كُتّاب الموقع
شبح الإفلاس.. ما تداعيات الأزمة الأمريكية على المنطقة العربية؟

صابر طنطاوي

الجمعة 26 أيار 2023

"نأسف لعدم تمكّننا من دفع رواتبكم..."، قد تكون هذه رسالة الحكومة الأمريكية لموظفيها العموميين نهاية الشهر الجاري، إذا ما استمرت أزمة سقف الدين قائمة لما بعد انتهاء المهلة المحددة والمقرر لها الأول من يونيو/ حزيران القادم، بجانب إضاءة اللون الأحمر هبوطًا أمام الدولار ومؤشرات تقييم الاقتصاد الأمريكي، وربما حدوث إغلاق حكومي كامل.
 
أزمة طاحنة تواجهها الولايات المتحدة هذه الأيام، حيث التخلف عن سداد مستحقات ديونها، وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية، بسبب بلوغ الدين العام السقف المحدد له قانونًا والمقرر بما يُعادل 31.4 تريليون دولار، ما دفع الكونغرس الأمريكي إلى منح الرئيس جو بايدن والحكومة مهلة حتى يوم 1 يونيو/ حزيران المقبل، وإلا ستتخلف واشنطن عن الوفاء بالتزاماتها الخارجية والداخلية، وتعلن بشكل رسمي وقف تمويل مشاريعها العامة.
 
اجتماعات مكثفة عقدها بايدن مع رئيس مجلس النواب، كيفن مكارثي، ووزيرة الخزانة، جانيت يلين، بحضور ممثلين عن الحزبَين الديمقراطي والجمهوري، وصفت في مجملها بالبنّاءة لكنها لم تسفر عن اتفاق رسمي نهائي بشأن حلحلة الأزمة، والخروج من هذا النفق قبل انتهاء المهلة المحددة.
 
يحبس الاقتصاد العالمي أنفاسه إزاء هذا التطور الذي سيلقي بظلاله القاتمة على المنظومة الاقتصادية الدولية بشتى مجالاتها، في الوقت الذي تتأرجح فيه آراء الاقتصاديين حول تلك الأزمة وحجم امتداد تأثيرها خارجيًّا، لكن تبقى المنطقة العربية والشرق أوسطية الرخوة بطبيعة الحال -كالعادة- هي الأكثر تأثرًا بمثل تلك الهزات التي قد تعيد تشكيل اقتصاداتها بشكل جذري.
 
الخلافات الحزبية.. كلمة السر
 
 
في بداية هذا العام، اتخذت الولايات المتحدة حزمة من الإجراءات الاستثنائية لإنقاذ الاقتصاد الوطني من الهزات التي تعرّض لها خلال السنوات الماضية، حيث اتسعت الهوة بين المصروفات والإيرادات، ما نجم عنه عجز كبير اضطرت الحكومة لأجل مواجهته إصدار أذونات وسندات خزانة، تتأرجح فتراتها الزمنية من 3 شهور وحتى 10 سنوات، ثم تقوم ببيع السند نظير نسبة معيّنة من الفائدة.
 
وليس بحديث عهد على واشنطن رفع سقف الدين الخاص بها، إذ تنتهج تلك السياسة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حتى تحولت إلى استراتيجية تقليدية تلجأ إليها الحكومة بشكل دوري للهروب من الأزمات التي تواجهها بين الحين والآخر، غير أن الأمر تفاقم بعد جائحة كورونا ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية، والتي شكّلت ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد الأمريكي والسياسات النقدية والمالية، وصولًا إلى الوضعية الصعبة الحالية.
 
وفي ظلّ المستجدات القاسية التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال السنوات الخمس الأخيرة، تحوّلت مسألة رفع سقف الدين التي كانت في السابق عملية روتينية إلى محل خلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين، حيث يسعى الحزب الجمهوري إلى تقليص الإنفاق كشرط أولي للموافقة على رفع السقف.
 
وهكذا دخلت الخلافات الحزبية كلاعب أساسي على مسرح العلميات في هذا الملف، وهو لبّ الصراع الدائر حاليًّا، حيث التحفظ الجمهوري على معظم البنود والمقترحات المقدمة من الديمقراطيين بشأن مسارات الإنفاق، ففي أبريل/ نيسان الماضي صوّتت الكتلة الجمهورية في الكونغرس لتخفيف النفقات الحكومية بمقدار 4 تريليونات دولار، وهو ما لم يَرُق للديمقراطيين، ما نجم عنه تجميد للكثير من المشاريع وبالتالي رفضَ الجمهوريون الموافقة على رفع سقف الدين للخروج من هذا المأزق.
 
ولا تزال المشاورات والمباحثات بين الحزبَين مستمرة حتى الساعة، وسط مساعٍ وضغوط ممارسة لتمرير هذا المشروع قبل نهاية المهلة المحددة (1 يونيو/ حزيران 2023)، وسط ابتزاز معلن من قبل الجمهوريين لتنفيذ مطالبهم، وإلا فإحراج الديمقراطيين هو السيناريو المتوقع ولو كان ذلك على حساب الاقتصاد الوطني.
 
بين التهوين والتهويل
 
 
وينقسم خبراء الاقتصاد والمحللون الأمريكيون إزاء تلك الأزمة إلى قسمَين، الأول يرى أنها مجرد حالة عابرة لن تستمر كثيرًا، كما أن تداعياتها لن تكون بالشكل الذي يروج له، وهو يرجّحه كبير الخبراء الاقتصاديين لدى مصرف "سيتي غروب"، نايثان شيتس، والذي يرى أن الأسواق ستعود إلى طبيعتها بمجرد التوصل إلى اتفاق.
 
حيث لفت إلى أنه في حال انتهاء المهلة وتخلفت أمريكا عن سداد ديونها قصيرة الأجل، فسيكون "إعطاء الأولوية لسداد الديون وتأخير مدفوعات أخرى، مثل المدفوعات المخصصة للوكالات الفيدرالية وللمستفيدين من الضمان الاجتماعي ولمقدمي خدمات الرعاية الطبية".
 
ولم تكن الأزمة الحالية هي الأولى من نوعها، ففي 2011 تعرّضت أمريكا لأزمة سقف دين مماثلة، واستطاعت التعامل معها بشكل عملي قلّصت من خلاله من تداعياتها وتأثيرها، وفق ما ذهبت الباحثة في الدراسات الاقتصادية بمؤسسة "بروكينغز" للبحوث، ويندي إدلبرغ، التي استبعدت "حصول إغلاق حكومي، رغم احتمال تأجيل رواتب الموظفين الحكوميين".
 
وعلى الجانب الآخر يرى فريق من الخبراء أن عجز واشنطن عن سدادها التزاماتها وديونها المقررة "قد يثير شكوكًا جدّية حول الجدارة الائتمانية للدولة، ويقوض ثقة المقرضين ويشكّك في مكانة الدولار كعملة احتياطية، ويزيد كلفة الاقتراض الفيدرالي"، حسبما ذهب الزميل في مركز بحوث الميزانية وأولويات السياسات في الولايات المتحدة بول فان دي، مضيفًا أن مجرد الإعلان عن تخلف الولايات المتحدة عن السداد ربما يكون "سببًا كافيًا لإحداث اضطراب في الأسواق، وإلحاق مزيد من الضرر بالاقتصاد العالمي".
 
وعن تداعيات هذا الأمر على الاقتصاد الأمريكي، يتوقع مدير قسم الدراسات الاقتصادية في كلية إدارة الأعمال بجامعة IESEG الفرنسية إريك دور، أن "ترتفع بشكل حاد أسعار الفائدة التي يفرضها المستثمرون على السندات التي تصدرها الولايات المتحدة"، كذلك "انخفاض في الاستثمارات في الأعمال التجارية والأسر وكذلك في الاستهلاك، بالتالي سيحدث ركود حادّ في الولايات المتحدة"، لافتًا أن ذلك قد يتسبّب في أزمة ركود قوية في أوروبا وبعض المناطق الأخرى.
 
وبين هذا وذاك، هناك من يرى أن الأزمة إعلامية في المقام الأول، وربما يتم تسييسها من قبل الأحزاب الأمريكية، وأنها أقل حدّة وخطورة ممّا تبدو عليه، وهو الرأي الذي يتفق معه محلل الأسواق المالية المصري، نور الدين الحاموري.
 
حيث يقول في تصريحات متلفزة له لقناة "القاهرة الإخبارية"، إن "حالة الخوف موجودة في الأسواق وعلى صعيد المنصات الإعلامية فقط، وفي عهود رئاسية سابقة كعهد أوباما وبيل كلينتون وجورج بوش ودونالد ترامب، مرَّت الولايات المتحدة بأزمات مشابهة تمامًا ووضعت حلولًا لسقف الدين"، متوقعًا أن تُحل تلك الأزمة بالدستور الذي يمنح رئيس الدولة صلاحيات يمكن أن يطبّقها في حالة عدم التوصل إلى حلول نهائية.
 
 
تداعيات على الدول العربية
 
 
"سيكون الإفلاس كارثيًّا".. هكذا علّق المدير التنفيذي لبنك "جي بي مورغان"، جيمي ديمون، على أزمة سقف الدين الأمريكي حال قدوم الأول من يونيو/ حزيران دون حلّ جذري، إذ إن التصنيف الائتماني للولايات المتحدة هو الأكثر موثوقية في العالم (تصنفها وكالات التصنيف بـ AAA)، ومن ثم الإعلان عن إفلاس رسمي وعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات سيترتّب عليه تداعيات قاسية على جميع الاقتصادات التي تتعامل مع أمريكا وسنداتها وأذونها وبنوكها العامة.
 
وتعدّ دول الخليج على رأس المناطق الأكثر تضررًا من تلك الأزمة، بحسب ديمون، حيث انهيار أسعار النفط وتسريح العاملين في خطوط النفط في الولايات المتحدة وشركاتها في دول الخليج، وعليه ستتأثر إيرادات تلك الدول من النفط، فعلى سبيل المثال ستعجز أمريكا عن سداد ديونها للسعودية، والتي تُقدَّر بـ 119.7 مليار دولار أمريكي.
 
التأثير ينسحب كذلك على الدول التي تعتمد على الاقتراض بشكل كبير في اقتصادها، وفي المقدمة منها مصر وتونس، فمن المتوقع أن تواجه تعثرًا جماعيًّا، ففي مصر على سبيل المثال يشكّل الاقتراض 49% من إيرادات الموازنة العامة للعام 2023-2024، وتقترب النسبة في تونس من هذا الرقم.
 
ويعني هذا أنه في حال تفاقم أزمة سقف الدين، سيتم تخفيض تصنيف أمريكا الائتماني، وعليه سيتراجع الدولار بشكل كبير ليعاد تسعير العملات الرئيسية مرة أخرى، وهو ما سيتسبّب في كارثة اقتصادية محققة لدى الدول التي تعتمد على العملة الأمريكية في تعاملاتها الاقتصادية.
 
هذا بخلاف البورصات الأمريكية صاحبة الأصول الأكثر قيمة في العالم، والتي يتوقع أن تتعرض للانهيار جرّاء تلك الأزمة، وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على الدول التي تتعامل مع تلك البورصات وتستثمر فيها بشركاتها العملاقة وربما صناديقها السيادية، كما هو الحال مع دول الخليج خاصة السعودية والإمارات.
 
ووفق منهجية "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فيتوقع أن يتسبّب تخلف أمريكا عن الوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية في زعزعة النظام المالي العالمي المعتمد في معظمه على الدولار، ما يمنح العملات القوية الأخرى فرصة على طبق من ذهب لتصدُّر المشهد وتقديم نفسها كبديل جاهز، وهو ما تحاول الصين وروسيا تحديدًا العمل عليه خلال السنوات الماضية.
 
وبعيدًا عن الاستفادة المحتملة لبعض القوى الاقتصادية جراء تلك الأزمة، تجلس الاقتصادات العربية التي تلقي بجُلّ خزائنها في السوق الأمريكي، في مقاعد المتفرجين لتشاهد وهي حبيسة الأنفاس مخرجات تلك الهزة، التي بلا شكّ سينتقل صداها سريعًا إلى الشرق الأوسط المقيّد بسلاسل التبعية للاقتصاد الأمريكي.
 
 
المصدر: نون بوست