة محمد حرفوش، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط،1.
 
نديم المنصوري. (2014). سوسيولوجيا الإنترنت. بيروت: منتدى المعارف.
 
وليد زكي. (2010). المشاركة عبر المجتمع الافتراضي. مجلة الديمقراطية. تشرين الأول/أكتوبر. القاهرة.
 
وليد زكي. (2912). نظرية الشبكات الاجتماعية: من الأيديولوجيا إلى الميثولوجيا. القاهرة: المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني. آذار/مارس. 
 
Beck.U. (1991). Risk Society: Towards A New Modernity. London: Sage Publication.
 
Bell, D. (1973) The Coming of Post – Industrial Society: A venture in Social Forecasting. New York: Basic Books.
 
Castells, M. (1996) The Rise of Network Society, Vol. 1 of the Information Age: Economy, Society and Culture, Oxford: Blackwell Publication.
 
Drucker, P (1994). Post-Capitalist Society. Harper Collins Publishers. New York.
 
Giddens, A. (1999). Runaway World, The B.B.C. Reith Lecturers.London.BBC radio4.Bbx Education. Rheingold. (2003). The Virtual Community. Homesteading on The Electronic Fronteir.Reading.MA. Addison Wesley..
 
 Hassan, R (2004). Media, Politics and Network Society. Two Penn Plaza NY, NY: Open University Press. 
 
Stadler. (2006). Castells. John Willey and Sons Ltd. Polity books.
 
Swartiz,D. (1997). Culture and Power.The Sociology of Pierre Bourdieu.Chicago: The University of Chicago.
 
Wellman. B (1997) Social Structures: A Network Approach (Contemporary Studies in Sociology). Emerald Publishing Limited (January 1).
 
 
 
 
المصدر: الميادين