كُتّاب الموقع
التوتر في البلقان.. طبول الحرب تُقرع من جديد

عماد عنان

الجمعة 30 كانون لأول 2022

تتجه التوترات بين كوسوفو وصربيا نحو مزيد من التصعيد بعد إغلاق الشرطة الكوسوفية معبر ميردار، أكبر معبر حدودي مع الجارة الصربية، ردًّا على إقامة الأقلية الصربية في شمال البلاد حواجز على الطرقات شلّوا بها حركة المرور، فيما ارتفعت درجة حرارة الخطاب السياسي بين الجارتَين، مستخدمًا لغة التهديد.
 
وبلغ التصعيد ذروته مع إصدار الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، أوامره بوضع الجيش في حالة تأهُّب قصوى، وذلك بعد الأنباء التي تواردت بشأن اعتزام القوات الكوسوفية شنّ هجوم على الأقلية الصربية في المناطق الشمالية، في مؤشر خطير على تفاقم الوضع في شبه جزيرة البلقان.
 
وتأتي هذه التطورات على خلفية المناوشات المستمرة بين الأقلية الصربية في شمال كوسوفو والسلطات الشرطية، تلك المناوشات التي اندلعت في يوليو/ تموز الماضي بسبب اللوحات المعدنية للسيارات، لكنها تفاقمت في العاشر من الشهر الجاري على خلفية اعتقال شرطي صربي سابق متورّط في شنّ هجمات ضد ضباط شرطة كوسوفيين ألبان.
 
ما يجري الآن في شبه جزيرة البلقان في حقيقته هو امتداد للحرب الباردة بين البلدَين في أعقاب انتهاء الحرب العسكرية بينهما بين عامَي 1998 و1999، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 10 آلاف وتشريد قرابة مليون شخص، فيما تعزز التوتر بعد إعلان كوسوفو -من جانب واحد- استقلالها عن صربيا عام 2008، وهي الخطوة التي اعترف بها أكثر من 100 دولة، فيما لم تعترف بها روسيا والصين و5 دول أوروبية بينها 4 أعضاء في الناتو (إسبانيا والتشيك وسلوفاكيا واليونان).
 
وأعاد هذا التوتر المتصاعد بين الجارتَين أجواء الحرب الدامية التي وقعت قبل عقدَين، يتزامن ذلك مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/ شباط الماضي، والتي ما زال العالم يدفع ثمنها ساعة تلو الأخرى، وسط قلق وترقُّب من نشوب مواجهة جديدة مدفوعة بحزمة من العوامل.. فهل تدفع الأوضاع المتأزّمة نحو حرب جديدة في شبه جزيرة البلقان؟ وهل لروسيا دور في هذا التأجيج؟
 
تصاعُد التوتر
 
 
لم تتوقف أجواء التوتر بين كوسوفو وصربيا منذ استقلال الأولى عام 2008، لكن سرعان ما كان التدخل لاحتواء أي دخان قبل اشتعاله نارًا، فالمنطقة رخوة أمنيًّا ولا تتحمّل حربًا جديدة ربما تكون نواة لمواجهات أشمل تنخرط فيها أطراف خارجية، ما ينذر بحرب عالمية جديدة.
 
غير أن الأمر تفاقم بشكل كبير في ديسمبر/ كانون الأول 2018، حين وافق البرلمان على تدشين وزارة دفاع لكوسوفو، وهو القرار الذي قاطعه معظم النواب الصرب في المجلس، والذي دفع بمنسوب التوتر نحو مستويات قياسية فرض رسوم على السلع الواردة من صربيا، استنادًا لمبدأ "المعاملة بالمثل" حيث تفرض بلغراد رسومًا على السلع الكوسوفية، حينها اتّهم الصربي، ألكسندر فوتشيتش، بريشتينا بـ"قرع طبول الحرب".
 
وفي منتصف العام الجاري، فرضت السلطات الكوسوفية على السيارات التي تحمل لوحات تسجيل صربية تركيب لوحات أخرى تابعة لكوسوفو، مع دفع رسوم قدرها 5 يورو على كل سيارة قادمة من بلغراد إلى داخل الأراضي الصربية.
 
ومنذ ذلك الوقت دخلت المنطقة الحدودية بين البلدَين نفقًا من الفوضى حيث الاحتجاجات اليومية للصرب والمواجهات مع قوات الأمن، الكوسوفية من جانب والتابع لقوات حفظ السلام من جانب آخر، وقد أسفرت تلك القوانين الجديدة عن تقديم مسؤولين ورؤساء بلديات صرب استقالتهم من مناصبهم، ومعهم نحو 600 عنصر صربي من الشرطة.
 
وفي تلك الأجواء الملبّدة بغيوم الاضطرابات، عززت سلطات بريشتينا من حضورها الأمني في المناطق الشمالية استعدادًا للانتخابات العامة التي جرت قبل شهرَين، إلا أن الوضع المتردّي هناك والصدام بين الأقلية الصربية وقوات الأمن الكوسوفية، دفعا رئيسة كوسوفو إلى تأجيل الانتخابات في تلك المناطق لشهر أبريل/ نيسان العام المقبل.
 
ويرفض قرابة 50 ألف صربي مقيم في الشمال الكوسوفي سلطة كوسوفو علي إقليمهم، إذ يريدون الانضمام إلى صربيا، فيما تتمسّك بريشتينا بسلطتها فوق تلك المنطقة الحدودية وعلى سكانها أيًّا كانت هويتهم العرقية أو الأيديولوجية، فيما تظلّ العلاقة بين الطرفَين على صفيح ساخن، توتُّر مكتوم يخرج للسطح حينًا لكن سرعان ما يخمد مرة أخرى بعد عدة تدخلات ووساطات، تجنُّبًا لتداعيات التصعيد.
 
ووصلت سُحُب التلبُّد السياسي والأمني في تلك المنطقة ذروتها الرمادية خلال الساعات الأخيرة، لتنذر بهطول كرات نار حارقة في ظلّ السجال المتصاعد بين الطرفَين، تجييش للقوات المسلحة الصربية على الحدود، وإعلان حالة الطوارئ وتعزيز التواجد الأمني الكوسوفي في الشمال، ما أقلق المجتمع الدولي الذي يخشى من فتح جبهة نار جديدة.
 
قلق وترقُّب.. دعوة لضبط النفس
 
 
التهاب المشهد وارتفاع سخونته أثارا قلق المجتمع الدولي الذي ناشد طرفَي الأزمة بضبط النفس منعًا لاندلاع مواجهات أكثر شراسة، وهو ما دفع السلطات الكوسوفية لإطلاق سراح الشرطي الصربي الذي اعتقلته قبل أيام، في محاولة منها لتهدئة الأوضاع لا سيما بعد تجييش القوات الصربية على الحدود.
 
قوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) طالبت الحكومتَين، الكوسوفية والصربية، بتجنُّب الاستفزاز والتزام التريُّث وعدم الانجرار خلف التصعيد، معربة عن استعدادها الكامل للقيام بدور الوساطة من أجل إجراء حوار لإنهاء التوترات في المنطقة.
 
وفي بيان مشترَك للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أعربا عن قلقهما إزاء هذا التصعيد، مؤكدَين على أنهما يعملان مع جميع الأطراف لإيجاد حلّ سياسي لنزع فتيل الأزمة قبل تفاقُمها، والاتفاق على خارطة طريق لصالح الاستقرار في المنطقة، كما دعا بلغراد وبريشتينا إلى تعزيز ما أسماه "بيئة مواتية للمصالحة"، واتخاذ إجراءات فورية لتهدئة الموقف والامتناع عن أي استفزازات أو تهديدات.
 
وأكّدت الخارجية الألمانية على مواصلة جهودها الدبلوماسية الحالية لإزالة الحواجز التي أقامها المحتجون الصرب في شمال كوسوفو، تمهيدًا لعودة الأمور إلى طبيعتها، معربة عن قلقها من تصاعد التوتر، فيما حذّرت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، أليسيا كيرنز، من التصعيد بين الجارتَين كـ"أمر خطير وغير مقبول"، وحثّت وبشكل عاجل، في تغريدة لها على تويتر، على بذل المزيد من الجهد الدبلوماسي والتركيز على الأحداث الجارية في غرب البلقان، لا سيما كوسوفو والبوسنة والهرسك.
 
ما علاقة روسيا وأمريكا؟
 
 
في تصريحاته للصحفيين، الأربعاء 28 ديسمبر/ كانون الأول 2022، قال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن بلاده تدعم بلغراد فيما تتخذه من خطوات في مواجهة كوسوفو، معتبرًا أنه "من الطبيعي أن تدافع صربيا عن حقوق الصرب الذين يعيشون في الجوار وسط ظروف بالغة الصعوبة، وأن تردَّ بشكل حازم حين يتم انتهاك حقوقها".
 
الدعم الروسي لبلغراد والعلاقات التاريخية بين البلدَين، دفعا البعض إلى ترجيح فرضية أن يكون هناك ترابُط بين ما يحدث في البلقان وما يحدث داخل الأراضي الأوكرانية، وهو ما كشفه معهد "كارنيغي أوروبا" (Carnegie Europe) في تقرير له أشار من خلاله إلى أن لروسيا يدًا فيما يحدث في شمال كوسوفو، وأنها تحاول جاهدةً فتح جبهة ثانية ضد قوى الغرب عبر استهداف خاصرتها الضعيفة في البلقان، لكن هذا ليس السبب الوحيد في تأجيج الوضع بحسب المعهد، إذ كشف أن التطورات الأخيرة كانت مدفوعة بعوامل أخرى محلية.
 
يتناغم ما توصّل إليه معهد "كارنيغي أوروبا" مع موقف رئيسة كوسوفو، فيوسا عثماني، التي اتهمت روسيا بأن لها "مصلحة تدميرية" في منطقة البلقان، تشمل الانتقام من كوسوفو والبوسنة والجبل والأسود، وهو الوتر الذي عزف عليه كثير من المحللين بأن موسكو تحاول مناكفة أوروبا وأمريكا من خلال إثارة التوترات في تلك المنطقة، وإن كان آخرون قد ذهبوا إلى أن التوترات الداخلية التي تخيّم على الأجواء الكوسوفية هي من خدمت الأجندة الروسية في تغذية الانقسامات وإشعال الوضع بتلك الوتيرة.
 
ورغم النفي الروسي لتلك التلميحات، واستبعاد اتهامات أي تورُّط في إشعال الموقف، إلا أن العقدَين الماضيَين كشفا وبشكل واضح أن موسكو تتعامل مع الملف الكوسوفي الصربي كإحدى الأوراق البديلة التي يمكن استخدامها بين الحين والآخر في معركة الصراع مع الغرب.
 
ولعلّ الضربات التي تلقاها الروس في أوكرانيا والخسائر المتتالية طيلة الأشهر العشر الماضية محفّز قوي لإشعال تلك الورقة واللعب بها على مائدة المفاوضات مستقبلًا، إذا ما جلس الجميع على طاولة واحدة لتخفيف حدة التوتر في أوكرانيا، وهي الخطوة التي أعربت الخارجية الروسية عن استعدادها لاتخاذها إذا ما توافقت الأطراف الأخرى.
 
وعلى الجانب الآخر، هناك فريق يتبنّى فرضية التورُّط الأمريكي الغربي في تأجيج المشهد الكوسوفي لتحقيق حزمة من الأهداف السياسية، وذلك من خلال دفع حكومة بريشتينا لاستفزاز الأقلية الصربية ببعض القوانين والإجراءات، بهدف تشتيت الانتباه الروسي بين أوكرانيا وصربيا، وهو ما يفقد موسكو الكثير من توازنها وتركيزها بما يعمّق خسائرها الميدانية.
 
هل تُقرع طبول الحرب؟
 
 
مع تصاعد الحرب الكلامية بين بريشتينا وبلغراد خلال الأيام الماضية، والتي تطوّرت لتسجّل أعمال عنف ومواجهات دامية، علَت بعض الأصوات التي تحذّر من احتمالية نشوب مواجهة عسكرية شاملة، قد يتورّط فيها بعض القوى الإقليمية والدولية، أسوة بما حدث في أوكرانيا.
 
تلك المخاوف عززتها تصريحات الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، الذي أكّد خلالها استعداد جيش بلاده لحماية الأقلية الصربية في كوسوفو، وأكّدت عليها رئيسة وزرائه، آنا برنابيتش، التي اتهمت نظيرها الكوسوفي، ألبين كورتي، بوضع المنطقة على حافة حرب أخرى.
 
ودخلت على خط الأزمة قوات حلف الناتو المكلّفة بحماية كوسوفو، والبالغ عددها قرابة 4 آلاف جندي، حيث هدّدت بالتدخل لوقف التصعيد إذا ما تطور الأمر إلى ما هو أكبر من السجال الكلامي بين الجارتَين، أما الاتحاد الأوروبي فحذّر من أن الإخفاق في حلّ الخلافات من شأنه أن يستعيد سيناريو الحرب القديمة بين البلدَين قبل عقدَين، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف.
 
بدايةً لا بدَّ من الإشارة إلى أن التصريحات التي أدلى بها الرئيس الصربي بشأن التدخل العسكري في كوسوفو هي أقرب للاستهلاك المحلي والدعاية السياسية منها إلى التهديد الفعلي، إذ إن تدخله في المنطقة الشمالية المؤمّنة من قوات الناتو تعني باختصار أن صربيا في مواجهة حلف الأطلسي وليس كوسوفو فقط، وهو ما لا يكون في صالح بلغراد بأي حال من الأحوال، لذا يستبعدُ البعض تلك الفرضية.
 
وبعيدًا عن مصداقية التهديد الصربي ومنسوب جدّيته، إلا أن الأرض الرخوة التي تبدو عليها شبه جزيرة البلقان، بسبب النزاعات المستمرة طيلة أكثر من 20 عامًا، مهيَّأة تمامًا لاستقبال حرب جديدة، سواء كان ذلك عبر محفّزات داخلية أو تدخلات خارجية، لا سيما مع إطالة أمد الحرب الروسية الأوكرانية الحالية، واستمرار المعادلة النزاعية ذاتها: التحالف الروسي الصربي من جانب والغربي الكوسوفي من جانب آخر.. فهل يتحمّل العالم جبهتَي قتال في الوقت نفسه؟
 
 
 
المصدر: نون بوست