كُتّاب الموقع
كتاب "سيد اللعبة" يكشف انحياز كيسنجر إلى "إسرائيل" (1-2)

محمد علي فقيه

الأربعاء 5 تموز 2023

بمناسبة بلوغه 100 عام، صدر هذا العام عدد من الكتب عن "هنري كيسنجر" (27 أيار/مايو 1923 - 2023)، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركى خلال فترة إدارتي نيكسون وفورد، بين عامي 1968 و1977. وشهدت الأسابيع الأخيرة سيلاً من الكتابات في العالم بشأن كيسنجر، وإرثه التاريخي، وعلاقة أفكاره بما يحدث الآن في العالم. وبهذه المناسبة احتفلت به عائلته وأصدقاؤه.
 
ونشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً كتبه ابنه "ديفيد كيسنجر"، قال فيه إنه فخور بوالده لأنه كان يقرن بين السياسية والمبادئ. وردت عليه في اليوم التالي الصحيفة ذاتها بنشرها عريضة اتهام، تتضمن الجرائم التي عدّت كيسنجر مسؤولاً عنها، سواء حين كان مستشاراً للرئيس للأمن القومي، أو عندما كان وزيراً للخارجية.
 
تذكر الصحيفة أن كيسنجر حصل على جائزة نوبل للسلام بسبب إنهائه حرب فيتنام التي استمرت 20 عاماً، لكن الكثيرين قد يغفلون عن أنه هو الذي صعد من تلك الحرب، وأطال أمدها، كما وسّع نطاقها سراً، وعلى نحو غير قانوني، لتمتد إلى لاوس وكمبوديا؛ وذلك استناداً لفكرته القائلة بضرورة تسخين الأزمات ووصولها إلى الذروة، كي تقترب من الحل.
 
كما تتطرق عريضة الاتهام إلى الانقلابات التي كان وراءها كسنجر، وأبرزها في الأرجنتين، حيث نجحت المخابرات المركزية عام 1976، بتوجيه منه، في قلب نظام بيرون المنتخب ديمقراطياً وإحلال جونتا عسكرية مكانه، بقيادة خورخي فيديلا. وهناك تيمور الشرقية التي غزتها إندونيسيا بتشجيع من كيسنجر، ثم هناك غزو باكستان لبنغلاديش عام 1972، والذي نتج عنه مقتل مئات الآلاف وتشريد عدة ملايين، و في تشيلي دعم كيسنجر بكل قوة نظام الديكتاتور بينوشيه وما ارتكبه من فظائع بحق أنصار الحكومة المنتخبة ديمقراطياً، بقيادة السلفادور الليندي. ويقدّر البعض عدد من قُتلوا بسبب سياسات كيسنجر بالملايين، وهؤلاء لم يحظ أي منهم بالوصول إلى سن المئة، فالكثير منهم مات في ريعان شبابه.
 
وبمناسبة العيد الخمسين لحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، اختارت دار نهضة مصر في القاهرة إصدار ترجمة عربية لكتاب (Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy) "سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن الدبلوماسية في الشرق الأوسط"، للدبلوماسي الأميركي مارتن إنديك، وهو السفير الأميركي السابق في "إسرائيل"، ومساعد وزير الخارجية للرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأدنى، ومبعوث الرئيس باراك أوباما للمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، وترجمه ياسر محمد صديق. ونُشر في الأصل باللغة الإنكليزية برعاية مجلس العلاقات الخارجية ومقره نيويورك، ودار النشر "ألفريد أ. كنوبف"، في خريف عام 2021.
 
تكمن أهمية الكتاب في أن كثيرين من الخبراء في الشؤون السياسية في العالم يعتقدون أن هنري كيسنجر كان أحد أذكى وأدهى السياسيين في تاريخ أميركا والعالم في القرن العشرين، وأنه يجب الاحتذاء به والتعلم من مواقفه في حل نزاعات الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا والعالم، ومحاولة إعادة تطبيقها في المرحلة الحالية من التاريخ.
 
الكتاب يسرد بصورة مطولة تجربة كيسنجر الدبلوماسية عبر 5 أقسام، ولكل قسم عدة فصول، يبلغ مجموعها 17 فصلاً، ومشاركة هنري كيسنجر في مفاوضات سلام الشرق الأوسط، وتبعات ذلك على الصراع المستمر حتى اليوم.
 
ويرى إنديك أسلوب كيسنجر المنحاز إلى "إسرائيل"، وما أنجزه، أقوى حجة لإنجازاته الدبلوماسية في الشرق الأوسط، كون كيسنجر حوّل سلسلة من المآسي والمشاكل إلى فرص لإعادة تشكيل المنطقة.
 
يوضح إنديك، في ندوة عقدها "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك للإعلان بشأن كتابه، أن ما دفعه إلى إنجاز هذا الكتاب عن "كيسنجر"، سببان:
 
الأول يتعلق بعمق كيسنجر وقوته في وضع أساس بذور الدور الأميركي الجوهري في عملية السلام بين العرب والإسرائيليين. ويقول إنديك إنه "كونه المبعوث لعملية السلام خلال عهدي بوش وأوباما، وسفيراً مرتين لدى "إسرائيل"، "كان عليه التعلم جيداً مما قام به كيسنجر".
 
ويرى إنديك "غياب وجود عرض تفصيلي ضمن عشرات الكتب التي تناولت تاريخ كيسنجر عن دوره حين كان وزيراً للخارجية في النجاح في التوصل إلى 3 اتفاقيات، بينها اثنتان بين مصر و"إسرائيل"، وواحدة بين "إسرائيل" وسوريا، عقب حرب تشرين الأول/أكتوبر.
 
ويقول إنديك إن السبب الثاني شخصي، "ففي تشرين الأول/ أكتوبر 1973 كنت طالباً أسترالياً أدرس العلاقات الدولية في الجامعة العبرية في "إسرائيل"، وكنت متطوعاً في إحدى المستوطنات القريبة من قطاع غزة، عندما وقعت الحرب، وكنت أسمع كل يوم طائرات النقل الأميركية الضخمة من طراز (سي- 5 أيه)، وهي تنقل كل شيء من عتاد عسكري من مدرعات ودبابات، وغيرها".
 
ويضيف: "كنت أستمع إلى راديو بي بي سي لمعرفة آخر التطورات، وإلى تحركات كيسنجر التي ساهمت في التوصل إلى وقف إطلاق النار"
 
يتميز كتاب "سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن الدبلوماسية في الشرق الأوسط" بأمرين:
 
الأول أنه لم يسبق أن نجح أحد في اختراق مكتب كيسنجر وتسريب وثائق خطيرة منه، وخصوصاً في أوقات الأزمات. فمن يتابع السياسة الأميركية يجدْ أنها تعرّضت لأحداث كثيرة من تسريب المعلومات السرية للدولة، كما حدث عندما تم تسريب "أوراق البنتاغون"، وهي تقرير حكومي أميركي سري من7 آلاف وثيقة في عام 1971، بواسطة موظف مدني في وزارة الدفاع، ونشرت في"نيويورك تايمز". وتحتوي على وثائق الحرب الفيتنامية، أو كما حدث في فضيحة "ووترغيت"، التي خصت الرئيس نيكسون، ورسائل "ويكيليكس" التي خصت إدارة بوش الابن وحرب العراق. والآن في العهد الأميركى الحالي، تم تسريب وثائق أميركية، كشفت عنها صحيفة "نيويورك تايمز"، تتعلق بحرب أوكرانيا، وقد يصل عددها إلى أكثر من 100. 
 
استفاد مارتن إنديك من عمل زوجته لفترة غير قصيرة كسكرتيرةً لكيسنجر، الأمر الذي جعلها تعرف كثيراً من الأمور الشخصية والعملية عن "سيد اللعبة". فكان إنديك أول شخص "يخترق" "معهد كيسنجر"  الذي أسسه عام 1989، وينجح في "تسريب وثائق خطيرة" منه، وخصوصاً ما نصح به دولاً وقادة وزعماء.، بعد أن بات من أكثر مراكز الاستشارات السياسية أهمية في العالم خلال العقود الماضية.
 
تقول "كارولين أيزنبرغ"، أستاذة التاريخ في جامعة هوفسترا في نيويورك، إن كيسنجر عندما أسس معهده تعامل مع السياسة الخارجية كمشروع اقتصادي، ووظف فيها أبرز زملائه في الأمن القومي. وعلى رغم أنه حافظ على سرية قائمة عملائه، فإنه تبين أن الشركة قدمت استشارات إلى بنوك كبرى وشركات متعددة الجنسيات ومؤسسات عسكرية، الأمر الذي أثار تساولات بشأن مدى أخلاقية أن يقوم مسؤول كبير سابق يقدم توصيات إلى وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، في الوقت الذي يقدم المشورة إلى أطراف خارجية؟ ولهذا يقول "مات داس"، الباحث في مؤسسة "كارنيجي" للسلام، إن الصحافيين توقفوا عن هذه التساؤلات منذ أعوام بعيدة  لأن كيسنجر لا يجيب عنها.
 
الثانية أن إنديك استفاد في إعداد كتابه من آلاف الوثائق التي رُفعت عنها السرّية من الأرشيفين الأميركي والإسرائيلي، فضلا عن لقاءات جمعت الكاتب بكبار مسؤولي ملفات عملية السلام في الدول المعنية، ومقابلات واسعة ومتكررة مع كيسنجر نفسه، وخصوصاً مع بعض الشخصيات السياسية الرئيسة، مثل أنور السادات، وغولدا مئير، وموشيه ديان، وإسحق رابين، وحافظ الأسد، وكيسنجر نفسه، وغيرهم.
 
تحيّز كيسنجر إلى "إسرائيل"
 
 
 يُعتبر إنديك من أشد  المدافعين عن "إسرائيل" في واشنطن. فما ورد في الكتاب من إعجاب شديد بـ"وسيط السلام" هنري كيسنجر يعيد إلى  الذاكرة العربية ما أسماه المفكر الفلسطيني رشيد الخالدي "وسطاء الخداع"، وهو المصطلح الذي الذي أطلقه عنواناً لأحد كتبه بشأن انحياز سياسة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الاوسط إلى "إسرائيل". 
 
ما يرويه إنديك من سرد طويل عن كيسنجر يفضح دور الأخير السلبي في "عملية السلام"، ليس فقط في دعم "إسرائيل"، بل في إنقاذها أثناء حرب عام 1973 بعد أن كاد الهجوم المصري السوري يدمّرها. 
 
يكشف كتاب "سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن الدبلوماسية في الشرق الأوسط" أن  دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، بما في ذلك وزارتا الخارجية والدفاع والبيت الأبيض،  كانت ضد إرسال الأسلحة إلى "إسرائيل" كتعويض عن خسائرها في حرب أكتوبر عام 1973، وذلك خوفاً من قطع العرب للبترول عن الولايات المتحدة.
 
ويذكر ناشر الكتاب أنه كان لحرب  تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 أهميتها وصداها حين أفاق العالم على العبور المصري لقناة السويس على رغم عوائق العبور التي صنعتها "إسرائيل". حينها، انتبه العالم، بقطبيه، لقدرات المقاتل المصري، لا لقدرات السلاح الوارد من الكتلتين الغربية والشرقية. وأدرك العالم أن المصريين لن يتراجعوا.
 
كان المخطط المصري يدرك صعوبة المعركة وتحدياتها لأننا لا نحارب "دولة" الاحتلال وحدها، بل كل الذين ساندوها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، وجسرها الجوي الممتد من واشنطن  إلى أرض المعركة. ويكفي أن نقرأ مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي  الأسبق، إيهود باراك، الذي كان وقتها ضمن قوات الاحتياط الإسرائيلي، حينما قال: "في ذلك اليوم، ضاع أثر نصر عام 1967 النفسي، وضاع الشعور بأن الجيش الإسرائيلي لا يُهزَم".
 
 نذكر هنا ما كشفه كيسنجر في مذكراته "سنوات البيت الابيض"، وفيه أنه في "9 تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، (اليوم الرابع للحرب)، عندما كانت عقارب الساعة في واشنطن تشير إلى الساعة الثانية ظهراً  (السابعة مساءً بتوقيت القاهرة)، حدثت حالة من الذعر والانهيار والبكاء داخل أرجاء السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأميركية في إثر وصول برقية عاجلة من "أبا إيبان"، وزير الخارجية الإسرائيلي، إلى "سيمحا دينتنر"ـ السفير الإسرائيلي لدى واشنطن، يطلب فيها إجراء اتصالات فورية وعاجلة بالإدارة الأميركية كي تعمل على وقف القتال فوراً من دون أي شروط من جانب إسرائيل، ثم أعقب ذلك مباشرة وصول برقية أخرى من مكتب رئيسة الوزراء غولدا مائير تطلب فيها إبلاغ البيت الأبيض والبنتاغون الأميركي أن إسرائيل في حاجة ماسة وعاجلة للحصول على إمدادات فورية من قذائف الدبابات".
 
ويذكر إنديك أن كيسنجر وحده كان مع إرسال الأسلحة حتى يقطع الطريق على الاتحاد السوفياتي لتوطيد قدميه في المنطقة، وأقنع نيكسون بهذه الحجة. وحتى بعد تفوق "إسرائيل" اللاحق بسبب هذه الإمدادات، والاتفاق على وقف إطلاق النار وإقرار القرار 338 في الأمم المتحدة، نصح كيسنجر "إسرائيل" بخرق وقف إطلاق النار، واحتلال مزيد من الأراضي المصرية، الأمر الذي نتجت منه محاصرة الجيش المصري الثالث وقطع الإمدادات.
 
ويقول إنديك أنه كان واضحاً أن كيسنجر اتخذ من أجل ذلك مواقف كانت في بعض الأحيان ضد رئيسيه: نيكسون، ثم فورد.
 
كل ذلك يذكّرنا بما أورده مؤلفو كتاب "كيسنجر مفاوضاً"، وهو أن كيسنجر كان يمرر مبادراته وخططه، ويروّج مواقفه المتعاطفة مع الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي إلى "إسرائيل" في سبعينيات القرن الماضي عن طريق تقديم عروض مغرية إلى السوفيات في شؤون أخرى مهمة لهم في أماكن أخرى من العالم، فيشير المؤلفون إلى أن العدد الذي سمح النظام السوفياتي السابق له بالهجرة (وخصوصا إلى "إسرائيل") في عام 1968 ناهز 400 شخص فقط، وارتفع هذا العدد بالتدريج مع تحسن العلاقة السوفياتية _ الأميركية فارتفع حتى بلغ 35 ألفاً عام 1973، وازداد بعد ذلك حتى نهاية تحكم كيسنجر في وزارة الخارجية في عهدي نيكسون وفورد إلى عشرات الآلاف، وبعد ذلك إلى أضعاف هذا العدد.
 
 
المصدر: الميادين