كُتّاب الموقع
أزمة سقف الديون.. كيف يتسبّب اقتصاد دولة واحدة في كساد عالمي؟

إسراء سيد

الجمعة 2 حزيران 2023

تخيّل أن الاقتصاد الأمريكي قد انهار، وأننا أمام أزمة اقتصادية عالمية تبدو معها أزمة 2008 كـ"حفلة شاي" حسب توصيف سيمون فرينش، كبير الاقتصاديين في بنك الاستثمار "بانمور غوردون".
 
هذا الخيال يمكن أن يصبح واقعًا مع تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها بحلول الأول من يونيو/ حزيران، وقد تفلس الحكومة في الخامس من يونيو/ حزيران، ما قد يؤدي إلى عجز عن الوفاء بالتزاماتها المالية يضرّ الاقتصاد الأمريكي، ويفاقم تكلفة الاقتراض، وتنعكس آثاره الكارثية على الاقتصاد العالمي. 
 
 كيف وصل الحال إلى هذا السيناريو الكارثي؟
 
 
تنفق حكومة الولايات المتحدة أموالًا أكثر ممّا تكسب، وهي تعاني بالفعل من عجز يصل إلى تريليون دولار سنويًّا، ولتعويض الفارق تلجأ إلى الاقتراض ضمن سقف محدد من قِبل الكونغرس، وهو ما يُعرَف بسقف الدين.
 
في العام الأخير، حُددت الميزانية الأمريكية بـ 6.5 تريليونات دولار، بينما قُدِّرت المداخيل بـ 4.6 تريليونات دولار، وهذا يعني وجود عجز قيمته 1.9 تريليون دولار، ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة مثل إيطاليا، وبدأ العجز الذي تراكم طوال السنوات الماضية عام 2019 قبل ظهور جائحة كورونا، ويعدّ حاليًّا أعلى بـ 3 أضعاف من مستواه عام 2019. 
 
عجز الميزانية مرضٌ قديم أصاب الاقتصاد الأمريكي، لأن واشنطن وجدت حلًّا عابرًا للأزمات بسندات وزارة الخزانة، ظهر عندما قررت أمريكا دخول الحرب العالمية الأولى، وبسبب الحاجة للأموال باعت الخزانة الأمريكية صكًّا ماليًّا للبنوك مقابل فوائد سنوية، وكان لجوء الخزانة للقروض مرهونًا بموافقة الكونغرس الأمريكي، لتجنُّب الإجراءات البيروقراطية في زمن الحرب، ومنح وزارة الخزانة صلاحيات محددة للاقتراض دون طلب تصويت الكونغرس كل مرة.  
 
قبل أكثر من قرن، وتحديدًا عام 1917، أقرَّ الكونغرس في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق وودور ويلسون قضية الاقتراض عبر قانون "سندات الحرية الثاني"، لكن بشرط الالتزام بسقف أقصى يمكن للحكومة استدانته، وذلك لتغطية العجز بين إيراداتها ونفقاتها لتتمكّن من تأمين الأموال اللازمة لدفع رواتب الموظفين والعسكريين، وشركات الضمان الاجتماعي، وخدمات الرعاية الصحية، وغيرها من أوجُه النفقات الحكومية.
 
ويتم ذلك، أي اقتراض الحكومة للأموال، عبر طرح السندات الحكومية التي يُنظر إليها عالميًّا على أنها استثمار آمن وموثوق للبيع، وتحتاج الحكومة في حال وصول الدين العام للسقف المحدد إلى موافقة الكونغرس لرفعه لكي تتمكن من الاقتراض من جديد، وبالتالي سقف الديون ليس سوى تشريع لا بدَّ منه لإنقاذ البلاد من الأزمة.
 
ومنذ عام 1960، تدخّل الكونغرس لرفع سقف الديون 78 مرة (49 في عهد الجمهوريين، و29 مرة في عهد الديمقراطيين)، كان آخرها في 1 أغسطس/ آب 2021 عندما رفع الكونغرس في النهاية سقف الديون بمقدار 2.4 تريليون دولار (من 28.4 تريليون دولار إلى 31.8 تريليون دولار)، لكن هذا الإجراء الذي يتم بشكل شبه روتيني يتحول في كل مرة إلى ساحة لتصفية حسابات سياسية على حساب الاقتصاد، كما حدث في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
 
حتى وقت غير بعيد، لا أحد كان يصدّق أن الولايات المتحدة -التي تتربّع على رأس الاقتصادات العالمية، وصاحبة أقوى عملة، والدولة الأكثر ثراءً في العالم وأكثرها مديونية أيضًا- عاجزة عن سداد ديونها، ففي 19 يناير/ كانون الثاني الماضي وصلت البلاد إلى السقف الأعلى للدين البالغ 31.4 تريليون دولار.
 
من هنا، دبّت الخلافات والانقسامات بين الحزبَين الرئيسيَّين (الديمقراطي والجمهوري)، لا على مبدأ الدَّين بحدّ ذاته، بل على كيفية التعامل مع العجز الاتحادي، وطريقة نفقات الموازنة الاتحادية وأولوياتها، التي يهدف الجمهوريون إلى خفضها 3 تريليونات دولار أولًا، أي ما يضاهي الناتج المحلي الفرنسي، بينما يرى الديمقراطيون أن الأمريكيين الأثرياء والشركات يجب أن يدفعوا ضرائب أكثر. 
 
ارتفع الدين الأمريكي خلال فترة 1980-2022
 
 
تبدو الأزمة الحالية مشابهة لأزمة العام 2011 بين إدارة أوباما والجمهوريين، لكن المرة السابقة كثرت الأطراف المتداخلة من بينها أعضاء مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى أعضاء مجلس النواب من الجمهوريين، وتسبّبت الأزمة وقتها في انهيار الثقة بسندات الخزينة الأمريكية وبرفع أسعار الفائدة. 
 
الماراثون لم ينتهِ بعد
 
 
هذه المرة، ومن دون أي احتفال، وبمصطلحات تعكس المضمون المرير للمفاوضات التي استمرت شهورًا، توصّل الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي إلى اتفاق لرفع سقف دين الحكومة الاتحادية، اتفاق من حيث المبدأ، لكنه يأتي تتويجًا لمفاوضات جنونية كانت متأزّمة.
 
الاتفاق الذي من شأنه رفع سقف الدين لمدة عامَين، يشمل أيضًا تجميد الإنفاق على البرامج المحلية وزيادة الإنفاق على قضايا الدفاع والمحاربين القدامى، وفرض بعض متطلبات العمل الجديدة وبرامج المساعدة الغذائية الفيدرالية، وتغيير بعض القواعد المتعلقة بالطاقة.
 
رغم ذلك، لم ينتهِ الماراثون بعد، في انتظار تصويت مجلس النواب (اليوم الأربعاء 31 مايو/ أيار) الذي يسيطر عليه الجمهوريون الذين يرفضون الموافقة على رفع الحدّ القانوني لما يمكن للحكومة اقتراضه، ويهددون بالسماح للحكومة بالتخلف عن سداد ديونها، ويشترطون -كحلٍّ مؤقت- إجراء تخفيضات كبيرة في الميزانية الحكومية والإنفاق، الأمر الذي ترفضه إدارة بايدن، وتتهم خصومها في الكونغرس بأخذ الاقتصاد الأمريكي رهينة في أيديهم لدفعها للقيام باقتطاعات جائرة من الميزانية.
 
ورغم تأكيد مكارثي أن الاتفاق يمثل حلًّا وسطًا، أوضح أيضًا أن المعركة القادمة لتأمين أصوات ما لا يقلّ عن نصف أعضاء حزبه الجمهوري ستكون لحظة حاسمة له، كما سيكون بايدن أيضًا تحت ضغوط لتقديم أصوات من حزبه الديمقراطي لتمرير مشروع القانون. 
 
وفي مجلس الشيوخ الذي سيصوت على الاتفاق لاحقًا، ويسيطر عليه الجمهوريون أيضًا، يمكن لأي عضو إبطاء العملية لمدة تصل إلى أسبوع، ما يدخل البلاد في مرحلة إضافية من الشكوك بشأن تجنُّب العجز عن سداد الديون، في حين يتوقع اقتصاديون أنه لا يزال هناك القليل من اليقين بأن البلاد سوف تتجنّب هذا السيناريو، إذ يواصل الطرفان العمل على تعزيز الدعم بشأن الاتفاقية. 
 
في واشنطن الآن تساؤلات كثيرة حول موقف الجيل الجديد من المشرّعين الجمهوريين الذين يوصفون بـ"المحافظين اليمينيين المتشددين"، والذين يعدون سقف الإنفاق الحالي خطرًا على النمو الاقتصادي، وطالما هددوا بالتعنُّت في مواقفهم التشددية في المستقبل.
 
ورغم اتفاق بايدن ومكارثي على أن التخلف عن سداد الديون أمر غير مطروح، واستبعاد البيت الأبيض لجوء بايدن إلى التعديل الرابع عشر للدستور لتجاوز أزمة سقف الدين، لا تزال المخاوف من التخلف مستمرة، وتغذيها تصريحات متكررة واظبت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين على إصدارها.
 
إذ تقول يلين إن الحكومة الاتحادية لن يكون لديها ما يكفي من أموال لسداد جميع التزاماتها بحلول الأول من يونيو/ حزيران، ما قد يؤدي إلى تعثر كبير في السداد يضرّ الاقتصاد الأمريكي، ويفاقم تكلفة الاقتراض، وتنعكس آثاره الكارثية على الاقتصاد العالمي.
 
السيناريو الأسوأ 
 
 
تعرّض الاقتصاد العالمي لصدمتَين هائلتَين في 3 سنوات، وقد يكون على وشك أن يعاني من الثالثة على شكل أزمة ديون أمريكية، فبعد جائحة كورونا والحرب الأولى في أوروبا منذ عام 1945، أصبح شبح نفاد السيولة النقدية الأمريكية يطارد الأسواق المالية الآن.
 
حتى الديون الحكومية العالمية المتصاعدة أصلًا فاقمتها حرب روسيا على أوكرانيا، التي تسبّبت في قفزة معدلات التضخم العالمية، وارتفاع أسعار الفائدة في معظم دول العالم، فقد اقتربت الديون العام الماضي من 100 تريليون دولار، مسجّلة بذلك رقمًا قياسيًّا جديدًا يعادل 94.4% من إجمالي الناتج العالمي حسب بيانات صندوق النقد الدولي. 
 
يأتي ذلك في وقت ارتفعت فيه قيمة الديون الإجمالية العالمية التي تشمل ديون الأفراد والشركات والأسر إلى 220 تريليون دولار، أي ما يعادل 250% من إجمالي الناتج العالمي، كما تفاقم عجز ميزانيات الحكومات إلى ما يعادل 4.9% خلال العام الماضي. 
 
في الولايات المتحدة التي تتصدر الدول الأعلى ديونًا في العالم، يُجمع كثير من الاقتصاديين الأمريكيين أن هذه الأزمة ستعرِّض أسواق المال الأمريكية لخسائر فادحة، وتلحق ضررًا فادحًا بسمعة الولايات المتحدة الاقتصادية، ويفقد نظامها المالي موثوقيته الدولية، وسط توقعات بأن يُحدث ذلك ضررًا بالغًا بالاقتصاد الأمريكي، في حال العجز عن التوصل لاتفاق خلال أيام.
 
إذا كانت أزمة الديون التي تعصف بواشنطن ستدفع الولايات المتحدة في النهاية إلى الدخول في فخّ الركود، فلن ينهار الاقتصاد الأمريكي بمفرده، فقد تتسبّب الهزات الارتدادية لهذا الزلزال المالي الوشيك في إحداث أزمة مالية عالمية، لا سيما مع الضرر الذي سيلحق بسوق السندات وارتفاع الفوائد على الاقتراض، وربما التوقف عن منح القروض للشركات والطلاب والدول.   
 
لم تتخلف الولايات المتحدة عن عمد في سداد ديونها، ما يجعل من المستحيل التنبؤ بالآثار المحتملة التي يمكن أن يحدثها ذلك على النظام المالي الدولي، ومع ذلك يتوقع معظم الاقتصاديين أن ذلك سيكون "سيّئًا وواسع الانتشار"، ومن وجهة نظر خبراء ستكون أمريكا على حافة انهيار نقدي قد يؤدي إلى عواقب وخيمة مع تداعيات على الاقتصاد العالمي بالكامل، وقد يخلق ظروفًا أسوأ ممّا كانت عليه خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008. 
 
وفي حال وقع السيناريو الأسوأ، فإنه سيؤدي إلى فقدان الحكومة الأمريكية القدرة على طلب ديون جديدة ودفع فواتيرها، وستتضرر البنوك الأمريكية داخل الامتدادات الدولية التي تعدّ من أكبر المقرضين للحكومة، فضلًا عن العجز عن تأمين الأموال اللازمة لدفع رواتب الموظفين أو المقاولين المتعاقدين معها، كما قد يؤدي إلى وضع حد مؤقت لعملية استرداد الضرائب وخدمات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، وغيرها من أوجُه النفقات الحكومية. 
 
كما أن الاحتمالات لحصول ركود حاد في الاقتصاد الأمريكي ستزيد بشكل كبير، الأمر الذي سيكون له حتمًا ارتدادات عالمية وسط توقعات بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4% تقريبًا، وفقدان سوق العمل الأمريكي أكثر من 6 ملايين فرصة عمل، ما يعني ارتفاع معدلات البطالة بشكل قياسي.
 
بالنسبة إلى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، فإن استمرار الأزمة يعني عدم دفع رواتب القوات المسلحة، والتي تبلغ أكثر من 4 مليارات دولار شهريًّا، والتوقف عن دفع تعويضات الأفراد والضباط المتقاعدين، والتي تبلغ 12 مليار دولار شهريًّا، ومواجهة صعوبات في تمويل برامج صناعات الأسلحة المبرمجة مستقبلًا، وعدم القدرة على توفير المساعدات المجانية والهبات المسلحة للدول الخارجية.
 
في المقابل، الاعتقاد بأن الحكومة الأمريكية ستدفع لدائنيها في الوقت المحدد يدعم الأداء السلس للنظام المالي العالمي، فهي تجعل من الدولار عملة احتياطي العالم من النقد الأجنبي، ومن سندات الخزانة الأمريكية حجر الأساس لأسواق السندات في جميع أنحاء العالم.
 
خلال مواجهة عام 2011 بشأن رفع سقف الديون الأمريكية، انخفض مؤشر "ستاندارد آند بورز 500" (إس آند بي 500) للأسهم الأمريكية الرائدة بأكثر من 15%، واستمر المؤشر في الانخفاض حتى بعد التوصل إلى اتفاق، والذي حدث قبل ساعات فقط من نفاد أموال الحكومة.
 
حتى الآن، تتجاهل أسواق الأسهم إلى حد كبير أي تخلف محتمل عن السداد، حتى مع اقتراب الموعد النهائي. في ذلك الوقت، قد تنفد أموال الحكومة غير القادرة على اقتراض المزيد، وفقًا لوزيرة الخزانة التي لا تزال تساورها المخاوف بأنه حتى في الفترة التي تسبق الاتفاق، -عندما يحدث ذلك- يمكن أن يكون هناك ضائقة كبيرة في السوق المالية. 
 
ربما تكون هذه النتيجة نفسها التي خلص إليها خبراء في وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، فبحسب توقعاتهم حتى لو تمَّ اختراق سقف الدَّين لمدة لا تزيد عن أسبوع، فإن الاقتصاد الأمريكي سيضعف كثيرًا وبسرعة كبيرة، ما يؤدي إلى القضاء على ما يقرب من 1.5 مليون وظيفة.
 
ووجد هؤلاء في تحليلهم أنه إذا استمر التخلف عن السداد الحكومي لفترة أطول -حتى الصيف-، فستكون العواقب وخيمة للغاية: النمو الاقتصادي الأمريكي سيتراجع، وستختفي 7.8 ملايين وظيفة أمريكية، وستقفز معدلات الاقتراض، وسيرتفع معدل البطالة من النسبة الحالية البالغة 3.4% إلى 8%، وسيؤدي هبوط سوق الأسهم إلى محو 10 تريليونات دولار من صافي إجمالي الأسر المعيشية.
 
لقد سبق أن وضعت وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني لأمريكا عند أعلى درجاتها "AAA"، وأعادت هذه الخطوة ذكريات عام 2011، عندما خفّضت شركة "إس آند بي غلوبال" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من "AAA" إلى "AA +"، رغم أنها لم تتخلف عن السداد، ولم تكرر "إس آند بي غلوبال" حتى الآن هذا التصنيف الائتماني المثالي بعد أكثر من عقد من الزمان. 
 
تداعيات كارثية
 
 
على الصعيد الدولي، سيؤدي التخلف عن السداد إلى ارتفاع أسعار الفائدة وتقليل قيمة الدولار مقابل العملات العالمية الأخرى، وإصابة الأسواق العالمية بحالة من الركود الذي سيفرض على المستهلكين والشركات تقليل كمية السلع والخدمات من خارج البلاد، وهنا سيكون الضرر أكبر على الدول التي تعتمد على الصادرات إلى الولايات المتحدة. 
 
ليس هذا فحسب، انخفاض قيمة الدولار قد تتسبّب في انخفاض حجم التبادلات التجارية العالمية، ما يؤثر سلبًا على البلدان التي يرتبط اقتصادها بالدولار.  
 
في حال لم تتمكن واشنطن من الوفاء بالتزاماتها دون الحكومة، يقول خبراء إن الدول الأخرى، خاصة الصين وروسيا، ستستخدم المأساة الاقتصادية لأمريكا كـ"تذكرة ذهبية" لخلق نظام عالمي جديد أقل اعتمادًا على الدولار، مقابل دفع عملتها الخاصة لتصبح بمثابة أساس للتجارة العالمية مستقبلًا.
 
ويرى مراقبون أن هناك مخاوف كثيرة من اهتزاز ثقة المقرضين وتراجع مكانة الدولار كعملة احتياطية، ويمكن أن يكون لفقدان الثقة بالدولار تداعيات بعيدة المدى على الاقتصاد والسياسة الخارجية أيضًا. 
 
انخفضت بالفعل حصة احتياطيات الدولار الأمريكي التي تحتفظ بها البنوك المركزية إلى 59% -أدنى مستوى لها منذ 25 عامًا- خلال الربع الرابع من عام 2020، ويأتي اليورو ثانيًا بنسبة 20%، ويشكّل اليوان الصيني أقل من 3% على مستوى العالم عام 2021، وفقًا لصندوق النقد الدولي. 
 
سعت كل من روسيا والصين منذ فترة طويلة لاستبدال الدولار بالعملة الصينية المعتمدة "الرنمينبي" مع ما يسمّى بدول "البريكس"، التي تفكر في إنشاء عملة مشتركة للتحرر من "الدولرة".
 
وبين عامَي 1999 و2019، شكّل الدولار 96% من فواتير التجارة في الأمريكيتَين، و74% في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وفي أماكن أخرى خارج أوروبا حيث يهيمن اليورو شكّل الدولار 79% من التجارة، وفقًا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.
 
تعد العملة الأمريكية موثوقة للغاية، لدرجة أن التجار في بعض الاقتصادات غير المستقرة يطالبون بالدفع بالدولار بدلًا من عملة بلدهم.
 
لنأخذ على سبيل المثال سريلانكا التي تأثرت بالتضخم الحاد في العملة المحلية، ففي وقت سابق من هذا العام رفض مسؤولو الشحن الإفراج عن 1000 حاوية من المواد الغذائية ما لم يتم دفع ثمنها بالدولار، وتراكمت الشحنات في الأرصفة في العاصمة كولمبو، لأن المستوردين لم يتمكنوا من الحصول على دولارات للدفع للمورّدين.
 
الدولار هو أيضًا العملة المهيمنة في الخدمات المصرفية الدولية، لكن حتى لو تمتّع الدولار وسندات الخزانة ببعض الحماية بفضل دورهما الضخم في التجارة والتمويل الدوليَّين، فإن هذا لا يعني أن تداعيات التخلف عن السداد في الولايات المتحدة لن تكون قاسية.
 
وبالمثل، فإن العديد من المتاجر والمطاعم في لبنان، حيث تصاعد التضخم وانخفضت العملة، تطالب بالدفع بالدولار، وفي عام 2000 استبدلت الإكوادور عملتها، السوكري، بالدولار -وهي عملية تسمّى "الدولرة"-، وتمسّكت بها في أعقاب الأزمة المصرفية.
 
حتى عندما تنشأ أزمة في الولايات المتحدة، فإن الدولار هو دائمًا الملاذ المفضّل للمستثمرين، هذا ما حدث في أواخر عام 2008، عندما أطاح انهيار سوق العقارات في الولايات المتحدة بمئات البنوك والشركات المالية، بما في ذلك بنك "ليمان براذرز" (Lehman Brothers) الذي كان يومًا ما قويًّا.
 
رغم أن الدولار لا يزال مهيمنًا عالميًّا، إلا أنه فقدَ بعض مكاسبه في السنوات الأخيرة، مع تحول المزيد من البنوك والشركات والمستثمرين إلى اليورو، واليوان الصيني بدرجة أقل، حيث تميل البلدان الأخرى إلى الاستياء من أن التقلبات في قيمة الدولار يمكن أن تضرّ بعملاتها واقتصاداتها.
 
يمكن أن يؤدي ارتفاع الدولار إلى أزمات في الخارج عن طريق سحب الاستثمارات من البلدان الأخرى، ورفع تكلفة سداد القروض بالدولار، كما أن حرص الولايات المتحدة على استخدام نفوذ الدولار لفرض عقوبات مالية ضد المنافسين والخصوم، يُنظر إليه على أنه أمر غير مريح أيضًا من قِبل بعض الدول الأخرى.
 
بسبب المخاوف من العقوبات الأمريكية، سعت كل من روسيا والصين منذ فترة طويلة لاستبدال الدولار بالعملة الصينية المعتمدة "الرنمينبي"، مع ما يسمّى بـ"دول البريكس" التي تفكر في إنشاء عملة مشتركة للتحرر من "الدولرة"، وقد يكون التخلف عن سداد ديون الدولة كافيًا لإقناع دول الطرف الثالث بأن الولايات المتحدة ليست جديرة بالثقة، وأن اقتصاداتها ستتم خدمتها بشكل أفضل من خلال الاستثمار في موسكو وبكين.
 
المؤسسات الاقتصادية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان، يحذّران من أن المواطن العادي، خصوصًا في الاقتصادات النامية والناشئة، سيدفع ثمنًا باهظًا جرّاء تراكم تلك الديون، وهو الثمن المتمثل في تراجع حجم الخدمات وأشكال الدعم الاقتصادي التي تقدمها الحكومة الأمريكية.
 
ويُظهر التخوف الذي يسود الأسواق عن مصير الجدل حول سقف الدين من جديد، ثقل تأثير سياسات الأمريكيين على سواهم، ويبرهن كذلك على ذلك أن الولايات المتحدة لا تزال قاطرة العالم التي تقوده نحو الازدهار أو الهاوية.
 
 
المصدر: نون بوست