كُتّاب الموقع
حقائق الجيوبوليتيك الصيني (الجزء الثاني – قوة بحرية عالمية استباقاً للحصار)

محمد سيف الدين

الجمعة 20 كانون الثاني 2023

ماذا لو حوصرت الصين من البحر؟ هذا السؤال كان مهماً في الماضي، ولكنّه بات الآن ملحّاً. لذلك، برزت أهمية بناء القوة البحرية العالمية القادرة على حماية الصعود العالمي للصين والاستقرار الداخلي لمجتمعها.
 
تبني الصّين الآن قوّة بحرية للمياه العميقة، أي تلك القادرة على جوب البحار البعيدة والدفاع عن مصالحها، والتجوّل كقوة عالمية عسكرية كبرى تناسب قوة البلاد الاقتصادية وحضورها المرتجى في النظام الدولي الذي تسعى لتحقّقه.
 
هناك تقديرات تشير إلى أنَّ الوصول إلى المستوى المطلوب من القوة البحرية القادرة على منافسة المستوى الأول من القوى البحرية، كالولايات المتحدة، يحتاج إلى 3 عقود تقريباً، لكن المسار بدأ، إذ أعلنت الصين عن مشروعها هذا كواحدٍ من أهدافها الكبرى في عام 2022.
 
وفي الطريق إلى ذلك، هي تبني وتدرّب وتتعلم، والمسار المستقبلي لهذا المشروع سيحدد مستقبل القوى العظمى في النظام الدولي، وهي، مثل دول أخرى، لاحظت واستنتجت في العقود الماضية أنك لا تستطيع الاعتماد على قوى أخرى إذا كنت ترغب في أن تكون في المقدمة. لذلك، بدأت مشروع بناء حاملات الطائرات، الأمر الذي سوف يزيد خياراتها ووسائلها.
 
من الواضح الآن أن بكين ستكثف حضورها البحري في المحيطين الهادئ والهندي، الأمر الذي سيضيّق المساحة على الحضور الأميركي هناك كلما تنامى، وسيتحداه حين يكون ذلك ضرورياً، وهي الآن تطور نظام صواريخ مضادةٍ للسفن، ما من شأنه أن يزيد فرصها في حماية مصالحها في بحر الصين الجنوبي.
 
لقد كان تجوّل 6 سفن صينية قرب سواحل آلاسكا الأميركية عام 2015 إشارةً إلى تعاظم القوى البحرية الصينية. الآن، وفي المستقبل، تبقي الصين أعينها على كل سفينة أميركية تتحرك في محيطها، وتحت المياه أيضاً، حيث تحضر المنافسة بالغواصات التي توليها بكين أهميةً خاصة.
 
إلى جانب ذلك، وفي الطريق إلى المحيط الهادئ، هناك مئات الجزر الصغيرة التي تشكّل سلسلة تضمّ بين جزرها التايوان التي توتر علاقة الصين مع محيطها. هذه السلسلة ضرورية للصّين من ناحية جيوبوليتيكية، وهي إن كانت تريد الوصول إلى المحيط في حالات الحرب، فإنَّ عليها أن تزيح خطر الوقوع في حصارٍ بحري أو إقفال الممرات، وبالتالي فإن ذلك يوجب عليها أن تسيطر هناك أولاً.
 
وفي الاتجاه الآخر نحو الشمال، تقف اليابان في طريق المرور الصيني إلى المحيط الهادئ. من البحر الأصفر وحول الأرخبيل الكوري، يتوجب على البحارة الصينيين أن يمروا ببحر اليابان بمحاذاة هوكايدو، أي في المياه الإقليمية لكلٍّ من اليابان وروسيا، ثم الصعود باتجاه جزر الكوريل الروسية التي تطالب بها اليابان، والتي شكَّلت على الدوام موضوع أزمة بين طوكيو وموسكو.
 
اليابان بدورها تتنازع مع الصين على جزيرة سينكاكو التي يسميها الصينيون دياويو، والتي تقع إلى الشمال من تايوان. إذا أرادت الصين تجنب المناطق المتنازع عليها مع اليابان، والعبور من بحر الصين الشرقي انطلاقاً من شنغهاي في خطٍ مستقيم إلى المحيط، فعليها أن تمر في جزر ريوكيو التي تتضمَّن بين جزرها أوكيناوا، حيث يقيم الأميركيون قاعدة ضخمة، وينصب اليابانيون أنظمة صواريخ مضادة للسفن.
 
أزمة أخرى تبدو نائمة الآن في تلك المنطقة، تتمثل بمخزونات الغاز في بحر الصين الشرقي، واحتمال نشوب نزاع حولها مع اليابان أيضاً، لكن الصين استبقت تسخين هذه القضية بإعلان سماء هذا البحر بمعظمها "منطقة دفاع جوي" محظورة.
 
هنا، لا بد من الإشارة إلى تغيير العقيدة الإستراتيجية اليابانية في نهاية 2022، والتخلي عن إستراتيجية التنمية السلمية لليابان، والتصويب في مضامين الإستراتيجية الجديدة على الصين كخطرٍ محتمل، إضافةً إلى عودة اليابان إلى التسلّح وتوطيد علاقاتها العسكرية بالولايات المتحدة.
 
إنه تحولٌ كبير بدأت به طوكيو عام 2023. تصريحات رئيس وزرائها فوميو كيشيدا عن احتمال استخدام روسيا للسلاح النووي في أوكرانيا كان لافتاً وغنياً بالمفارقات. المكان واشنطن، والشكل بيانٌ مشترك مع الرئيس الأميركي جو بايدن. يقول الرجلان: "استخدام روسيا للنووي سيكون عملاً عدائياً ضد الإنسانية". كيشيدا رئيس وزراء البلاد الوحيدة التي تأكَّد تعرضها للقصف بالنووي، وبايدن هو رئيس البلاد الوحيدة التي تأكَّد استخدامها هذا السلاح حتى اليوم.
 
وعلى الرغم من تأكيد المسؤول الياباني أنَّ قراري تغيير سياسة بلاده تجاه روسيا، والتحول في الإستراتيجية نحو العسكرة، كانا خيارين صعبين جداً، فسيبقى مستقبل طوكيو غامضاً، خصوصاً مع مشكلتها الديموغرافية المتفاقمة، ونمو الصين إلى جانبها بقوة، إضافة إلى عاصفة اقتصادية كبرى تنتظرها البلاد تحت وطأة مديونية ثقيلة جداً نسبةً إلى الناتج الإجمالي.
 
أما الصين، فإن خروجها من الشرك إذا ما تمّ إحكامه، يتطلَّب أيضاً، إلى جانب المسارات السابقة، سلوك مسار الجنوب من أوكيناوا، حيث تقع تايوان، القضية الأكثر صخباً اليوم، والتي تعتبرها الصين إحدى محافظاتها، فيما تسلّحها الولايات المتحدة بقدرات كبيرة. 
 
لقد كانت تحت الحكم الصيني منذ القرن السابع عشر، لكنها الآن تحاول الانفصال بتشجيع من واشنطن التي ترى أن عليها التزام حمايتها وفق المعاهدة الموقعة عام 1979، لكن ليس من المرجح أن تتدخل الولايات المتحدة إلى جانبها عسكرياً فيما لو دخلتها الصين.
 
الصينيون يتعاملون الآن مع المسألة بصبرٍ وطول أناة، لكن مع الحرص على بث رسائل القوة بوتيرةٍ شبه يومية، وموقفهم لا يزال متيناً بشأن هذه القضية، إذ يتمسكون بالتزامٍ سابقٍ من معظم الدول، من بينها الولايات المتحدة، بمبداً "صين واحدة"، الذي لن يكون ممكناً على أساسه تجزئة الأراضي الصينية والاعتراف باستقلال تايوان.
 
ومن خلال علاقاتها الاقتصادية الهائلة مع الكثير من دول العالم، لا يرجح أن تواجه الصين صعوبةً في الدفاع عن موقفها على المستوى الدبلوماسي، لكن انفجار المسألة بصورةٍ مشابهة للأزمة الأوكرانية لا يزال يمثل خشية عند الكثير من المتابعين، ومن بينهم صنّاع القرار في بكين.
 
لكنَّ مواجهة الصين أزمةً في مرورها البحري نحو المحيطين الهندي والهادئ قد تكون أضرارها أكبر من المتوقع، إذ لا يمكنها تحمل النتائج بالاتجاهين؛ تصدير البضائع نحو العالم، واستيراد موارد الطاقة من الدول المنتجة.
 
وللمرور نحو تلك الدول، على الصين المرور بفيتنام أيضاً؛ الدولة التي تبدي في السنوات الأخيرة تقارباً مع واشنطن، إضافة إلى المرور بين الفلبين وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، وكلها دول حليفة للولايات المتحدة وترتبط بها عسكرياً وسياسياً، لكن خطوة الصين من أجل تجاوز ذلك كانت لامعة جداً، إذ وصلت بالبلاد ميناء غوادار الذي استأجرته من باكستان عبر خطوط مواصلات جديدة منذ عام 2016. 
 
مع ذلك، بقيت الخلافات بين الصين التي تطالب بمعظم بحر الصين الجنوبي وموارد الطاقة تحته، وكلٍ من بروناي وفييتنام وتايوان والفلبين التي لديها أيضاً مطالب في المنطقة نفسها.
 
في نتيجة ذلك، أعلنت الصين عن تحوّل في إستراتيجيتها في المنطقة، فبعدما كانت دفاعيةً لفترة طويلة، تحولت إلى سياسة أكثر هجوميةً واندفاعاً. هي مضطرّة إلى تأمين الممرات بالاتجاهين، وفي البحر تحديداً، لكونها لا تواجه مشكلاتٍ تذكر في خطوط النقل البرية ضمن مشروعها العملاق. 
 
وفي سياق معالجتها هذه المسألة، تعتمد بكين على تنشيط دبلوماسيتها واستغلال علاقاتها القوية عبر العالم، لكنها أيضاً توسع قدرات قوتها البحرية وتزيدها. وإلى جانب كل ذلك، فإنها تمد الأنابيب وتبني الطرقات والموانئ.
 
وفي الشق الدبلوماسي، لا تتوانى بكين عن محاولة إبعاد دول جنوب شرق آسيا عن الولايات المتحدة. لديها الكثير من الوسائل التي يمكن استخدامها في سبيل ذلك، لكن، كما يحدث في مناطق أخرى من العالم، ومع دول أكثر قوةً، لا تزال الدول الآسيوية تتمسك بالحماية الأمنية الأميركية. في غرب أوروبا يخافون من روسيا. وفي شرق آسيا، يخافون من الصين. واللافت أن الخائف والمخيف في المنطقتين هما المتضرران، فيما لا يربح في هذه المعادلة سوى زارع الخوف وبائع الحماية.
 
وفي إطار حشد القوى للوقاية من الحصار، تحاول الصين أيضاً أن تتحول إلى قوة ممتدة على محيطين، الهادئ والهندي. لذلك، فهي تستثمر في موانئ سريلانكا وباكستان وبنغلاديش وبورما. 
 
إن المحيط الهندي وخليج البنغال يمثلان جزءاً مهماً من تطلعات الصين المستقبلية، إلى جانب ميناء غوادار في باكستان. وعلى الساحل الغربي في بورما، بنت الصين خطوط أنابيب لنقل النقط والغاز إلى جنوب غربي الصين. وعلى الرغم من تحرك واشنطن وطوكيو لتعطيل ذلك، لا تزال الصين تتقدم هناك.
 
في أفريقيا أيضاً، بنى الصينيون ميناءً في كينيا وجيبوتي، وخطوط سكك في أنغولا. وإلى العديد من دول القارة يتدفق العمال الصينيون، لكن مع هذا الحضور، ستكبر المشكلات أيضاً، فالقوى الأخرى لن تستسلم أمام الحضور المتنامي لبكين في عالم المواد الأولية. 
 
في الحصيلة، يراهن مفكرون غربيون على أن الانتصار على الصين ممكن من خلال محاصرة تجارتها وتقليص انتشارها في العالم، عن طريق عدم شراء بضائعها، الأمر الذي سينعكس في الداخل الصيني تراجعاً في عدد الوظائف، وبالتالي ضرب الاستقرار الاجتماعي الذي قد يؤدي بدوره إلى إحداث تغييراتٍ سياسية، لكنَّ الصين استبقت ذلك في إستراتيجيتها للسنوات الخمس الجديدة التي أعلنتها العام الماضي، والتي تحمل رافعتين جديدتين للنمو المستدام: تحقيق السيادة التكنولوجية، وتحويل السوق الداخلية إلى سوق استهلاكية كبرى. إنها دائماً تتقدم بخطوة.
 
 
 
المصدر: الميادين