كُتّاب الموقع
لماذا يشهد الشرق الأوسط لحظة نادرة من تراجع التصعيد الإقليمي؟

علي باكير

الإثنين 29 آب 2022

كانت منطقة الشرق الأوسط منذ فترة طويلة إحدى أكثر المناطق اضطرابا في العالم. وكان عدم الاستقرار والصراعات والتنافس والنزاعات بين الفاعلين الإقليميين الرئيسيين هي القاعدة المعمول بها لدرجة أنه لا يمكن تذكر آخر مرة اتفق فيها كل هؤلاء اللاعبين على شيء ما.
 
لكن على عكس المتوقّع، يشهد الشرق الأوسط حاليا لحظة نادرة من تراجع التصعيد الإقليمي ووتيرة غير مسبوقة من المصالحة بين القوى الإقليمية، في ظل تحسن العلاقات بين العديد من اللاعبين الرئيسيين. ويمثل الاقتصاد والأمن والدبلوماسية أهم ما دارت حوله المحادثات بين كبار قادة وصناع القرار في المنطقة. 
 
بدأت هذه التطورات تتبلور مع تواصل الإمارات العربية المتحدة (الإمارات العربية المتحدة) بإيران في نهاية سنة 2020، وتواصل المملكة العربية السعودية بقطر في بداية سنة 2021. بعد ذلك، انطلقت جهود دبلوماسية مكثفة بين مصر وقطر، وتركيا ومصر، والإمارات وتركيا، وتركيا وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية وإيران، وتركيا والمملكة العربية السعودية.
 
ضمن استمرار قنوات التواصل بين دوائر استخبارات الخصوم في معظم الحالات وجود بيئة غير سياسية ومهنية للسياسيين للتواصل من أجل حل الخلافات. وبالمثل، وفّرت كل من الأعمال والمبادلات التجارية والاستثمارات حوافز قوية ومتينة للأطراف المعنية للبحث عن أرضية مشتركة وتحقيق وضع مربح للجميع.
 
مراجعة شاملة
 
 
بعد سنوات من التوترات، استأنفت مصر علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في كانون الثاني/ يناير 2021 حيث تبادل كبار الدبلوماسيين من البلدين الزيارات وقاموا بإنشاء لجنة متابعة لتسوية القضايا التي تهم البلدين ولجنة مشتركة رفيعة المستوى لتعزيز التعاون بين العاصمتين.
 
التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمير قطر ثلاث مرات؛ في بغداد في آب/ أغسطس 2021، وفي بكين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021،  وفي القاهرة في حزيران/ يونيو. ومع تحسن العلاقات، تعهدت الدوحة في آذار/ مارس باستثمار 5 مليارات دولار في الاقتصاد المصري في السنوات القليلة المقبلة، وهو ما سيُضاف إلى مليارات الدولارات التي سبق أن استثمرتها بالفعل.
 
أما بالنسبة لتركيا ومصر، فقد بدأ التقارب بينهما رسميا في أيار/ مايو 2021، عندما أجرى وفدان من البلدين بقيادة نائبي وزيري الخارجية جولتين من المحادثات الاستكشافية في سنة 2021، إحداهما في القاهرة في أيار/ مايو والأخرى في أنقرة في أيلول/ سبتمبر. وقد تناولا  قضايا ثنائية وعددا من القضايا الإقليمية، لا سيما الوضع في ليبيا وسوريا والعراق، وضرورة تحقيق السلام والأمن في منطقة شرق المتوسط.
 
ظلت العلاقات تتحسن ببطء ولكن بثبات. في نيسان/ أبريل، لم يستبعد وزير الخارجية التركي تبادل سفراء مع القاهرة وتنظيم اجتماع وزاري. وفي حزيران/ يونيو، زار وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين النبطي مصر، في أول زيارة يقوم بها وزير تركي إلى القاهرة منذ تسع سنوات.
 
في سنة 2021، جلس الخصمان الإقليميان- المملكة العربية السعودية وإيران- معا لأول مرة منذ سنوات بوساطة عراقية لتسهيل المحادثات بينهما في بغداد. وقد سبق أن قطعت الرياض العلاقات الدبلوماسية مع إيران في سنة 2016 بعد اقتحام سفارتها في طهران.
 
في أيلول/ سبتمبر، بدأت الجولة الأولى من المحادثات الاستكشافية بينهما. ورغم النكسة قصيرة الأمد التي حدثت في آذار/ مارس عندما أعلنت إيران تعليق المحادثات، أجرى مسؤولون من البلدين جولة خامسة من المحادثات في نيسان/ أبريل. وقد كانت القضايا الأمنية وحرب اليمن وإعادة فتح سفاراتهما من بين الموضوعات التي تمت مناقشتها. وبينما شددت طهران على أهمية استئناف العلاقات الدبلوماسية، أكدت الرياض على أنها تريد رؤية المزيد من الإجراءات العملية من طهران أولًا.
 
بالنظر إلى توتر العلاقات في العقد الماضي، كان التقارب بين الإمارات العربية المتحدة وتركيا سريعا بشكل مفاجئ. وقد كان التعامل بجدول أعمال واضح ومباشر، الذي يدور في الغالب حول المنافع المتبادلة لتعزيز التجارة والاستثمار والأعمال في وضع مربح للجانبين، أمرا حاسما.
 
في تشرين الثاني/ نوفمبر، أدى ولي عهد أبوظبي في ذلك الوقت والحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد، زيارة إلى تركيا هي الأولى من نوعها منذ تسع سنوات. وقد سبقت هذه الزيارة زيارة لمستشار الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد إلى أنقرة في آب/ أغسطس 2021 التي رد عليها  الرئيس التركي بالمثل عندما زار أبو ظبي في شباط/ فبراير وحظي بحفل استقبال فخم. وقد أسفرت هذه الزيارات عن عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والصفقات التي أدت إلى فتح صفحة جديدة بين العاصمتين. 
 
فيما يتعلق بتركيا وإسرائيل، قام الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بزيارة تاريخية لأنقرة في آذار/ مارس من هذه السنة، وهي الأولى من نوعها لرئيس إسرائيلي منذ 15 عاما. وقد مهدت العديد من التطورات الطريق لهذه الزيارة، بما في ذلك مكالمة هاتفية نادرة بين الرئيسين في تموز/ يوليو 2021، وزيارة سرية للمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية ألون أوشبيز إلى أنقرة في كانون الثاني/ يناير، وذهاب وفد من كبار المسؤولين الأتراك إلى تل أبيب في شباط/ فبراير.
 
في هذا الصدد، تعني مشاركة الحكومة الإسرائيلية أن إعادة بناء العلاقات الثنائية يجب أن يتم بطريقة مدروسة وحذرة. ولكن خلال السنة الماضية، كان للتعاون الاستخباراتي السلطة العليا بين الجانبين. لطالما فكر الطرفان في إمكانية نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، وهو مشروع - إذا ما تحقق - سيغير قواعد اللعبة في شرق البحر المتوسط. وبناء على زيارة الرئيس الإسرائيلي وتعزيز التقارب، قام وزير الخارجية التركي بزيارة إسرائيل في أيار/ مايو بالتوازي مع زيارة الأراضي  الفلسطينية.
 
أما بالنسبة للسعودية وتركيا، فعلى الرغم من أن التقارب بين البلدين بدأ في وقت مبكر من تشرين الأول/ أكتوبر 2020، من خلال تبادل الملك سلمان والرئيس أردوغان عدة رسائل ومكالمات هاتفية، إلا أن عملية التطبيع توقفت بسبب بعض المسائل المعينة لمدة سنة تقريبا. وقد ساهم عاملان في هذا الوضع، هما الموقف الشخصي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وغياب صيغة مناسبة لإعادة العلاقات الثنائية بعد هذا الحادث.
 
وأخيرا، تمكن الطرفان من كسر الجليد بزيارة الرئيس أردوغان إلى الرياض في نيسان/ أبريل من هذه السنة ولقاءاته مع الملك سلمان وولي العهد. وبالمثل، زار محمد بن سلمان أنقرة في حزيران/ يونيو. وحتى مع هذا التقدم الواضح، لم يتم الإعلان عن أي جدول أعمال اقتصادي أو سياسي أو أمني حتى ذلك الوقت.
 
بيئة مناسبة
 
 
لم تكن عمليات التطبيع آنفة الذكر لتحدث دون تطورات معينة على المستويات الدولية والإقليمية وشبه الإقليمية. وقد مهدت هذه التطورات الطريق لخفض التصعيد الإقليمي وخلق بيئة مناسبة وأرضية مشتركة للأطراف المتنازعة للجلوس معا ومناقشة المصالح المشتركة والمُصالحة وتطبيع علاقاتهم بطريقة غير مسبوقة.
 
كان لهزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 تأثير كبير على طبيعة الديناميكيات الإقليمية السائدة بدءًا من سنة 2021. والبلدان التي ظلت لفترة طويلة تستند إلى ترامب كرئيس ذي أولوية في التعامل مع الأجندات الإقليمية والإيديولوجية والتقسيمية والمواجهات، وجدت نفسها فجأة في موقف غير مريح بعد انتصار جو بايدن في الرئاسيات الأمريكية.
 
يمثّل وجود رئيس جديد في البيت الأبيض قواعد جديدة للعبة في المنطقة. وقد سلكت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر نفس المسار بعد فشلها في تحقيق أجندتها الإقليمية. وخسرت إسرائيل الاستثمار في مشروع كوشنر المسمى "صفقة القرن"، بينما كانت تل أبيب تشهد بالفعل تغييرًا داخليًا بعد هزيمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ظل في السلطة لمدة 15 عاما.
 
أما بالنسبة لتركيا، فقد شعرت بالحاجة إلى تجنب المشاركة في أي عمل إقليمي جديد. لذلك، لجأت إلى موازنة قوتها الصلبة مع قوتها الناعمة، للاستفادة من المكاسب السياسية والاقتصادية المحققة من نشاطها العسكري الناجح في سوريا والعراق وليبيا وناغورنو-كاراباخ وشرق المتوسط.
 
 
كان "إتفاق العلا" في 5 كانون الثاني/ يناير 2021 أول نتيجة رئيسية لوصول بايدن إلى البيت الأبيض. وقد جاء هذا الاتفاق في الأصل كإعلان تصالح ثنائي بين المملكة العربية السعودية وقطر، وأنهى الحصار الذي فرضته مجموعة من الدول الخليجية بقيادة السعودية، التي ضمّت إلى جانبها الإمارات والبحرين ومصر، على الدوحة وفتح صفحة جديدة بين قطر وجيرانها. ونتيجة لذلك، سرّعت "اتفاقية العلا" عملية المصالحة داخل دول مجلس التعاون الخليجي، وأطلقت سلسلة من ردود الفعل للعديد من التفاعلات الدبلوماسية الإقليمية، وفتحت الباب أمام مبادرات الصلح.
 
وعلى الرغم من أن الإمارات ومصر لم ترحّبا في البداية بالاتفاق، بسبب حقيقة أن المملكة العربية السعودية لم تتشاور معها بشأنه، إلا أنهما رأتا فيه فرصة لتنفيذ أجندات مرنة نسبيًا. وهذا النهج ساعدهما في تنويع العلاقات الإقليمية، وإعطاء الأولوية للقضايا الرئيسية، وتعزيز المصالح الخاصة.
 
وعلى هذا الأساس، تواصلت مصر مع قطر، وتقربت الإمارات مع تركيا. وبالمثل، سمحت اتفاقية العلا لأنقرة بتقوية علاقاتها مع دول الخليج الصغيرة ومتابعة تطبيع العلاقات مع مصر والمملكة العربية السعودية.
 
وبالإضافة إلى هذين الحدثين البارزين، ساهمت عوامل حاسمة أخرى في خلق ديناميكيات إقليمية جديدة ولحظة نادرة من خفض التصعيد وتطورًا غير مسبوق في المصالحات الإقليمية. عرفت هذه الفترة نهاية حقبة "الانتفاضة العربية لسنة 2011" وإلغاء واشنطن المنطقة من قائمة أولوياتها وتقليص التزاماتها الأمنية للعديد من البلدان منها دول الخليج بالتزامن مع جائحة كوفيد-19، ومفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة المتجددة مع إيران، كما شهدت هذه المرحلة الغزو الروسي لأوكرانيا.
 
إن استمرار التركيز الأمريكي وتحويل الموارد نحو الصين دفع دول مجلس التعاون الخليجي إلى تسريع وتنويع استراتيجياتها. ونتيجة لذلك، اكتسبت دول مثل تركيا وإسرائيل وإيران أهمية أكبر في مثل هذه الظروف.
 
أدى إجهاد القوى الناتج عن اتباع أجندات جيوسياسية وأيديولوجية متناقضة للغاية، وكذلك تفشي وباء كوفيد-19 في حقبة ما بعد 2011، إلى تشجيع اللاعبين الإقليميين المتضاربين على اتباع سلوك براغماتي وإعطاء الأولوية للاقتصاد والأعمال والتجارة والأجندات القائمة على المصالح بدلا من الأيديولوجيات.
 
وعندما بدأ الوباء في الانحسار ما بين 2021 و2022، كان هؤلاء اللاعبون الإقليميون في وضع جيد للاقتراب من بعضهم البعض بعقلية براغماتية-اقتصادية تهدف إلى تعويض الخسائر الاقتصادية والمالية المدمرة التي سببها الوباء. وكان ذلك واضحًا في حالة مصر وقطر، والإمارات وتركيا، وتركيا ومصر، وجهود التقارب بين إسرائيل وتركيا.
 
ثم جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتعطي أهمية أكبر لمنطقة شرق المتوسط ​​ومواردها النفطية والغازية، مما خلق مناخًا إيجابيًا للدول للوصول إلى أرضية مشتركة لوضع مربح للجانبين، خاصة في حالة تركيا وإسرائيل ومصر. 
 
التحديات المقبلة
 
 
على الرغم من التأثير الإيجابي لهذا التراجع غير المسبوق في التصعيد في المنطقة، إلا أن هناك تساؤلات بشأن مدى استدامة العلاقات ومرونة جهود المصالحة. فليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا وضعا مؤقتًا تغذّيه الأهداف التكتيكية لبعض البلدان المعنية، أم هو معيار واتجاه ناشئ حديثًا يعتمد على الحسابات الاستراتيجية. وبغض النظر عن ذلك، ستختبر العديد من التحديات قريبًا هذه الظاهرة الجديدة في الشرق الأوسط، لأن الديناميكيات الإقليمية والدولية التي أدت إلى هذه اللحظة النادرة من التهدئة والمصالحة بين مختلف اللاعبين الإقليميين، على وجه الخصوص، ليست ثابتة بل هي خاضعة لتغيرات مفاجئة.
 
هذا يعني أن أي وضع شديد التقلب سيؤدي إلى تحوّلات محتملة في هذه الديناميكيات في المستقبل القريب ولا يمكن استبعادها، وبالتالي قد تؤثر سلبًا على عملية المصالحة وتتسبب في تراجعها. بالإضافة إلى ذلك، فإن إحدى السمات الواضحة لعمليات التطبيع الحالية هي أنها تستند بدرجة كبيرة إلى طبيعة العلاقات الشخصية بين صانعي القرار في هذه البلدان المعنية. وفي حين أن هذا قد يكون جيدًا عندما يتعلق الأمر بتجاوز العقبات البيروقراطية التي قد تسبب تأخيرات طويلة في تطبيع العلاقات، فإنه قد يشير إلى علاقات مؤسساتية ضعيفة.
 
إن وجود علاقة مؤسساتية يجعل المصالحة بين الدول المعنية هشة للغاية في مواجهة التقلبات السياسية في المستقبل. وقد يؤدي تغيير جذري على المستوى الأعلى لدى أي من اللاعبين الإقليميين الأساسيين إلى إطلاق أنواع مغايرة من العلاقات داخل المنطقة.
 
هناك العديد من العوامل الأخرى التي تستحق التأمل الدقيق في المستقبل القريب، وقد تكون بمثابة اختبار لهذا التطبيع الإقليمي الحالي وخفض التصعيد. وتشمل هذه العوامل:
 
أولًا، ستكون الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2024 حاسمة للغاية بالنسبة للمنطقة، لأنها قد تجلب رئيسًا آخر يشبه ترامب في مثل هذه التعاملات. وقد  أظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة "أسوشيتد برس" في أيار/مايو الماضي أن نسبة تأييد الرئيس جو بايدن قد وصلت من جديد إلى مستوى منخفض، حيث وافق 39 بالمئة فقط على أدائه الوظيفي. وبمجرد أن أشارت هذه الوكالة إلى أن رفض الجمهوريين لبايدن سيظل ثابتًا - ما لم يوافق عليه واحد من كل 10 مشاركين في الحزب الجمهوري - تراجعت شعبيته بين الديمقراطيين طوال فترة رئاسته.
 
وبينما لم يتولَ أي رئيس أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة عهدتين غير متتاليتين باستثناء الرئيس جروفر كليفلاند، الذي شغل منصب الرئيس الثاني والعشرين والرابع والعشرين للولايات المتحدة من سنة 1885 إلى 1889 ثم من سنة 1893 إلى سنة 1897، هناك توقعات قوية باحتمال عودة ترامب في 2024.
 
فكرة فوز ترامب أو رئيس يشبه في انتخابات 2024 يمكن أن تشجع بعض الدول الإقليمية، لا سيما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر، على العودة إلى اتباع نفس السياسات القديمة المحفوفة بالمخاطر.
 
الانتخابات التركية
 
 
 
ثانيًا، تكتسي انتخابات 2023 الرئاسية في تركيا أهمية كبيرة للأتراك والمنطقة. وتراهن العديد من القوى الإقليمية والدولية على تغيير داخلي في أنقرة لإعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية لصالحها. ومن شأن تشكيل حكومة تابعة للغرب تغيير دور أنقرة الإقليمي وطبيعة علاقاتها مع العديد من الدول الإقليمية بشكل كبير.
 
تعهد حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، بطرد اللاجئين السوريين من تركيا واستئناف العلاقات مع نظام الأسد. ويمكن توقع اتجاهات مماثلة تجاه مختلف القضايا والحكومات. قد يكون من المتوقع حدوث انعكاس في السياسة الخارجية التركية ومشاركة دبلوماسية واقتصادية وعسكرية أقل في الشرق الأوسط. وإذا تحقق هذا السيناريو، فسيؤثر أيضًا على العلاقات البينية الإقليمية.
 
وثالثًا، مصير الاتفاق النووي المبرم بين الولايات المتحدة وإيران في خطة العمل الشاملة المشتركة لسنة 2015. استمرت المفاوضات بين إدارة بايدن والحكومة الإيرانية لإعادة تنشيط الصفقة لبعض الوقت. وقد اعترضت عدة كيانات في المنطقة، لا سيما إسرائيل والسعودية، على الصفقة الأصلية على أساس أنها لن تمنع طهران تمامًا من إنتاج سلاح نووي. كما أفادت بأنها ترغب في عرقلة برنامج إيران الصاروخي وإجبار النظام الإيراني على تغيير سلوكه الإقليمي وإنهاء أنشطته المزعزعة للاستقرار.
 
سيؤدي هذا السيناريو إلى سباق تسلح نووي. وفي كلتا الحالتين، قد تؤدي نتيجة المفاوضات إلى إعادة تشكيل التحالفات في المنطقة على أساس المواقف تجاه إيران.
 
تأثير حرب أوكرانيا
 
 
 
رابعًا، انعدام الأمن الغذائي الناشئ في الشرق الأوسط. في سنة 2019 صدّرت روسيا وأوكرانيا أكثر من 25 بالمئة من القمح العالمي. ولكن أدى غزو موسكو لأوكرانيا، فضلاً عن العقوبات المفروضة على روسيا، إلى تعطيل صادرات القمح والحبوب والذرة ومصادر الغذاء الأساسية الأخرى، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل كبير على مستوى العالم.
 
تعتمد عدة دول عربية، إلى جانب تركيا، على استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا. وتعتمد مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، على موسكو وكييف لتأمين أكثر من 70 بالمئة من الطلب المحلي. مثل مصر، فإن الأمن الغذائي لعدة دول عربية مهدد. وإذا كان من المقرر أن تستمر الحرب، فلا ينبغي لأحد أن يستبعد حدوث أزمة غذاء وتسبب الارتفاع الشديد في أسعار المواد الغذائية في اندلاع انتفاضات.
 
سيكون لهذا السيناريو تداعيات سياسية واقتصادية وأمنية. قد تجبر الموجة الثانية من الثورات العربية اللاعبين الإقليميين على إعادة تشكيل تحالفاتهم على أساس أمن الأنظمة.
 
خامساً، المفسدون والتطورات في شرق البحر الأبيض المتوسط. لقد أدى استخدام روسيا للطاقة كسلاح خلال حربها ضد أوكرانيا إلى وضع أوروبا تحت رحمة موسكو. خلق هذا الموقف اهتمامًا عاجلاً لإيجاد مصادر طاقة بديلة لتلبية الطلب في أوروبا، وتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، وإدارة التعرض للمخاطر في مواجهة موسكو.
 
أحد مصادر الغاز غير المستغلة يقع شرق البحر الأبيض المتوسط. بالنظر إلى خفض التصعيد الإقليمي، أشارت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إلى إمكانية استخدام الموارد الهيدروكربونية في المنطقة. ويتطلب استخدام الموارد غير المستغلة لشرق البحر الأبيض المتوسط وحل النزاعات بين الأطراف المختلفة مراعاة نهج تركيا الشامل بشأن هذه القضية بالإضافة إلى خط أنابيب يمتد من إسرائيل إلى تركيا بدلاً من خط أنابيب شرق البحر المتوسط غير المجدي من إسرائيل إلى اليونان عبر جزيرة كريت، مرورا بالمياه التي تطالب بها أنقرة.
 
على الرغم من الظروف الإقليمية الإيجابية للغاية الناتجة عن عمليات التطبيع، من الصعب توقع ما إذا كانت بعض الأطراف المعنية ترسم هذا المسار الجديد بدافع الرغبة الحقيقية، أم هي مجرد براغماتية.
 
بما أن اليونان غير راضية عن هذه التطورات وعن حقيقة أن شركاءها الإقليميين الرئيسيين - الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية - قاموا بتطبيع علاقاتهم مع تركيا، فقد برزت اليونان كمفسد. إنها تعمل بنشاط لتقويض بيئة خفض التصعيد واستدراج أطراف أخرى، مثل الولايات المتحدة، إلى مشاكلها الخاصة. وإذا استمر هذا السلوك، فقد يؤثر سلبًا على المنطقة ويختبر بشكل جدي بعض عمليات المصالحة والتطبيع.
 
الحفاظ على الزخم
 
 
 
حتى مع الظروف الإقليمية الإيجابية للغاية الناتجة عن عمليات التطبيع، من الصعب توقع ما إذا كانت بعض الأطراف المعنية تتبع هذا المسار الجديد بدافع الرغبة الحقيقية، أم أنها فقط تتصرف ببراغماتية، واضعين سيوفهم في غمدها في انتظار اللحظة المناسبة للعودة إلى سياساتهم القديمة.
 
بعد قولي هذا، إذا كانت هناك إرادة حقيقية لتحويل لحظة خفض التصعيد إلى وضع مستدام، فيجب أن نرى دولًا إقليمية رئيسية تتخذ على الأقل بعضًا من التدابير التالية في المستقبل القريب
 
أولا، إعطاء الأولوية للجانب الاقتصادي للعلاقات الثنائية، ذلك أن الفضاء الاقتصادي هو مساحة غير مسيسة بطبيعتها يمكن أن تساعد بسهولة في إنشاء صيغة مربحة للأطراف المعنية. ومن شأن البناء على المصالح الاقتصادية تعزيز عمليات المصالحة وضمان مكاسب حقيقية وملموسة لجميع الأطراف.
 
على الرغم من أن الدول الريعية قد لا تكون مهتمة بمثل هذه الفوائد، إلا أن فترة ما بعد كوفيد-19 والحرب الروسية ضد أوكرانيا والرغبة في تنويع الاقتصاد تجبرها على النظر بجدية في البعد الاقتصادي.
 
ثانياً، تحديد المجالات ذات الاهتمام المشترك في المجالات الأخرى مثل الأمن والسياسة، ثم البناء عليها مع محاولة الحفاظ على الفصل بين السياسة والاقتصاد والأمن في أوقات التوتر لتجنب قطع كل العلاقات دفعة واحدة. ستضمن هذه الطريقة الحد الأدنى من الأضرار وتمكن الأطراف من إبقاء الاتصال مفتوحًا بشأن القضايا الأخرى غير المتأزمة.
 
ثالثًا، الدخول في نقاشات بنّاءة حول نقاط الخلاف بين القوى الإقليمية الكبرى. هذا يعني أنه من الضروري أن تنشئ الأطراف المعنية آلية قادرة على احتواء وحلّ المشكلات التي قد تنشأ في المستقبل، مع العمل على إبقاء قنوات الاستخبارات مفتوحة ونشطة لأن "الأمن مهم للجميع". تميل بعض الدول إلى إعطاء الأولوية للعلاقات الأمنية بسبب موقعها الجغرافي وشعورها بانعدام الأمن. ولن يؤدي الاحتفاظ بقناة مفتوحة إلى تعميق التعاون في القضايا الأمنية فحسب، بل قد يساعد أيضًا في تسهيل مناقشة بعض القضايا السياسية التي لم يتم حلها.
 
أما غياب هذه التدابير يعني عمليات مصالحة وتطبيع هشة ما سيجعلها عرضة للتحديات المذكورة أعلاه التي من المتوقع أن تختبر التشكيلات الإقليمية الحالية عاجلاً أم آجلاً.
 
 
 
المصدر: ميدل إيست آي - نون بوست