كُتّاب الموقع
روسيا تريد استعادة نفوذها العالمي من البوابة الإفريقية

عائد عميرة

الخميس 18 أيار 2023

سنة 1917، تأسس الاتحاد السوفياتي كدولة شيوعية إثر نجاح ثورة فريق البلاشفة في "حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي" بروسيا القيصرية، ليضم فيما بعد 15 جمهورية في مساحة تقدر بنحو 15% من اليابسة على الكرة الأرضية، وكانت تحده 12 دولة وتحيط به ثلاثة محيطات وبحارها المتفرعة منها.
 
قاد السوفيات المعسكر الشيوعي العالمي لسبعة عقود متتالية، وتقاسموا الهيمنة الدولية مع الولايات المتحدة بين سنوات 1945-1991، بل كان الاتحاد السوفياتي متطورًا أكثر من الولايات المتحدة في بعض جوانب التقنية العسكرية، لا سيما حقل الأسلحة النووية.
 
اكتسب الاتحاد السوفياتي مكانةً دوليةً كبيرةً، إذ عزز عقب نهاية الحرب العالمية الثانية هيمنته العالمية حتى صار قطبًا موازيًا لأمريكا في إطار حربهما الباردة، خاصة بعد إنشائه حلف وارسو العسكري الاشتراكي (1955) ليماثل حلف الناتو، وغزوه الفضاء لأول مرة عام 1957.
 
قوة كبرى سرعان ما انهارت عقب حله عام 1991، لكن الروس بقيادة فلاديمير بوتين يسعون جاهدين خلال السنوات الأخيرة للعودة إلى الساحة العالمية، هذه المرة من البوابة الإفريقية، لكن السؤال المطروح: لماذا التركيز على القارة الإفريقية؟ ومدى قدرة الروس على تنفيذ مخططاتهم؟
 
سنحاول في هذا التقرير لـ"نون بوست"، ضمن ملفنا الجديد الذي يحمل عنوان "الوجود الروسي في إفريقيا" الإجابة عن هذه الأسئلة، وتسليط الضوء على مساعي الروس للعودة العالمية وإحياء الموروث السوفياتي وسعيهم لتفادي العزلة الغربية.
 
مساعي الروس للعودة العالمية وإحياء الموروث السوفياتي
 
 
تعد روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وتبلغ مساحتها 17.1 مليون كيلومتر مربع، وهي تقريبًا ضعف مساحة كندا (ثاني دولة من حيث المساحة)، فيما كانت مساحة الاتحاد السوفياتي تبلغ نحو 22.4 مليون كيلومتر مربع، يعني هذا أن مساحة روسيا الحاليّة تشكل 77% من مساحة الاتحاد السوفياتي.
 
كان الاتحاد السوفياتي دولة متعددة القوميات، فتألف من 15 جمهورية تتمتع نظريًا بحقوق متساوية كأمم شقيقة، لكن على أرض الواقع كانت روسيا الأكبر والأقوى إلى حد بعيد، حتى إن اللغة والثقافة الروسية سيطرت في العديد من المجالات.
 
هذه التفاصيل الكثيرة جعلت الروس يقولون إنهم الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، ما جعلهم يسعون للعودة العالمية وتنمية نفوذهم وتقويته على الساحة الدولية، حتى يقوموا بإحياء الموروث السوفياتي.
 
معروف أن بوتين - الضابط السابق بالمخابرات السوفياتية الذي يعد أحد حكام روسيا الأكثر بقاءً في السلطة - "لديه طموحات بإعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي"، وفق قول الرئيس الأمريكي جو بايدن، ويشاطر بايدن هذا الرأي العديد من الزعماء الغربيين، خاصة أن بوتين سبق أن وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بـ"أخطر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين".
 
كان بوتين ضابطًا في جهاز المخابرات السوفياتية السابق "كي جي بي"، في ألمانيا الشرقية عندما سقط جدار برلين وشهد بنفسه فوضى الانسحاب السوفياتي، وإلى الآن يأمل في إعادة النفوذ السوفياتي للساحة الدولية.
 
يظهر هذا في ارتفاع عدد الجمهوريات الانفصالية التي تعترف بها وتدعمها موسكو في الفضاء السوفياتي إلى خمسة كيانات، هي بالإضافة إلى لوغانسك ودونيتسك: أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا التي انفصلت عن أوكرانيا بعد حرب الأيام الخمس جنوب القوقاز في 2008 وشبه جزيرة القرم.
 
دون أن ننسى "جمهورية بريدنيستروفيه"، وهي منطقة انفصلت عن مولدوفا عام 1992 وعاصمتها تيراسبول، وتعتبر من مناطق النزاع المجمد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتقع في الشريط الضيق بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية، ومعترف بها دوليًا في الوقت الحاليّ كجزء من مولدوفا، وهي ذات نفوذ روسي.
 
إلى الآن يعمل بوتين جاهدًا لجذب الدول التي خرجت من العباءة السوفياتية ضمن أشكال وصيغ جديدة، آخرها حربه ضد أوكرانيا وقبلها في جورجيا سنة 2008 وفي شبه جزيرة القرم سنة 2014، فضلًا عن الدعم المالي الذي يقدمه لهذه الدول.
 
تظهر رغبة بوتين في إحياء التراث السوفياتي أيضًا في تواصل رفضه بشكل قاطع اقتراب حلف شمال الأطلسي من الحدود الروسية، ما يُفسر حربه ضد أوكرانيا في فبراير/شباط السنة الماضية، رغم الخسائر الكبرى التي تكبدتها قواته.
 
طموحات بوتين لا تقتصر على حدود جمهوريات الاتحاد السوفياتي أو الدول التي تدور في فلك روسيا، بل تمتد إلى الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، فهو يطمح أن يجعل روسيا عظيمة مرة أخرى، ما يقتضي منها التوسع أكثر في مناطق أكبر.
 
الاستفادة من القوة الإفريقية
 
 
صحيح أن روسيا تعتبر إحدى الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة، مع امتلاك حق النقض (الفيتو)، إلا أن مكانتها الدولية لم تصل بعد إلى ما وصل له السوفيات زمن الاتحاد الذي تم حله سنة 1991.
 
رغبة الكرملين في النهوض بالبلاد ودعم مكانتها الدولية، حتم عليه التوجه نحو القارة الإفريقية، خاصة أن إفريقيا تمثل قوة تصويتية كبرى (55 دولة) في المحافل الدولية لا سيما الأمم المتحدة، ما يعني أن بمقدور الأفارقة إحداث تغيير هائل في كسر السياسات الرامية لفرض العزلة الدولية على روسيا.
 
ظهر في السنوات الأخيرة، سعي موسكو إلى إقامة علاقات قوية مع حلفاء جدد حتى تكسب كتلة تصويتية مهمة، خاصة أنها دائمًا ما تواجه تكتلًا غربيًا ضدها في المحافل الدولية، أضعف قوتها على الساحة الدولية.
 
تظهر العديد من المؤشرات، أن الروس أثروا على السلوك التصويتي للدول الإفريقية في الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الأخرى خدمة لمصالحهم ودعمًا لمركزهم الدولي، كما نجحوا أيضًا في كسب تأييد الرأي العام الإفريقي لهم، خاصةً في القضايا ذات العلاقة بالصراع مع الغرب.
 
بعد هذه الجهود أصبحنا نرى دولًا ما فتئت تصوت لصالح الغرب، ترتد عن مواقفها التاريخية ومبادئها، لتصوت بذلك إلى جانب الروس، ما يعني نجاح الروس في اختراق الكتلة التصويتية للأفارقة، وتجسد هذا النجاح في العديد من المحطات.
 
استغل الروس استعداد العديد من الحكومات الإفريقية للتخلي عن بعض مُثلهم السياسية والأخلاقية من أجل الفوز بوعود الدعم السياسي والأمني ​​والعسكري التي قدمتها موسكو في إطار سعيها إلى توطيد وجودها كقوة عالمية.
 
وبالفعل الجهود الروسية أتت ثمارها في ساحة الأمم المتحدة سنة 2014، إذ لم تؤيد معظم الدول الإفريقية القرار 68/262 بشأن الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، رغم تأييد 100 دولة للقرار الذي يدين دخول القوات الروسية لشبه جزيرة القرم.
 
تكرر نفس الشيء سنة 2022، ففي أول تصويت للأمم المتحدة ضد التدخل الروسي في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، لم تؤيد ما يقرب من نصف الدول الإفريقية القرار ES-11/1، الصادر عن الدورة الاستثنائية الطارئة الحادية عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة.
 
يستنكر القرار التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا ويطالب بالانسحاب الكامل للقوات الروسية والتراجع عن قرارها الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك المعلنتين من جانب واحد، وأيدت القرار 106 دول وتم تمريره بأغلبية 141 دولة مقابل 5 ضده وامتناع 35 عن التصويت، (صوتت إريتريا ضده وامتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت، وغابت 8 دول).
 
في تصويت 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم تؤيد 24 دولة إفريقية القرار ES-11/4 بشأن وحدة أراضي أوكرانيا، إذ امتنعت 19 دولة عن التصويت، وغابت 5 دول إفريقية عن الجلسة، الأمر الذي دفع الدول الغربية إلى تعديل القرار وإعادة صياغة عنوانه "وحدة أراضي أوكرانيا: الدفاع عن مبادئ الميثاق للأمم المتحدة ".
 
حصل هذا القرار على مزيد من دعم الدول الإفريقية التي كانت مترددة في التصويت صراحة ضد موسكو، حيث صوتت أبرز الدول الإفريقية مثل المغرب وكوت ديفوار لصالحه، ويرجع هذا التحول إلى التركيز على ميثاق الأمم المتحدة وليس على العدوان الروسي.
 
نجاح الروس في كسب تأييد الأفارقة، يظهر أيضًا في صمت الاتحاد الإفريقي وصناع القرار في القارة السمراء، أمام الانتهاكات الروسية في أوكرانيا وسوريا وليبيا ومالي، حيث تسبب الروس في مقتل آلاف المدنيين وتشريد عشرات الآلاف في مناطق عدة من العالم.
 
مساعي الروس لتفادي العزلة الغربية
 
 
لا يبحث الروس فقط عن الدعم في المحافل الدولية، لكن التقرب إلى الأفارقة الهدف منه أيضًا تفادي العزلة الغربية، خاصة أن عزلة روسيا على الساحة الدولية تزداد يومًا بعد يوم، تزامنًا مع تواصل حربها على أوكرانيا التي انطلقت قبل سنة من الآن.
 
من تجميد الأصول المالية إلى حظر السفر وتشديد الإجراءات الدبلوماسية، فرضت الدول الغربية عقوبات شديدة على روسيا منذ بداية الأزمة الأوكرانية عام 2014، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم إلى أراضيها.
 
من بين العقوبات التي فُرضت على روسيا، استبعادها من مجموعة الثماني سنة 2014، ثم تم فرض إجراءات تستهدف أفرادًا وشركات محددة، حيث أنشأ الاتحاد الأوروبي قائمة سوداء تضم 185 شخصًا و48 كيانًا يخضعون لتجميد الأصول وفرض حظر على دخول أراضي الاتحاد الأوروبي "لأن أفعالهم عرضت للخطر وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها واستقلالها" ويتم تجديد هذه الإجراءات بانتظام.
 
كما فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا عقوبات اقتصادية على التجارة مع روسيا، أثرت على البنوك الروسية وشركات الدفاع وشركات النفط، وتشمل هذه العقوبات فرض حظر على صادرات وواردات الأسلحة وتقييد الوصول إلى أسواق رأس المال الأولية والثانوية في الدول المذكورة.
 
ومنذ شن موسكو حربها ضد كييف في فبراير/شباط الماضي، تم اللجوء إلى مجموعة واسعة من الإجراءات الرامية إلى الحد من قدرتها على تمويل الحرب، واستهدفت العقوبات الأفراد الأثرياء والبنوك ومصالح الأعمال والمؤسسات المملوكة للدولة.
 
فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ودول أخرى عقوبات على أكثر من 1000 شخص وشركة روسية، وشملت القائمة رجال الأعمال الأثرياء الذين يطلق عليهم "الأوليغارشية" ويُعتبرون من المقربين للكرملين.
 
وفُرضت عقوبات أيضًا على مسؤولي الحكومة الروسية وأفراد عائلاتهم، وتم تجميد الأصول المالية التابعة للرئيس بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا، كما أوقفت لندن العمل بنظام بيع "التأشيرات الذهبية" التي كانت تسمح للأثرياء الروس بالحصول على حق الإقامة في بريطانيا.
 
فضلًا عن ذلك، فُرض حظر على كل الرحلات الجوية الروسية في المجال الجوي للولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا، وحظر على الواردات من الذهب الروسي، كما فُرض حظر على تصدير السلع الفاخرة إلى روسيا.
 
إلى جانب هذه الإجراءات، قامت الكثير من الشركات العالمية - في قطاعات التكنولوجيا والسيارات والطاقة وغيرها - إما بتعليق تعاملاتها التجارية في موسكو وإما انسحبت كليًا من البلاد، من هذه الشركات آبل ومايكروسوفت وديل وفولكس فاغن وبي إم دبليو وماكدونالدز وكوكاكولا وستاربكس وماركس أند سبنسر، وغيرها.
 
يمكن وصف هذه العقوبات التي يقودها الغرب على الأصعدة السياسية والإستراتيجية والاقتصادية بأنها لم يسبق لها مثيل في نطاقها وتنسيقها، ما زاد من عزلة روسيا على الساحة الدولية، الأمر الذي يُفسر توجه موسكو نحو إفريقيا.
 
أراد الروس استقطاب القادة الأفارقة، حتى يخرجوا من عزلتهم التي فرضها عليهم الغرب في السنوات الأخيرة نتيجة الانتهاكات التي يقودها الكرملين في حق العديد من الشعوب وانتهاك مواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
 
بالمحصلة، نفهم أن توجه موسكو نحو القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة، جاء بهدف إحياء الإرث السوفياتي والحصول على دعم الأفارقة في المحافل الدولية وفك العزلة التي فرضتها عليها الدول الغربية، وقد تمكنت من هذا الأمر ولو بدرجات متفاوتة، وهو ما أثبتته العديد من المؤشرات التي تحدثنا عليها، ومؤشرات أخرى ستكون محور المواد القادمة للملف.
 
 
المصدر: نون بوست