كُتّاب الموقع
روسيا كهدف دائم للغرب الرأسمالي

موفق محادين

الخميس 30 آذار 2023

قرار ما يعرف بالمحكمة الجنائية الدولية وضع الرئيس الروسي بوتين، على قائمتها بسبب العملية العسكرية الروسية ضد المحمية النازية الصهيونية الأطلسية في أوكرانيا، ليس مفاجئاً لا في ديباجته المعتادة وخلفياتها في الأروقة الأميركية المعروفة، ولا في وظيفته عشية الإعلان عن لقاء الرئيسين، الروسي والصيني باعتبارهما عناوين لرافعة لبناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب.
 
فالمحكمة التي لم تتوقّف مرة واحدة عند الجرائم الكبرى للمتروبولات الرأسمالية ضد أطفال العراق واليمن وفلسطين، وضد سياسات البنك الدولي وتداعياتها المتوحّشة بحق ملايين البشر، ليست موضوع ثقة أصلاً وكل ما هناك توظيف في سياق برنامج كامل ضد محاولات بناء نظام عالمي جديد يبدأ من موسكو وبكين وغيرهما.
 
تعتبر روسيا أكبر دولة في العالم، سواء من حيث الجغرافيا المتنوّعة، جبال وسهول وبحيرات داخلية وأنهار كبرى وبحار إقليمية مثل الأسود وقزوين وآزوف والبلطيق، ومن حيث شبكات سكك الحديد والطرق البرية والاحتياطات الضخمة من الموارد، مثل النفط والغاز والفحم والذهب والحديد والأخشاب وغيرها، ومن حيث التنوّع السكاني والعرقي واللغوي. 
 
كما تعتبر روسيا ثاني أكبر القوى العسكرية ولا سيما من حيث عدد الرؤوس النووية وهندسة الفضاء رغم أنها لا تحتفظ بالكثير من القواعد العسكرية في العالم. أما من حيث السكان (150 مليوناً، 80% من الروس الأرثوذكس) فقد عادوا إلى معدلات النمو الطبيعية بعد ملاحقة بوتين للجمعيات المثلية، ودعم دور الأم في المجتمع الروسي. 
 
على الصعيد الاقتصادي-الاجتماعي، تعدّ روسيا من الدول المتوازنة من حيث علاقة الإنتاج المحلي الإجمالي بالإيرادات الضريبية (16%) ومن حيث الدين العام ( 15% ). أما من الناحية التاريخية، فقد ظهرت روسيا كدولة سياسية مناهضة للغرب في القرن العاشر، عندما قرّرت مدنها وسلالاتها الحاكمة الأولى، الروريكية اعتناق الأرثوذكسية، مما اعتبره البابا وملكوته السياسي تحدياً له، وزاد ذلك التحدي مع توسّع الإمبراطورية الروسية كبيزنطة جديدة بعد سقوط القسطنطينية في القرن الخامس عشر. 
 
ورغم هجمات المغول عليها زمن القبيلة الذهبية إلا أن دوقية موسكو تمكّنت من بناء روسيا القيصرية تحت حكم آل رومانوف في القرن السادس عشر. ويشار هنا إلى دور التحديث الكبير الذي أدّاه بطرس الأكبر وكاترين الثانية، فضلاً عن نجاحات التجربة الجديدة في دمج العناصر المتباينة في أمة روسية: سكان أصليون وإسكندنافيون وفايكنج شرقيون ومغول وآسيويون آخرون. 
 
في القرون التالية، تحوّلت روسيا القيصرية من خصم لأوروبا إلى صمام أمان لملوكها، حتى أن جيوشها دخلت باريس وبرلين وأنقذتها من الثورات الاجتماعية في القرن التاسع عشر، وفق ما جاء في كتاب بول كينيدي عن نشوء وسقوط الإمبراطوريات الكبرى، وذلك قبل أن ترتدّ أوروبا عليها في سلسلة من الغزوات الفاشلة عبر أراضي بولندا وأوكرانيا، وكان الجنرال الأبيض، الثلج، من أقوى أسلحة موسكو حيث دفن هذا الجنرال مئات الآلاف من جنود نابليون وملوك السويد وهتلر. 
 
بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 التي أطاحت بالحكم القيصري وخليط الإقطاع والرأسمالية المترهلة الذي كان يدعمه، تفاقم العداء الأوروبي لموسكو التي صارت بالنسبة لأوروبا خطراً اشتراكياً داهماً، بسبب الأزمات البنيوية الرأسمالية الدورية كما بسبب إعلان روسيا عن حقّ تقرير المصير القومي ودعم الشعوب في المستعمرات الأوروبية. 
 
رغم مرحلة التحالف القصيرة معها ضد النازية، إلا أن المتروبولات الرأسمالية في أوروبا والرأسمالية الأميركية الصاعدة بعيد الحرب العالمية الثانية، سرعان ما تحالفت ضد روسيا تحت عناوين، مثل مشروع مارشال والبنك الدولي وحلف الناتو والخطاب الليبرالي المزعوم على الجبهة الإعلامية والثقافية. 
 
رغم الانهيار السوفياتي وما بدا نجاحاً للغرب في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، الذي تمّ اختراقه بسرعة في مرحلة الجيل الرابع من بيروقراطية الدولة، ووضع المافيا اليهودية يدها على مفاتيح الاقتصاد الروسي ونهبه، إلا أنّ عقل الإمبريالية الاستراتيجي، بريجنسكي، حذّر الغرب من الرهان على سقوط أخير لموسكو، ولم يجد في "الموديل" الاشتراكي الذي انهار سوى تعبير مؤقت عن التحوّلات التي تصيب الأمم الكبرى، التي غالباً ما تصحو كلما بدا أنها خارج التاريخ، مثل روسيا والصين بحسب قراءة الفيلسوف الألماني، هيغل أيضاً. 
 
فمقابل روسيا الاشتراكية السابقة كما أسسها لينين على أنقاض قيصرية فاسدة، ظهرت روسيا سلافية أرثوذكسية جديدة بقيادة بوتين على أنقاض ليبرالية يلتسين والمافيا اليهودية المتحالفة معه، والتي لم تتردّد في قصف البرلمان أو الدوما بالدبابات.
 
خلال أقلّ من عقدين، كان بوتين يرمّم الأمة الروسية ويعيدها إلى واجهة العالم الجديد عبر سلسلة من السياسات استفزت الغرب الرأسمالي وأخرجته عن طوره وفضحت مزاعمه الليبرالية وراحت تهز الأرض تحت أقدام عالم رأسمالي متصدّع وآخذ بالترنّح في آسيا بقيادة الصين، كما في أميركيا اللاتينية وغيرها. 
 
من مجمل السياسات الروسية الجديدة، حدّدت الإمبريالية العالية وعلى رأسها الأنجلوسكسونية في واشنطن ولندن وأطرافهما في كندا وأستراليا، الخطر الروسي كخطر يهدّد النظام العالمي الأنجلوسكسوني. وكان من تجليات هذا الخطر بالنسبة للغرب، التنسيق الروسي المتصاعد مع الصين، التي راحت تشكّل هي نفسها أكبر التحديات الاقتصادية لهذا النظام، وهو التنسيق الذي تجلّى خصوصاً فيما عرف بالبريكس واتفاقية شنغهاي وتكامل طريق الحرير الصيني مع المشروع الروسي الأوراسي.
 
كان بريجنسكي المغرم بالجغرافيا السياسية وكتابات ماكندر وسبيكمان وهامان حول صراع الإمبراطوريات البرية والبحرية وساحة ذلك في المجال الأوراسي، قد دعا مبكراً إلى تطويق روسيا بسرعة من خلال جذب أوكرانيا عبر الثورات الملوّنة والنفوذ اليهودي فيها وتحويلها إلى خاصرة أطلسية ضد روسيا. كما دعا المؤرخ اليهودي الأميركي، برنارد لويس، إلى توسيع الانبعاث العثماني وتحويله إلى حزام أخضر حول روسيا، انطلاقاً من تركيا وكازاخستان (يمكن العودة إلى كتابات بريجنسكي: رقعة الشطرنج الكبرى 1999، والاختيار 2004). 
 
إضافة إلى هذه المقاربة، فإن السمة العامة لخطابات بوتين ترافقت مع تأكيد متزايد على إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهو ما أكده مايكل ستورمر في كتابه (بوتين ونهوض روسيا).
 
ويشار هنا إلى جدالات أخرى على صعيد مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية توقّفت عند النظام العالمي كبديل عن النظام الدولي وعند نظريات مثل المجموعة الصفرية والصراع اللامتماثل، وتراجع مراكز القوة والنقاط المركزية في "السيستم" العالمي، كما يشار إلى دور الثورة المعلوماتية والتحوّلات بين المركز والمحيط وصعود آسيا وخاصة الصين. 
 
يضاف إلى ذلك في الحسابات الغربية: 
 
       -الحديث الروسي عن نظام الذهب كبديل لنظام الدولار والبترو-دولار الذي يكرّس الهيمنة الأميركية على العالم. وسبق للرئيس الفرنسي، ديغول، أن طرح مثل هذه الأفكار قبل أن تسقطه المخابرات الأميركية في ثورة ملوّنة. 
 
       -توسيع شبكات أنابيب النفط والغاز الروسية، مثل السيل الشمالي والجنوبي في مواجهة اقتراحات الأنابيب الأميركية (تابوكو ونابوكو). 
 
       -التحوّلات الكبرى داخل روسيا نفسها من حيث السيطرة على الدين العام ومحدوديته، وارتفاع الدخل القومي إلى آلاف المليارات، وارتفاع الدخل الفردي بنسب ملحوظة، إضافة إلى احتياطي كبير في الذهب والقطع الأجنبي. 
 
       -توسّع الدائرة الروسية–الصينية عبر البريكس وشنغهاي والدبلوماسية النشطة وشمولها دولاً مركزية في أقاليمها الجغرافية والقارية، مثل إيران والبرازيل وجنوب أفريقيا.
 
       -الحركة الروسية في مجالاتها الحيوية، وخاصة في القوقاز، وإنهاء المحاولة الجورجية وبعدها اضطرابات كازاخستان التي دعمتها واشنطن ولندن، وإعادة تشكيل هذه المجالات بصورة تجمع بين المرونة السياسية والإمساك بزمام المبادرة العسكرية والأمنية. 
 
       -المراجعة الروسية الشجاعة إزاء ملفات هامة، فبعد دور متخاذل إزاء العدوان الأطلسي على يوغوسلافيا وليبيا والعراق، استعادت موسكو علاقاتها ومعاهداتها التاريخية مع بلدان مثل سوريا، وتمكّن المحور السوري–الروسي–الإيراني من قطع الطريق على شرق أوسط أميركي –إسرائيلي يبدأ من دمشق، كما توهّم رجل المخابرات الأميركية في معهد واشنطن، اليهودي روبرت ساتلوف في كتابه (الطريق إلى دمشق)، الذي كان بمثابة خارطة طريق للعشرية السوداء وأدواتها في وسوريا. 
 
الأدوات الإمبريالية ضد روسيا
طيلة عقود الحرب الباردة ظل الإمبرياليون وخاصة الأنجلو سكسون، في مواجهة دائمة مفتوحة متعددة الأشكال مع روسيا الاشتراكية، بل أنه وبحسب الكاتب الأميركي تشومسكي في كتابه (الدول الفاشلة، صفحة 155) فإن رئيس الحكومة البريطاني، تشرشل، اقترح بعيد الحرب العالمية الثانية مهاجمة روسيا وقصف موسكو بالأسلحة النووية على غرار ما فعله ترومان ضد المدن اليابانية.
 
لم يتبدّل الموقف الغربي من روسيا بعد الانهيار السوفياتي، حيث أخذت المواجهة أشكالاً وساحات وأدوات متعددة: 
 
       -على الصعيد الأيديولوجي، وبعد توظيف قصير لكتاب هنتنغتون (صراع الحضارات) الذي تلا الانهيار السوفياتي، عاد الأنجلو سكسون إلى هذه النغمة الكريهة مصوّرين الصراع العالمي كصراع بين التقاليد الأنجلو سكسونية البروتستنتية وبين بقية الثقافات والأديان ومنها الأرثوذكسية السلافية والكونفوشية الصينية.
 
ويشار هنا إلى أن صعود روسيا الأول ارتبط عند الغرب عموماً بتقاليد الصراع المذكور، حتى أن الحملة الصليبية الأولى نظّمت رحلات إبادة ضد الأرثوذكس في طريقها إلى الشرق، وبينهم أرثوذكس القسطنطينية. 
 
من التوظيفات السياسية الأخرى للدين، بعث الحياة في الكنيسة البولندية الكاثوليكية ضد روسيا الاشتراكية، وتتويج أحد بطاركتها بابا للفاتيكان، بولس الثاني، وربطها منذ اليوم الأول بالثورة الملوّنة في بولندا التي مثّلتها حركة تضامن. 
 
أيضاً، لم يكن الإسلام الأطلسي بعيداً عن هذا التوظيف السياسي، عندما اقترح بريجنسكي وبرنارد لويس توسيع الانبعاث العثماني ليشكّل حزاماً أخضر حول روسيا.
 
       -اللعب الأطلسي في القوقاز، سواء عبر تيارات من الشيشان، أو عبر جورجيا التي حاولت عام 2008 بقيادة اليهودي ساكشفيلي (النسخة السابقة لزيلينسكي في أوكرانيا) أن تطلق موجات معادية حول روسيا، وذلك قبل أن تتدخّل روسيا وتجبر جورجيا على الانسحاب من المستعمرات السابقة لها في المناطق الإسلامية وتتحوّل هذه المستعمرات إلى جمهوريات حكم ذاتي لها علاقة مع موسكو. 
 
       -إحياء النازية وخاصة في أوكرانيا وربطها بمنظومة المافيات اليهودية، سواء في العاصمة كييف، أو في الدنيبر، ودفع أحد ممثليها إلى الرئاسة، زيلينسكي، وتحويلها إلى خاصرة أطلسية لاستنزاف روسيا. ويشار هنا إلى أن النازية الأوكرانية كما أسسها عميل سابق للغستابو الألماني الهتلري، بانديرا، انتعشت هناك في مرحلة غورباتشوف. 
 
       -إضافة إلى يهود أوكرانيا، أدّت المافيا اليهودية في روسيا دوراً خطيراً لتقويض روسيا من الداخل، عبر الشبكات الإعلامية والمصرفية، وعبر دعمها لجماعات الثورة الملوّنة والليبرالية أمثال نافالني، وهو الأمر الذي جعل المفكّر الاستراتيجي الروسي، دوغين، يدعو الروس إلى إعادة قراءة أعمال ديستويفسكي، وخاصة رواية الشياطين التي كشفت مبكراً، عام 1870، عن التحالف بين الليبراليين وبين اليهود في روسيا.
 
فبعد نهاية حكم يلتسين حاولت المافيا اليهودية وضع يدها على روسيا ومواردها، وكان من أبرز الذين لاحقهم بوتين، لصوص المال والبنوك وشبكات الإعلام، ومن تلك العناوين: تشوبايس، بيريزوفسكي الذي هرّبته المخابرات البريطانية إلى لندن، وخودوركوفسكي، وكانوا يحظون أيضاً بدعم يهود الخارج، أمثال سوروس وليفي من مهندسي الثورات الملوّنة، بل إنّ أصواتاً داخل الكيان الصهيوني طالبت بإنهاء بوتين بأي شكل من الأشكال، بما في ذلك الاغتيالات والتفجيرات الداخلية على نحو ما كتب أفرايم غانور في جريدة معاريف (9/3/2022).
 
أيضاً، بعد مطالبات العديد من الكتّاب اليهود في الكيان الصهيوني، أمثال "غانور" المذكور و"ران اديست" و"العاد زارات"، في العدد نفسه من معاريف، بالتصدّي لبوتين وملاحقته، وضعت المحكمة الجنائية الدولية الرئيس الروسي على قائمتها، بل إنّ إحدى لجان الأوسكار في هوليود رشّحت فيلماً قصيراً عن نافالني عميل المخابرات الأميركية لهذه الجائزة، وهو ما يذكّر بجهة عميلة مشابهة في سوريا تعرف بالخوذ البيضاء التي رشّحت لهذ الجاهزة.
 
أما الدور الأكبر في حملة المتروبولات الإمبريالية ضد روسيا فهو الدور الذي تعهّد به الناتو تحت غطاء الاتحاد الأوروبي في القارة الهرمة، شأنه في ذلك شأن أدواره السابقة كغطاء للغزو الإجرامي الأميركي خلال الحرب الكورية وفي بلدان عديدة.
 
 
المصدر: الميادين