كُتّاب الموقع
البولسونارية الشعبوية.. شبح الانقلاب يخيم على الشارع البرازيلي

عماد عنان

الثلاثاء 10 كانون الثاني 2023

شهدت العاصمة البرازيلية "برازيليا" أحدًا مشحونًا بالفوضى، حين اقتحم آلاف المتظاهرين، في 8/1/2023، القصر الرئاسي والكونغرس والمحكمة العليا، ورفعوا شعارات مناهضة للرئيس الحاليّ لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وحطموا أثاث المباني الثلاث التي ترمز لكيانات الحكم في البلاد.
 
الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي لهذا الاقتحام الجماعي أعادت للأذهان اقتحام مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة عام 2021، حين اقتحم أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب المبنى اعتراضًا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت وخسر فيها ترامب لصالح الرئيس الحاليّ جو بايدن.
 
الرئيس البرازيلي دا سيلفا الذي لم يكن في العاصمة حين وقع الاقتحام، حمًل منافسه بولسونارو الموجود في فلوريدا مسؤولية ما حدث، ملقيًا باللوم عليه في هذا التصعيد، فيما عبًر عن امتعاضه وشكواه من القصور الأمني في العاصمة، لافتًا إلى أنه من سمح لمن أسماهم "الفاشيين والمتعصيبين" بالفوضى والتخريب وإحداث الاضطرابات.
 
ونجحت السلطات البرازيلية في اعتقال 150 شخصًا من المشاركين في عمليات الاقتحام، فيما أظهرت قنوات تليفزيون برازيلية صورًا لمؤيدي الرئيس السابق من داخل قصر بلانالتو الرئاسي (المقتحم)، وهم واقفون صفًا واحدًا وأيديهم خلف ظهورهم، مرتدين ملابس صفراء وخضراء وتحيط بهم عناصر الشرطة.
 
ما حدث لم يكن مفاجئًا للمتابعين للمشهد البرازيلي خلال الشهرين الماضيين، حيث التصاعد الواضح في الخطاب الشعبوي البولوسوناري إزاء الرئيس الفائز في الانتخابات التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وسط أجواء من القلق بشأن استمرار تلك الفوضى وتداعياتها على استقرار البلاد، في ظل الدعوات المتكررة لأنصار بولسونارو للنزول والمشاركة في الاحتجاجات الغاضبة الرافضة لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
 
 
تتويجًا لمقدمات فوضوية
 
 
الأحداث التي شهدتها ساحات رموز الحكم في البرازيل (القصر والبرلمان والمحكمة) هي تتويج منطقي لما يجري على الساحة خلال الشهرين الماضيين، دون أن يتحرك أحد بشكل جدي لوقف تلك الفوضى التي حذر منها عشرات الخبراء والمحللين داخل البلاد وخارجها.
 
البداية كانت بنهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين أعلن عن فوز دا سيلفا في الانتخابات الرئاسية الساخنة وهزيمة الرئيس الأخير بولسونارو، حيث شكك المرشح الخاسر في النتائج أولًا، ثم هدد بالتصعيد وعدم الاعتراف بها، رغم أنه كان قد أقر قبل ذلك بالاعتراف بهزيمته إذ ما كانت.
 
موقف بولسونارو المتشدد إزاء نتائج الانتخابات أجج مشاعر أنصاره ممن ساروا كذلك على نفس المسار، رافعين شعارات التنديد والتشكيك التي تطورت إلى التلويح بالاحتجاج والتهديد بالفوضى، خاصة بعد إسدال الستار على احتمالية عودته للحكم مرة أخرى أو إعادة الانتخابات عقب إقرار محكمة الانتخابات الاتحادية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فوز دا سيلفا بشكل رسمي ونهائي.
 
وغادر بولسونارو البلاد متوجهًا إلى فلوريدا قبل 48 ساعة فقط من انتهاء ولايته فيما غاب عن تنصيب دا سيلفا في مشهد عمق من الأزمة وزاد من حالة الانقسام الذي تعاني منه البلاد خلال الآونة الأخيرة، فيما دعا أنصاره إلى انقلاب عسكري لمنع وصول الرئيس اليساري إلى السلطة، مشعلين الساحة بأعمال تخريب وعنف متصاعدة.
 
في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبعد حكم محكمة الانتخابات بإقرار فوز دا سيلفا، اقتحم أنصار بولسونارو مقر الشرطة الاتحادية في العاصمة برازيليا، حيث توجه إليه العشرات ممن يرتدون قصمان منتخب بلادهم الصفراء، وقد أضرموا النار في الحافلات القريبة من المقر وأغلقوا الطرق، فيما واجهتهم الشرطة بقنابل مسيلة للدموع لتفرقتهم.
 
وفي الشهر ذاته نظموا عددًا من الاحتجاجات في الشوارع والميادين العامة بالعاصمة ونصبوا خيامًا أمام ثكنات للجيش وطالبوه بإجراء انقلاب عسكري يحول دون تولي دا سيلفا السلطة، فيما قبع بعض المحتجين أمام المقر الرئاسي حاملين لافتات تطالب بتدخل الجيش فورًا وإعادة الانتخابات.
 
وردًا على هذا التصعيد أجرت الشرطة حملات تفتيش ومداهمة لأنصار الرئيس السابق في عدد من الولايات بموجب أوامر من المحكمة العليا، فيما ألقت القبض على بعض منهم، وأصدرت بيانًا تحذيريًا تبرر فيه تلك الممارسات قالت فيه: "الجرائم قيد التحقيق تتعلق بإحداث أضرار، وإحراق متعمد، و(تكوين) تشكيلات إجرامية، وإبطال سيادة القانون بطريق العنف، والانقلاب، (وهي جرائم) تصل عقوبتها القصوى مجتمعة إلى السجن 34 سنة".
 
 
البولسونارية الشعبوية
 
 
لا يمكن قراءة تطورات المشهد البرازيلي بعيدًا عن الاستفاقة التي شهدها التيار اليميني المتطرف في البلاد خلال الآونة الأخيرة، فالمحتجون لم يكونوا من أنصار الرئيس المهزوم فحسب، بل مزيج من التيارات الشعبوية التي تلاقت مصالحها مع مصالح البولسوناريين في منع التيار اليساري من الوصول للسلطة.
 
ونجح التيار الشعبوي في العودة للأضواء مجددًا بعد انزواء دام قرابة 13 عامًا من تولي اليسار السلطة ( 2003 – 2016)، فضلًا عن تقزيم نفوذه على مدار 34 عامًا من دخول البلاد عصر المدنية والدول الديمقراطية بعد التخلص من الحكم العسكري.
 
وهنا فإن تصاعد النفوذ اليميني المتطرف في دولة تحتل المرتبة الثامنة اقتصاديًا عام 2017 والرابعة عشر عالميًا في قوتها العسكرية وفق تصنيف 2018، يثير الكثير من التساؤلات عن تلك السرعة الجنونية التي يسير بها القطار الشعبوي في البرازيل.
 
وتمثل "البولسونارية" اليوم قمة هرم الشعبوية في القوة الكبرى بأمريكا الجنوبية، هذا التيار الذي رسخ حضوره بشكل واضح عام 2018 بعد الإطاحة بالرئيس اليساري وتولي بولسونارو مقاليد الحكم، ويشترك في كثير من الصفات - بحسب وكالة الصحافة الفرنسية - مع التيارات المطابقة له في الأيديولوجيا والتوجه في بلدان أوروبا، من إيطاليا (إخوة إيطاليا) إلى المجر (التحالف المدني- فيديس) مرورًا ببولندا (حزب القانون والعدالة) وكذلك السويد (ديمقراطيو السويد) وصولًا إلى فرنسا (التجمع الوطني)، هذا بجانب رأس الشعبوية الترامبية الذي كان صعوده إيذانًا بهيمنة هذا التيار المتطرف.
 
غير أن ما يفرق الشعبوية البرازيلية عن نظيراتها في أوروبا والولايات المتحدة أنها لم تتخذ من كراهية الإسلام واستهداف اللاجئين شعارات لها، كونها لم تعد أرض استقبال للمهاجرين، وفق ما ذهب مدير "المركز البرازيلي للدراسات والأبحاث حول الديمقراطية" في جامعة ولاية ريو، جيرالدو مونتيرو، الذي كشف أن الكيانات المستهدفة من هذا التيار هم أعداء الداخل وهم: "الأقليات (المثليون، والسكان الأصليون)، وناشطو حقوق الإنسان، ودعاة حماية البيئة، وعالم الإعلام والأوساط الأكاديمية أو الثقافية اليسارية، ويسار إينياسيو لويس لولا دا سيلفا"، على حد قوله.
 
ونجح بولسونارو خلال السنوات الثلاثة الأخيرة في تعزيز النفوذ الشعبوي من خلال خطاب الكراهية الذي تبناه، مستندًا في ذلك إلى الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد التي شكلت أرضية خصبة لنمو هذا التيار وتمدده مقارنة بالتيار اليساري وبقية التيارات الليبرالية الأخرى، وهو ما ساعد في اتساع رقعة الشعبويين، رأسيًا وأفقيًا، لتدفع البلاد اليوم ثمن هذا التنامي الذي يلوح بتعميق الانقسام الداخلي وسط تحذيرات من الولوج إلى فخ الاحتراب الأهلي والمطالبة، تلميحًا وتصريحًا، بدخول الجيش على خط الأزمة بعد غياب دام 34 عامًا.
 
شبح عودة العسكر
 
 
وبينما تتناقل منصات التواصل الاجتماعي صور ومقاطع الاقتحام للقصر الرئاسي ومبنى البرلمان تبادر للأذهان تلك الأجواء التي شهدتها البلاد نهايات 1963 وبدايات 1964 حين سقطت في قبضة العسكر بعد خلافات المؤسسة العسكرية مع الرئيس الأسبق جواو جولار، واندلاع العديد من التظاهرات الاحتجاجية في شوارع العاصمة، مظاهرات مدنية وأخرى شارك فيها ضباط البحرية البرازيلية، وأسفرت نهاية المطاف عن الانقلاب العسكري الشهير الذي شهدته البرازيل عام 1964.
 
عشرون عامًا عاشتهم البرازيل تحت الحكم العسكري الديكتاتوري (1964 – 1985)، تلك الحقبة التي أعلن الرئيس الأسبق بولسنارو تأييده الكامل لها وحنينه لعودتها مرة أخرى، بل قال في أحد تصريحاته السابقة إن الخطأ الوحيد لهذا الانقلاب أنه لم يطيح برقاب اليساريين، وهو التصريح الذي كشف وبشكل كبير عن أيديولوجية الرجل وعقلية أنصاره.
 
يتفق اليمين المتطرف كما العسكر مع الرئيس الخاسر على أن أزمات البرازيل لا يمكنها أن تُحل بالطرق الديمقراطية المدنية التقليدية التي ينشدها العالم المتحضر، لكن طبيعة البلاد وتضاريسها الجيوسياسية وتركيبة شعبها تحتاج إلى قبضة من حديد، وهذا لا يكون إلا تحت حكم عسكري خالص.
 
وخلال هذين العقدين ذاق الشعب البرازيلي ويلات الفقر والجوع وتدني الحياة على كل المستويات، فيما مُنح الجنرالات امتيازات لا حصر لها، زيادة في الرواتب وتسهيلات في الأراضي والخدمات، حتى بعد الخروج على المعاش يتم منح كل منهم إدارة شركة من الشركات أو حي من الأحياء كبقية نظم الحكم العسكرية في العالم.
 
وعلى الجهة المقابلة كان هذا الوضع محل رضا وقبول لدى الكثير من البلدان، في أمريكا وأوروبا، حتى لدى بلدان الشرق، حيث منح هذا النظام الكثير من التسهيلات للشركات الأجنبية من إعفاءات جمركية وضريبية، وفتح لها البلاد للنهل من خيراتها بشكل جعل من حكومات تلك البلدان أكبر داعم للنظام الديكتاتوري في البرازيل.
 
وقد كشفت التقارير المعلن عنها في 2013 أنه وخلال عقدي الانقلاب خضع أكثر من 300 ألف مواطن برازيلي للتحقيق من سلطات الأمن، فيما وضعت كل الأنشطة، الرياضية والاقتصادية والثقافية والسياسية، تحت المراقبة المشددة لفترات طويلة.
 
ومع تفشي الفساد في الشارع البرازيلي نتيجة سيطرة النخبة السياسية والاقتصادية على المشهد، زادت معدلات الاحتقان التي صاحبها زيادة في القبضة الأمنية المشددة، وهو ما أدى في النهاية إلى فقدان الاستقرار والتوازن على الساحة البرازيلية، الأمر الذي دفع بعض البرازيليين إلى الحنين لحقبة الانقلاب، وهو ما كشفه استطلاع رأي أجري عام 2014 كشف أن أكثر من 50% من الشعب البرازيلي كانوا أكثر أمانًا تحت الحكم العسكري.
 
ما شهدته البلاد الشهرين الماضيين، وتصاعد خطاب الكراهية من قبل تيار اليمين المتطرف، وحالة القلق والرعب التي سادت وتسود الشارع البرازيلي، أرضية خصبة لصعود الصوت العسكري مرة أخرى، ومع تولي اليساريين السلطة، فالأمر ربما يحمل صدامات مبكرة بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية في ظل التوتر المكتوم بين اليسار والعسكر، وهو ما بدأ يلوح في الأفق مع تصريحات دا سيلفا الهجومية على المؤسسات الأمنية وتحميلها مسؤولية تفاقم الوضع.
 
تلك الأجواء قد تغري اليمين المتطرف - إن لم يتم تحجيمه في أسرع وقت - للقفز بتصعيده إلى آفاق أخرى قد تجبر الجيش على أن يكون طرفًا في المشهد، مستغلًا الحالة الاقتصادية الصعبة التي تزيد من الغضب والاحتقان الشعبي، وهو إن حدث سيكون تحولًا كبيرًا في الخريطة، خاصة في حال دخول جهات خارجية، فهل ينجح دا سيلفا في وأد الفتنة قبل تفاقمها؟شهدت العاصمة البرازيلية "برازيليا" أحدًا مشحونًا بالفوضى، حين اقتحم آلاف المتظاهرين، في 8/1/2023، القصر الرئاسي والكونغرس والمحكمة العليا، ورفعوا شعارات مناهضة للرئيس الحاليّ لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وحطموا أثاث المباني الثلاث التي ترمز لكيانات الحكم في البلاد.
 
الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي لهذا الاقتحام الجماعي أعادت للأذهان اقتحام مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة عام 2021، حين اقتحم أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب المبنى اعتراضًا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت وخسر فيها ترامب لصالح الرئيس الحاليّ جو بايدن.
 
الرئيس البرازيلي دا سيلفا الذي لم يكن في العاصمة حين وقع الاقتحام، حمًل منافسه بولسونارو الموجود في فلوريدا مسؤولية ما حدث، ملقيًا باللوم عليه في هذا التصعيد، فيما عبًر عن امتعاضه وشكواه من القصور الأمني في العاصمة، لافتًا إلى أنه من سمح لمن أسماهم "الفاشيين والمتعصيبين" بالفوضى والتخريب وإحداث الاضطرابات.
 
ونجحت السلطات البرازيلية في اعتقال 150 شخصًا من المشاركين في عمليات الاقتحام، فيما أظهرت قنوات تليفزيون برازيلية صورًا لمؤيدي الرئيس السابق من داخل قصر بلانالتو الرئاسي (المقتحم)، وهم واقفون صفًا واحدًا وأيديهم خلف ظهورهم، مرتدين ملابس صفراء وخضراء وتحيط بهم عناصر الشرطة.
 
ما حدث لم يكن مفاجئًا للمتابعين للمشهد البرازيلي خلال الشهرين الماضيين، حيث التصاعد الواضح في الخطاب الشعبوي البولوسوناري إزاء الرئيس الفائز في الانتخابات التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وسط أجواء من القلق بشأن استمرار تلك الفوضى وتداعياتها على استقرار البلاد، في ظل الدعوات المتكررة لأنصار بولسونارو للنزول والمشاركة في الاحتجاجات الغاضبة الرافضة لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
 
 
تتويجًا لمقدمات فوضوية
 
 
الأحداث التي شهدتها ساحات رموز الحكم في البرازيل (القصر والبرلمان والمحكمة) هي تتويج منطقي لما يجري على الساحة خلال الشهرين الماضيين، دون أن يتحرك أحد بشكل جدي لوقف تلك الفوضى التي حذر منها عشرات الخبراء والمحللين داخل البلاد وخارجها.
 
البداية كانت بنهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين أعلن عن فوز دا سيلفا في الانتخابات الرئاسية الساخنة وهزيمة الرئيس الأخير بولسونارو، حيث شكك المرشح الخاسر في النتائج أولًا، ثم هدد بالتصعيد وعدم الاعتراف بها، رغم أنه كان قد أقر قبل ذلك بالاعتراف بهزيمته إذ ما كانت.
 
موقف بولسونارو المتشدد إزاء نتائج الانتخابات أجج مشاعر أنصاره ممن ساروا كذلك على نفس المسار، رافعين شعارات التنديد والتشكيك التي تطورت إلى التلويح بالاحتجاج والتهديد بالفوضى، خاصة بعد إسدال الستار على احتمالية عودته للحكم مرة أخرى أو إعادة الانتخابات عقب إقرار محكمة الانتخابات الاتحادية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فوز دا سيلفا بشكل رسمي ونهائي.
 
وغادر بولسونارو البلاد متوجهًا إلى فلوريدا قبل 48 ساعة فقط من انتهاء ولايته فيما غاب عن تنصيب دا سيلفا في مشهد عمق من الأزمة وزاد من حالة الانقسام الذي تعاني منه البلاد خلال الآونة الأخيرة، فيما دعا أنصاره إلى انقلاب عسكري لمنع وصول الرئيس اليساري إلى السلطة، مشعلين الساحة بأعمال تخريب وعنف متصاعدة.
 
في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبعد حكم محكمة الانتخابات بإقرار فوز دا سيلفا، اقتحم أنصار بولسونارو مقر الشرطة الاتحادية في العاصمة برازيليا، حيث توجه إليه العشرات ممن يرتدون قصمان منتخب بلادهم الصفراء، وقد أضرموا النار في الحافلات القريبة من المقر وأغلقوا الطرق، فيما واجهتهم الشرطة بقنابل مسيلة للدموع لتفرقتهم.
 
وفي الشهر ذاته نظموا عددًا من الاحتجاجات في الشوارع والميادين العامة بالعاصمة ونصبوا خيامًا أمام ثكنات للجيش وطالبوه بإجراء انقلاب عسكري يحول دون تولي دا سيلفا السلطة، فيما قبع بعض المحتجين أمام المقر الرئاسي حاملين لافتات تطالب بتدخل الجيش فورًا وإعادة الانتخابات.
 
وردًا على هذا التصعيد أجرت الشرطة حملات تفتيش ومداهمة لأنصار الرئيس السابق في عدد من الولايات بموجب أوامر من المحكمة العليا، فيما ألقت القبض على بعض منهم، وأصدرت بيانًا تحذيريًا تبرر فيه تلك الممارسات قالت فيه: "الجرائم قيد التحقيق تتعلق بإحداث أضرار، وإحراق متعمد، و(تكوين) تشكيلات إجرامية، وإبطال سيادة القانون بطريق العنف، والانقلاب، (وهي جرائم) تصل عقوبتها القصوى مجتمعة إلى السجن 34 سنة".
 
 
البولسونارية الشعبوية
 
 
لا يمكن قراءة تطورات المشهد البرازيلي بعيدًا عن الاستفاقة التي شهدها التيار اليميني المتطرف في البلاد خلال الآونة الأخيرة، فالمحتجون لم يكونوا من أنصار الرئيس المهزوم فحسب، بل مزيج من التيارات الشعبوية التي تلاقت مصالحها مع مصالح البولسوناريين في منع التيار اليساري من الوصول للسلطة.
 
ونجح التيار الشعبوي في العودة للأضواء مجددًا بعد انزواء دام قرابة 13 عامًا من تولي اليسار السلطة ( 2003 – 2016)، فضلًا عن تقزيم نفوذه على مدار 34 عامًا من دخول البلاد عصر المدنية والدول الديمقراطية بعد التخلص من الحكم العسكري.
 
وهنا فإن تصاعد النفوذ اليميني المتطرف في دولة تحتل المرتبة الثامنة اقتصاديًا عام 2017 والرابعة عشر عالميًا في قوتها العسكرية وفق تصنيف 2018، يثير الكثير من التساؤلات عن تلك السرعة الجنونية التي يسير بها القطار الشعبوي في البرازيل.
 
وتمثل "البولسونارية" اليوم قمة هرم الشعبوية في القوة الكبرى بأمريكا الجنوبية، هذا التيار الذي رسخ حضوره بشكل واضح عام 2018 بعد الإطاحة بالرئيس اليساري وتولي بولسونارو مقاليد الحكم، ويشترك في كثير من الصفات - بحسب وكالة الصحافة الفرنسية - مع التيارات المطابقة له في الأيديولوجيا والتوجه في بلدان أوروبا، من إيطاليا (إخوة إيطاليا) إلى المجر (التحالف المدني- فيديس) مرورًا ببولندا (حزب القانون والعدالة) وكذلك السويد (ديمقراطيو السويد) وصولًا إلى فرنسا (التجمع الوطني)، هذا بجانب رأس الشعبوية الترامبية الذي كان صعوده إيذانًا بهيمنة هذا التيار المتطرف.
 
غير أن ما يفرق الشعبوية البرازيلية عن نظيراتها في أوروبا والولايات المتحدة أنها لم تتخذ من كراهية الإسلام واستهداف اللاجئين شعارات لها، كونها لم تعد أرض استقبال للمهاجرين، وفق ما ذهب مدير "المركز البرازيلي للدراسات والأبحاث حول الديمقراطية" في جامعة ولاية ريو، جيرالدو مونتيرو، الذي كشف أن الكيانات المستهدفة من هذا التيار هم أعداء الداخل وهم: "الأقليات (المثليون، والسكان الأصليون)، وناشطو حقوق الإنسان، ودعاة حماية البيئة، وعالم الإعلام والأوساط الأكاديمية أو الثقافية اليسارية، ويسار إينياسيو لويس لولا دا سيلفا"، على حد قوله.
 
ونجح بولسونارو خلال السنوات الثلاثة الأخيرة في تعزيز النفوذ الشعبوي من خلال خطاب الكراهية الذي تبناه، مستندًا في ذلك إلى الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد التي شكلت أرضية خصبة لنمو هذا التيار وتمدده مقارنة بالتيار اليساري وبقية التيارات الليبرالية الأخرى، وهو ما ساعد في اتساع رقعة الشعبويين، رأسيًا وأفقيًا، لتدفع البلاد اليوم ثمن هذا التنامي الذي يلوح بتعميق الانقسام الداخلي وسط تحذيرات من الولوج إلى فخ الاحتراب الأهلي والمطالبة، تلميحًا وتصريحًا، بدخول الجيش على خط الأزمة بعد غياب دام 34 عامًا.
 
 
شبح عودة العسكر
 
 
وبينما تتناقل منصات التواصل الاجتماعي صور ومقاطع الاقتحام للقصر الرئاسي ومبنى البرلمان تبادر للأذهان تلك الأجواء التي شهدتها البلاد نهايات 1963 وبدايات 1964 حين سقطت في قبضة العسكر بعد خلافات المؤسسة العسكرية مع الرئيس الأسبق جواو جولار، واندلاع العديد من التظاهرات الاحتجاجية في شوارع العاصمة، مظاهرات مدنية وأخرى شارك فيها ضباط البحرية البرازيلية، وأسفرت نهاية المطاف عن الانقلاب العسكري الشهير الذي شهدته البرازيل عام 1964.
 
عشرون عامًا عاشتهم البرازيل تحت الحكم العسكري الديكتاتوري (1964 – 1985)، تلك الحقبة التي أعلن الرئيس الأسبق بولسنارو تأييده الكامل لها وحنينه لعودتها مرة أخرى، بل قال في أحد تصريحاته السابقة إن الخطأ الوحيد لهذا الانقلاب أنه لم يطيح برقاب اليساريين، وهو التصريح الذي كشف وبشكل كبير عن أيديولوجية الرجل وعقلية أنصاره.
 
يتفق اليمين المتطرف كما العسكر مع الرئيس الخاسر على أن أزمات البرازيل لا يمكنها أن تُحل بالطرق الديمقراطية المدنية التقليدية التي ينشدها العالم المتحضر، لكن طبيعة البلاد وتضاريسها الجيوسياسية وتركيبة شعبها تحتاج إلى قبضة من حديد، وهذا لا يكون إلا تحت حكم عسكري خالص.
 
وخلال هذين العقدين ذاق الشعب البرازيلي ويلات الفقر والجوع وتدني الحياة على كل المستويات، فيما مُنح الجنرالات امتيازات لا حصر لها، زيادة في الرواتب وتسهيلات في الأراضي والخدمات، حتى بعد الخروج على المعاش يتم منح كل منهم إدارة شركة من الشركات أو حي من الأحياء كبقية نظم الحكم العسكرية في العالم.
 
وعلى الجهة المقابلة كان هذا الوضع محل رضا وقبول لدى الكثير من البلدان، في أمريكا وأوروبا، حتى لدى بلدان الشرق، حيث منح هذا النظام الكثير من التسهيلات للشركات الأجنبية من إعفاءات جمركية وضريبية، وفتح لها البلاد للنهل من خيراتها بشكل جعل من حكومات تلك البلدان أكبر داعم للنظام الديكتاتوري في البرازيل.
 
وقد كشفت التقارير المعلن عنها في 2013 أنه وخلال عقدي الانقلاب خضع أكثر من 300 ألف مواطن برازيلي للتحقيق من سلطات الأمن، فيما وضعت كل الأنشطة، الرياضية والاقتصادية والثقافية والسياسية، تحت المراقبة المشددة لفترات طويلة.
 
ومع تفشي الفساد في الشارع البرازيلي نتيجة سيطرة النخبة السياسية والاقتصادية على المشهد، زادت معدلات الاحتقان التي صاحبها زيادة في القبضة الأمنية المشددة، وهو ما أدى في النهاية إلى فقدان الاستقرار والتوازن على الساحة البرازيلية، الأمر الذي دفع بعض البرازيليين إلى الحنين لحقبة الانقلاب، وهو ما كشفه استطلاع رأي أجري عام 2014 كشف أن أكثر من 50% من الشعب البرازيلي كانوا أكثر أمانًا تحت الحكم العسكري.
 
ما شهدته البلاد الشهرين الماضيين، وتصاعد خطاب الكراهية من قبل تيار اليمين المتطرف، وحالة القلق والرعب التي سادت وتسود الشارع البرازيلي، أرضية خصبة لصعود الصوت العسكري مرة أخرى، ومع تولي اليساريين السلطة، فالأمر ربما يحمل صدامات مبكرة بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية في ظل التوتر المكتوم بين اليسار والعسكر، وهو ما بدأ يلوح في الأفق مع تصريحات دا سيلفا الهجومية على المؤسسات الأمنية وتحميلها مسؤولية تفاقم الوضع.
 
تلك الأجواء قد تغري اليمين المتطرف - إن لم يتم تحجيمه في أسرع وقت - للقفز بتصعيده إلى آفاق أخرى قد تجبر الجيش على أن يكون طرفًا في المشهد، مستغلًا الحالة الاقتصادية الصعبة التي تزيد من الغضب والاحتقان الشعبي، وهو إن حدث سيكون تحولًا كبيرًا في الخريطة، خاصة في حال دخول جهات خارجية، فهل ينجح دا سيلفا في وأد الفتنة قبل تفاقمها؟
 
 
 
المصدر: نون بوست