كُتّاب الموقع
الحرب في أوكرانيا واحتمالات التصعيد: قراءة تحليلية لمقال جون ميرشايمر

د. اياد هلال الكناني

الأربعاء 24 آب 2022

في ضوء تصاعد المخاوف العالمية من النتائج التي ستؤول اليها الحرب الروسية – الأوكرانية واحتمالات تصاعد مستوياتها واتساع دائرتها، يناقش عالم السياسة الأمريكي – المنتمي للمدرسة الواقعية – جون ميرشايمر احتمالات التصعيد في الحرب الأوكرانية وامكانية تحولها إلى مواجهة مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها، وذلك في مقال له نشر في مجلة الشؤون الخارجية – Foreign Affairs الأمريكية، تاريخ 17 أغسطس/آب 2022، بعنوان: اللعب بالنار في أوكرانيا – المخاطر الكارثية غير المقدرة للتصعيد – Playing With Fire in UkraineThe Underappreciated Risks of Catastrophic Escalation.
 
في هذا المقال، سنحاول مناقشة أهم ما جاء في تحليل ميرشايمر لاحتمالات التصعيد في الحرب الأوكرانية، لفهم ديناميات التصعيد وأسبابه وتقديم رؤية لفهم التوجهات الاستراتيجية لكلا الطرفين.
 
أبعاد الحرب في أوكرانيا
 
دخلت الحرب في أوكرانيا شهرها السادس مع غياب تام للمخرج الدبلوماسي وعجز تام لمنظمة الأمم المتحدة عن اتخاذ أية خطوات لحل الأزمة بحالة شبيه لما كان يحدث في أوج “القطبية الصلبة” في مرحلة الحرب الباردة، الأمر الذي يثير قلقاً كبيراً باحتماليات تصعيد الحرب وتحولها إلى مواجهة مباشرة بين روسيا ودول حلف الناتو، الأمر الذي ينذر بمخاطر لا يمكن توقعها من بينها تجاوز المحرمات النووية والانزلاق نحو حرب نووية شاملة.
 
ومع أن مثل هذا السيناريو يصعب تصديقه وقبوله من قبل المحللين الاستراتيجين والمراقبين، الا أن طبيعة الحرب في أوكرانيا تسمح بتصور امكانية حصول مثل هذا التصعيد، اذ تتعدى طبيعة هذه الحرب مجالها الاقليمي لتكشف عن الصراع من أجل التحكم والسيطرة في النظام العالمي، فهي بمثابة الاشهارعن التغيير في النظام العالمي واتجاهه للقطبية المتعددة، حيث “تجاهد” الولايات المتحدة للحفاظ على موقعها العالمي والسيطرة على البر الأوروبي وتقويض التمدد الروسي وتكسير قوته أو – على الأقل – تعطيلها على تحدي الولايات المتحدة في السيطرة والتحكم بالسياسة العالمية، في حين تسعى روسيا لاستعادة التوازن في المجال الأوروبي والعالمي، واثبات قدراتها كقوة عظمى قادرة على فرض سياستها وهيبتها.
 
إنه صراع عالمي لاعادة توزيع القوة في النظام العالمي تتجاوز ابعادها المعارك التي تجري في أوكرانيا، وليس أدل على ذلك من الجمود وغياب الرؤية لأية تسوية سياسية للحرب، وبدء الاصطفاف والتكتل العالمي على محورين، فضلاً عن خطاب “الشيطنة” الذي يتبعه الطرفان في صراعهما.
 
ازاء ذلك، هل ستخرج الحرب في أوكرانيا عن حدودها وتكشف عن أقنعتها بالمواجهة المباشرة بين روسيا، من جهة، والغرب والولايات المتحدة (الناتو)، من جهة اخرى؟ وكيف يمكن أن يتطور الموقف إلى مثل هذه المواجهة؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة لذلك؟ واخيراً، هل تقود تلك الحرب إلى مواجهة نووية؟ وما هي امكانية استخدامها؟
 
أسباب التصعيد المحتمل للحرب
 
يؤكد ميرشايمر على أن صانعي السياسة الغربيين قد توصلوا إلى إجماع حول الحرب في أوكرانيا مفاده ديمومتها واستمرارها لمدة أطول، وإيصالها إلى طريق مسدود بحيث تقبل روسيا” المنهكة” – في نهاية المطاف – بـ “اتفاقية سلام” بشروط الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو. ولكن، من يضمن أن هذه السياسية لن تؤدِ إلى تصعيد أحد الأطراف للحصول على ميزة أو لمنع الهزيمة؟
 
الحق، ليس هناك ضمان مؤكد يمنع التصعيد في الحرب، أي تصعيد من شأنه أن يُدخل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في صدام مباشر مع روسيا؛ فحدّة التصلب في موقف الولايات المتحدة وحلفائها في مسألة كسر روسيا وهزمها مقابل رغبة موسكو المؤكدة في عدم التراجع والسير إلى نهاية الطريق في الحرب، تشكل دافعاً قوياً للأطراف للقبول بمخاطرة التصعيد طالما أمكن ذلك – كما يؤكد العديد من الخبراء الاستراتيجين – مع تجنب التصعيد المؤدي إلى النهاية الكارثية وذلك لوجود الردع النووي المتبادل الذي يمنع الطرفان من اللجوء إلى استخدام السلاح النووي في أي صراع بينهما.
 
هذا الادراك هو الذي يدفع الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو لمواصلة الدعم العسكري وتقديم المعلومات الاستخباراتية لأوكرانيا بقصد ديمومة الحرب لاضعاف روسيا واستنزافها، وهو أيضاً ما يتيح للغرب إمكانية تصعيد الصراع بتدخله المباشر بالحرب في حال أصبحت روسيا في موقف يتيح لها حسم المعركة وتحقيق النصر في أوكرانيا.
 
إن منطق إمكانية تجنب التصعيد الكارثي في إدارة الحرب، يجده ميرشايمرغير مؤكدٍ على الاطلاق وهو ” شكل مخاطرة أكبر بكثير مما تعتقده الحكمة التقليدية (العقلانية)، فعواقب التصعيد يمكن أن تشمل حرباً كبرى في أوروبا وربما حتى إبادة نووية، لذا فإن هناك سبب وجيه لمزيد من القلق.”
 
ولفهم ديناميات التصعيد المحتمل، يحلل ميرشايمر أهداف أطراف الصراع، حيث يرى أنه ومنذ بدء الحرب “رفعت كل من موسكو وواشنطن طموحاتهما بشكل كبير، وكلاهما الآن ملتزمان بشدة للفوز في الحرب وتحقيق أهداف سياسية كبير؛ ونتيجة لذلك، أصبح لدى كل طرف حوافز قوية لإيجاد طرق لتحقيق الانتصار، والأهم من ذلك تجنب الخسارة.”
 
ومن الناحية العملية، يبدو ان أهداف الطرفان توفر الأرضية التي يستند اليها التصعيد المفترض، حيث يجد ميرشايمر أن الولايات المتحدة “قد تنضم إلى القتال إذا كانت يائسة من تحقيق الفوز في الحرب أو لمنع أوكرانيا من الخسارة، في حين أن روسيا قد تستخدم الأسلحة النووية إذا كانت يائسة للفوز أو تواجه هزيمة وشيكة، وهو ما سيكون مرجحاً إذا قررت الولايات المتحدة أن تشرك قواتها بشكل مباشرفي القتال.”
 
علاوة عن ذلك، فإن التقاطع والتصميم في تحقيق كل طرف لأهدافه يجعل من فرص الوصول إلى تسوية سلمية ضئيلاً؛ فالتفكير المتطرف السائد لدى الطرفين الآن هو التصميم على تحقيق النصر في ساحة المعركة، ذلك كي ليتمكن الطرف المنتصر من إملاء شروطه في أية تسوية لاحقة. إن مثل هذا الموقف، أي عدم وجود حل دبلوماسي محتمل، كما يرى ميرشايمر “يوفر حافزاً إضافياً لكلا الطرفين لتسلق سلم التصعيد الذي يمكن ان يبلغ في أعلى درجاته شيئاً كارثياً حقاً.”
 
التطور في أهداف الحرب
 
لم تكن دوافع الحرب الروسية ضد أوكرانيا كما هي الآن؛ وبالمثل، لم تكن أهداف الولايات المتحدة كما هي عليه الآن.
 
ففي بداية الحرب، يقول ميرشايمر: “كان هدف الولايات المتحدة وحلفائها في دعم أوكرانيا هو منع تحقيق نصر روسي وللمساعدة في التفاوض على إنهاء القتال في موقف ايجابي، لكن بمجرد أن بدأ الجيش الأوكراني في التصدي ومقاومة القوات الروسية خاصة في كييف، غيّرت إدارة (الرئيس الأمريكي جو) بايدن مسارها والتزمت بتقديم الدعم لأوكرانيا حتى تحقيق النصر في الحرب، كما سعت إلى إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الروسي من خلال فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة”، وهذا ما عبر عنه وزير الدفاع، لويد أوستن، بقوله: “نريد أن نرى روسيا تضعف إلى درجة أنها لا تستطيع القيام بالأشياء التي فعلتها في غزو أوكرانيا”. بهذا الصدد، يرى ميرشايمر أن الولايات المتحدة عازمة على “إخراج روسيا من صفوف القوى العظمى”.
 
 
فضلاً عن ذلك، فقد “شوّهت” الولايات المتحدة صورة روسيا ورئيسها، فلاديمير بوتين، إلى الحد الذي لا يمكن فيه أن تتراجع عن أهدافها في منع موسكو من تحقيق أهدافها في أوكرانيا، وعلى حد قول ميرشايمر لقد: “ربطت الولايات المتحدة سمعتها بنتيجة الصراع… فإذا انتصرت روسيا في أوكرانيا فإن مكانة الولايات المتحدة في العالم ستتعرض لضربة قوية.”
 
أما روسيا، فقد اتسعت طموحاتها مع تطور الحرب مع تصاعد الدعم الغربي لأوكرانيا، إذ أنها كانت – في بادئ الأمر – مهتمة بشكل أساسي بمنع كييف من أن تصبح “حصناً غربياً” على الحدود الروسية بانضمامها إلى حلف الناتو، وهذا ما أعرب عنه الرئيس بوتين قبل الحرب بقوله أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو يمثل “تهديداً مباشراً للأمن الروسي” ولا يمكن وقف هذا التهديد إلا عن طريق خوض الحرب أو تحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة أو فاشلة.
 
إن القلق الروسي – من توسع الناتو شرقاً – بدء مع انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور روسيا الاتحادية كوريث له، حيث اعتبر أول رئيس لروسيا، بوريس يالتسن، أن توسّع الناتو إلى الشرق هو “خطأ فادح”، وذلك في تصريح له ضمن قمة هلنسكي مع الرئيس الامريكي الأسبق، بيل كلينتون، بعد أن طرح عليه الأخير فكرة “الشراكة من أجل السلام”، فيما كان الخلاف حول ما إذا كانت هذه الشراكة بديلاً للعضوية في الناتو أم أنها مقدمة للدخول في العضوية.
 
ولقد استمرت روسيا بتأكيدها على أن أي توسع للناتو شرقاً هو بمثابة تهديد لأمنها ومحاولة لتطويقها، بينما أكد المفهوم الاستراتيجي للناتو في العام 2010 – والذي يحكم سياسة الحلف – على أن الحلف لا يشكل تهديداً لروسيا، ودعا إلى شراكة إستراتيجية حقيقية بين الجانبين، كما أكد السياسيون الغربيون غير مرة على أن الدول حرة في اختيار تحالفاتها، وأن الحلف لن يتوسع طالما التزمت روسيا بحدودها.
 
وفي العام 1997، وقّع الناتو وروسيا على “الوثيقة التأسيسية” بخصوص العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن، وتم تأسيس مجلس الناتو وروسيا، العام 2002، وكلاهما يهدفان إلى تعزيز التعاون. كما حصلت موسكو على دخول ووجود دائم في مقر الناتو في بروكسل، لكن هذا التبادل توقف إلى حد كبير منذ هجوم روسيا على أوكرانيا، العام 2014 واقتطاع شبه جزيرة القرم. وفي غضون ذلك، كانت روسيا قلقة من وصول حلف الناتو إلى حدوده عبر انضمام أوكرانيا للحلف.
 
لذا وكما يؤكد ميرشايمر: “لم تغزو موسكو أوكرانيا لغزوها وجعلها جزءاً من روسيا الكبرى”، على عكس من الاعتقاد السائدة في الغرب “إذ كان هدفها الأساسي هو منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو”؛ ولتحقيق هذه الغاية، يرى ميرشايمر أن أهداف روسيا الإقليمية قد توسعت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب، حيث كانت موسكو – عشية الغزو – ملتزمة بتنفيذ اتفاقية مينسك الثانية لعام 2015، والتي كانت ستبقي إقليم الدونباس جزءاً من أوكرانيا. ومع ذلك وعلى مدار الحرب، استولت روسيا على مساحات شاسعة من الأراضي في شرق وجنوب أوكرانيا، وهناك أدلة متزايدة على أن الرئيس بوتين يعتزم – الآن – ضم كل أو معظم تلك الأراضي.
 
سيناريوهات التصعيد
 
الآن، بات الصراع أكثر تعقيداً وتصلباً، ولا يبدو أن أي طرف يريد اللجوء إلى تسوية الا بعد حسم نتائج الحرب لصالحه حيث تضاعفت التهديدات واتسعت؛ فروسيا اليوم، كما يقول ميرشايمر، باتت “تواجه تهديداً أكبر مما كان عليه الوضع قبل الحرب”، ويرجع ذلك إلى “أن إدارة بايدن مصممة الآن على القضاء على المكاسب الإقليمية التي تحققت لروسيا وإعاقة القوة الروسية بشكل دائم.. ومما زاد الطين بلة توجهات حلف الناتو لضم فنلندا والسويد.. كما أن أوكرانيا أصبحت أفضل تسليحاً واصبح تحالفها أوثق مع الغرب، ولا تستطيع موسكو تحمل الخسارة في أوكرانيا، ولذا فإنها ستستخدم كل الوسائل المتاحة لتجنب الهزيمة”، كما أن الرئيس بوتين “يبدو واثقاً من أن روسيا ستنتصر في نهاية المطاف على أوكرانيا وداعميها الغربيين”، حيث صرّح، أوائل شهر يوليو/تموز 2022، قائلاً: “نسمع اليوم أنهم يريدون هزيمتنا في ساحة المعركة.. ماذا تستطيع أن تقول؟ دعهم يحاولون فسيتم تحقيق أهداف العملية العسكرية لا شك في ذلك.” أما الأوكران “فهم عازمون على استعادة الأراضي التي فقدوها لروسيا بما في ذلك شبه جزيرة القرم..”.
 
يؤكد ميرشايمر على أن التزام وتصميم كل من كييف وواشنطن من جهة، وموسكو من جهة أخرى، على تحقيق النصر على خصمه – ولا بديل لذلك – يجعل المجال أمام التسوية ضئيلاً “فلا أوكرانيا ولا الولايات المتحدة من المحتمل أن تقبل أوكرانيا المحايدة.. كما أنه من غير المحتمل أن تعيد روسيا جميع الأراضي التي أخذتها من أوكرانيا أو حتى معظمها..”.
 
ازاء ذلك، هل سنشهد تصعيداً في المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة؟ وكيف يمكن أن يحدث ذلك؟
 
برغم أن العديد من المحللين الاستراتيجين يرفضون تصوّر حدوث المواجهة بين الطرفين، إلا أن ميرشايمر يرفض ذلك، ويضع لنا 3 مسارات محتملة لتحول الحرب نحو التصعيد المباشر بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها في أوكرانيا، وهي:
 
الأول، قيام أحد الطرفين أو كلاهما بالتصعيد عمداً لتحقيق النصر؛
الثاني، التصعيد من قبل أحد الطرفين أو كلاهما عمداً لمنع الهزيمة؛
الثالث، التصعيد غير المتعمد.
 
يرى ميرشايمر أنه ما إن “خلصت إدارة (الرئيس) بايدن إلى إمكانية هزيمة روسيا في أوكرانيا، أرسلت المزيد من الأسلحة (وأكثر قوة) إلى كييف، كما بدأ الغرب في زيادة القدرة الهجومية لأوكرانيا عن طريق إرسال أسلحة مثل نظام إطلاق الصواريخ المتعددة HIMARS، بالإضافة إلى الصواريخ الدفاعية مثل صاروخ جافلين المضاد للدبابات؛ وبمرور الوقت، ازدادت كمية الأسلحة الفتاكة وكميتها” إلى جانب أن واشنطن لم تثرِ أي اعتراض عندما أعلنت سلوفاكيا، يوليو/تموز 2022، أنها تفكر في إرسال طائرات المقاتلة من طراز MiG-29، على الرغم من أن واشنطن سبق ورفضت خطة لنقل الطائرات من نفس الطراز من بولندا إلى أوكرانيا، في بداية الحرب وتحديداً في شهر مارس/آذار، على أساس أن القيام بذلك قد يؤدي إلى تصعيد القتال. إلى جانب ذلك، تدرس الولايات المتحدة – أيضاً – خياراً يقضي بمنح طائرات F-15 وF-16 لأوكرانيا، كما تقوم – مع حلفائها – بتدريب الجيش الأوكراني وتزويده بمعلومات حيوية يستخدمها لتدمير أهداف روسية رئيسية.
 
 
علاوة على ذلك، فإن الغرب لديه “شبكة خفية من الكوماندوز والجواسيس” على الأرض داخل أوكرانيا؛ وهكذا ورغم أن واشنطن غير منخرطة بشكل مباشر في القتال، لكنها – كما يقول ميرشايمر – تعتبر “متورطة بعمق في الحرب، وهي الآن على بعد خطوة قصيرة من وجود جنودها يقودون المزنجرات ويضغط طياروها على الأزرار”.
 
أيضاً، يمكن لمجموعة من الظروف أن تعزز هذه الخطوة، وهنا يفترض ميرشايمر: “لو استمرت الحرب لمدة عام أو أكثر، ولا يوجد حل دبلوماسي في الأفق ولا مسار ممكن لتحقيق نصر أوكراني، وفي نفس الوقت نفسه ترغب واشنطن بشدة في إنهاء الحرب – ربما لأنها بحاجة إلى التركيز على احتواء الصين أو لأن التكاليف الاقتصادية لدعم أوكرانيا تسبب مشاكل سياسية داخلية ومشاكل في أوروبا – في ظل مثل هذه الظروف سيكون لدى صانعي السياسة الأمريكيين كل الأسباب للنظر في إتخاذ خطوات أكثر خطورة مثل فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا أو إدخال وحدات صغيرة من القوات البرية الأمريكية لمساعدة أوكرانيا على هزيمة روسيا.”
 
هناك سيناريو آخر، يراه ميرشايمر أكثر “احتمالاً” للتدخل الأمريكي، يتمثل في “حالة إذا ما بدأ الجيش الأوكراني في الانهيار وتكون روسيا أمام تحقيق انتصار كبير، في هذه الحالة ونظراً لالتزام إدارة بايدن العميق بمنع هذه النتيجة، يمكن للولايات المتحدة أن تحاول قلب المعادلة في الميدان من خلال الانخراط مباشرة في القتال”. لكن إتخاذ واشنطن لمثل هذا القرار سيكون مدعوماً بـ “إعتقاد المسؤولين الأمريكيين بأنّ مصداقية بلادهم ستكون على المحك، ويقنعون أنفسهم بأن الاستخدام المحدود للقوة من شأنه أن ينقذ أوكرانيا ومن دون أن يحث بوتين على استخدام الأسلحة النووية.”
 
أيضاً، يمكن أن تقوم “أوكرانيا (وفي وضع يائس) بشن هجمات واسعة النطاق ضد البلدات والمدن الروسية، على أمل أن يؤدي هذا التصعيد إلى رد روسي هائل من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة على الانضمام إلى القتال.”
 
من هنا، يضع ميرشايمر تصوره لسيناريو التصعيد غير المقصود الذي قد يجبر الولايات المتحدة على التدخل والاشتراك المباشر في الحرب، فقد تقع احداث غير متوقعة تؤدي – من دون رغبة من الولايات المتحدة – إلى تصعيد في المواقف بين الطرفين ينتهي بالمواجهة المباشر بينهما.
 
يرسم ميرشايمر صوراً لمثل هذه المواقف غير المتوقعة فمثلاً “قد تحصل مواجهة بالخطأ بين الطائرات المقاتلة الأمريكية والروسية فوق بحر البلطيق… إذ يمكن أن تؤدي مثل هذه الحوادث إلى التصعيد بسهولة، نظراً لارتفاع مستويات التوتر والخوف لدى الطرفين ونقص التواصل والشيطنة المتبادلة، أو ربما تمنع ليتوانيا مرور البضائع الخاضعة للعقوبات التي تنتقل عبر أراضيها وهي تشق طريقها من روسيا إلى كالينينغراد” فتقوم روسيا بالرد العسكري، الأمر الذي يستلزم من الناتو – باعتبارها دولة عضو – والولايات المتحدة بالرد على روسيا”، أو لربما تقوم “روسيا في محاولة يائسة لوقف الدعم الغربي لأوكرانيا، بمهاجمة دول حلف الناتو.. أو أن تقوم روسيا بتدمير مبنى في كييف أو موقع تدريب في مكان ما في أوكرانيا وتقتل عن غير قصد عدداً كبيراً من الأمريكيين، مثل عمال الإغاثة أو عملاء المخابرات أو المستشارين العسكريين” مما قد يجبر ادارة الرئيس بايدن – تحت الضغط الداخلي – بالانتقام عبر توجيه ضربات لاهداف روسية، الأمر الذي يستتبعه رداً روسياً مقابلاً مما يؤدي إلى تبادل الهجمات والدخول في الحرب المباشرة بالنتيجة.
 
وليس من المستبعد – أيضاً – عند ميرشايمر أن يؤدي القتال، في جنوب أوكرانيا، إلى تدمير محطة الطاقة النووية – زاباروجيا، التي تسيطر عليها روسيا مما يتسبب بتلوث اشعاعي كبير يمتد ليشمل أراض واسعة من روسيا وأوروبا، مما يدفع الأولى للرد بضرب مفاعل نووية أوروبية؛ وفي مثل هذا الموقف، سيكون من شبه المؤكد أن تدخل الولايات المتحدة الحرب بصورة مباشرة. كما “لا يمكن استبعاد احتمال قيام روسيا (وهي في موقف يائس) لوقف تدفق المساعدات العسكرية الغربية إلى أوكرانيا بمهاجمة الدول التي يمر عبر أراضيها الجزء الأكبر من هذه الاسلحة وهي بولندا أو رومانيا، وكلاهما عضو في الناتو. وهناك أيضاً احتمال أن تشن روسيا هجوماً إلكترونياً هائلاً ضد دولة أوروبية واحدة أو أكثر (من الدول الداعمة لأوكرانيا) مما يتسبب في ضرر كبير لبنيتها التحتية الحيوية، قد يدفع مثل هذا الهجوم الولايات المتحدة لشن هجوم إلكتروني انتقامي ضد روسيا، فإذا نجحت فان روسيا قد تتخذ قرارها بالرد العسكري، أما إذا فشلت فقد تقرر واشنطن أن الطريقة الوحيدة لمعاقبة روسيا هي ضربها مباشرة.”
 
أخيراً، يعلق ميرشايمر على هذه السيناريوهات معتبراً أن مثل هذه الافتراضات قد تبدو بعيدة المنال لكنها ليست مستحيلة، ويعدها مجرد أمثلة قليل عن مسارات عديدة يمكن أن تتحول من خلالها الحرب الجارية الآن إلى شيء أكبر وأكثر خطورة.
 
التصعيد إلى مستوى الكارثة النووية
 
تخضع الاسلحة النووية لاعتبارات وتقديرات استراتيجية حاسمة لا يمكن تعديها ترتبط بالنتائج الكارثية المترتبة على قرار استخدامها الذي سينتهي بالتدمير المتبادل لكلا الطرفين؛ لذلك، فإنه وطيلة مدة الحرب الباردة بقت هذه الأسلحة من دون استخدام فعلي، على الرغم من شدة الصراع والتوتر في المواقف بين العملاقين السوفياتي والأمريكي، واقتصرت وظيفة هذه الأسلحة على الردع ومنع الحرب والمواجهة المباشرة بين القوى النووية.
 
ومع ذلك، لا أحد يستطيع الجزم بعدم التصعيد إلى مستوى استخدام الأسلحة النووية إذا ما حصلت المواجهة المباشرة بين الطرفين، إذ تؤكد سياسات الردع النووي والعقائد الاستراتيجية للقوى النووية بإمكانية استخدام السلاح النووي في حالتين؛ الحالة الأولى، إذا ما تعرضت الدولة النووية إلى هجوم نووي. الواحالة الثانية، إذا تعرضت وجود الدولة إلى تهديد حقيقي. يبدو السبب الأخير فيه مساحة واسعة للتفسير، إذ قد تعتبر الدولة أن انكسارها – في حرب أقليمية أو تعرّض أراضيها أو جيشها للهجوم بالاسلحة التقليدية – هو بمثابة تهديد وجودي يدفعها لادخال ترسانتها النووية في الرد المضاد؛ لذا، فإن القوى النووية عادة ما تبتعد عن ادخال قواتها في حرب مباشرة مع القوى النووية تجنباً للوصول إلى مرحلة التصعيد النووي الذي سينتهي بالتدمير المتبادل.
 
من هنا، يرى ميرشايمر إمكانية وصول التصعيد إلى نهايته باستخدام الأسلحة النووية، ويصور لنا 3 ظروف قد يستخدم فيها الرئيس بوتين ترسانته النووية، وهي:
1. إذا دخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو المعركة. إن مثل هذا التطور سيؤدي تغيير التوازن العسكري بشكل ملحوظ ضد روسيا، مما يزيد بشكل كبير من إحتمالية هزيمتها، كما أنه سيعني – أيضاً – أن موسكو ستخوض حرباً ضد القوى العظمى بالقرب منها ويمكن لها أن تمتد بسهولة إلى أراضيها. في مثل هذا الموقف، سيعتقد القادة الروس – بالتأكيد – أن بقاءهم في خطر، ما يمنحهم حافزاً قوياً لاستخدام الأسلحة النووية لإنقاذ الموقف، على الأقل قد يفكرون في شن ضربات استعراضية تهدف إلى إقناع الغرب بالتراجع، ولكن من الصعب معرفة في ما اذا كانت هذه الخطوة ستنهي الحرب أو ستقودها إلى الخروج عن نطاق السيطرة.
في هذا الشأن، ألمح الرئيس بوتين، في خطابه يوم 24 فبراير/شباط 2022، إلى امكانية لجوء روسيا لمثل هذا الخيار في حال دخلت الولايات المتحدة وحلفائها الحرب، وتوّقع مدير المخابرات الأمريكية، مايو/أيار 2022، أن الرئيس الروسي قد يستخدم الأسلحة النووية إذا “تدخل الناتو أو كان على وشك التدخل” في الحرب، وذلك لأن دخول الحلف في الحرب سيساهم بتكوين الادراك لدى لديه بأنه على وشك خسارة الحرب في أوكرانيا.
 
2. إذا تمكنت أوكرانيا – بنفسها – من قلب الموقف في ساحة المعركة لصالحها ومن دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة. فإذا اصبحت القوات الأوكرانية في موقف ميداني أفضل بحيث تكون مستعدة لالحاق هزيمة فادحة بالجيش الروسي واستعادة الأراضي التي فقدتها من يد الروس، هنا لا شك أن موسكو يمكن أن تنظر بسهولة إلى هذه النتيجة على أنها تهديد وجودي يتطلب رداً نووياً. وعلى عكس السيناريو الأول، سيكون استخدام السلاح النووي موجه ضد أوكرانيا – وليس ضد الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو – ومن ثم فإن هذا التصعيد لا يواجه بخوف كبير من الانتقام النووي، لأن كييف ليس لديها أسلحة نووية ولأن واشنطن لن تكون لديها مصلحة في بدء حرب نووية؛ وهكذا، فإن عدم وجود تهديد انتقامي واضح سيجعل من السهل على الرئيس بوتين التفكير في استخدام السلاح النووي.
 
3. يتمثل بوصول الحرب إلى طريق مسدود طويل الأمد ليس له حل دبلوماسي بحيث تصبح معه الحرب مكلفة للغاية بالنسبة لموسكو. في مثل هذه الحالة وفي محاولة يائسة لإنهاء الصراع بشروطه، قد يسعى الرئيس بوتين إلى التصعيد النووي لتحقيق النصر.
 
إن الهدف الرئيس من التصعيد الروسي باستخدام الاسلحة النووية، كما يصوره ميرشايمر في السيناريوهات الثلاث، هو تجنّب روسيا الهزيمة في الحرب، وهو يعتقد بأن الانتقام النووي الأمريكي سيكون بعيد الاحتمال بالنسبة للسيناريو الثاني والثالث، ويرجح أن تستخدم روسيا فيهما أسلحة نووية تكتيكية ضد مجموعة صغيرة من الأهداف العسكرية على الأقل في البداية، وقد يستهدف الهجوم الروسي النووي التكتيكي اكتساب ميزة عسكرية، ولكن الهدف الاستراتيجي الأهم من الضربة النووية التكتيكية هو تغيير قواعد اللعبة، حيث سيؤدي استخدام السلاح النووي إلى زرع الخوف في الغرب ومن ثم دفع الولايات المتحدة وحلفاؤها للتحرك بسرعة لإنهاء الصراع بشروط مواتية لموسكو.
 
لكن كسر المحرمات النووية لن يكون بهذه السهولة التي تصورها هذه الافترضات، إذ لا يمكن للولايات المتحدة السكوت والرضوخ أمام الاستخدام النووي الروسي التكتيكي في أوكرانيا، لأن مثل هذا الأمر سيعزز من موقف ومصداقية روسيا كقوة عظمى ويفسح لها المجال للتوسع وكسب المزيد من المناطق في أوروبا دون خشية الانتقام. ولذا، فإن من المتوقع أن تواجه روسيا بفعل عسكري قوي من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، ومع عدم استبعاد أن يكون الانتقام بالمثل. يبدو أن توجيه ضربة عسكرية بالاسلحة التقليدية خياراً راجحاً واقل خطوراً وتصعيداً، فضلاً عن ذلك فإن استخدام السلاح النووي سيؤدي إلى خسارة روسيا لمواقف دول كالصين والهند، اللتان رفضتا الدخول في العقوبات الاقتصادية ضد روسيا.
 
يختم ميرشايمر عرضه لسيناريوهات التصعيد في حرب أوكرانيا بقوله: “إن هذه السيناريوهات الكارثية قد يجدها البعض محض افتراضات نظرية وفرص حدوثها تصبح ضئيلة لأن لدى القادة في طرفي الصراع حوافز قوية لإبعاد الأمريكيين عن القتال وتجنب حتى الاستخدام النووي المحدود ناهيك عن حرب نووية شاملة فعلية”، لكنه يقلل من هذا التفاؤل ويقول: “مخطئ من يعتقد إنه يعرف بثقة المسار الذي ستسلكه الحرب في أوكرانيا، اذ يصعب التنبؤ بديناميات التصعيد في زمن الحرب أو السيطرة عليها، وهو ما ينبغي أن يكون بمثابة تحذير لأولئك الذين يثقون في إمكانية إدارة الأحداث في أوكرانيا.. فإن القومية – كما أكد كلاوزفيتز – تشجع الحروب الحديثة على التصعيد إلى أقصى أشكالها، خاصة عندما تكون المخاطر كبيرة لكلا الطرفين، ولا يعني هذا أن الحروب لا يمكن أن تظل محدودة، لكن القيام بذلك ليس بالأمر السهل، ونظراً للتكاليف الباهظة لحرب نووية بين القوى العظمى، فإن احتمالية حدوثها حتى ولو كانت ضئيلة، يجب أن تجعل الجميع يفكرون طويلاً وبجد في المسار الذي قد يتجه إليه هذا الصراع، يخلق هذا الوضع المحفوف بالمخاطر حافزاً قوياً لإيجاد حل دبلوماسي للحرب، لكن للأسف لا توجد تسوية سياسية في الأفق، حيث يلتزم الطرفان بشدة بأهداف الحرب التي تجعل التسوية شبه مستحيلة. كان ينبغي على إدارة (الرئيس) بايدن أن تعمل مع روسيا لتسوية الأزمة الأوكرانية قبل اندلاع الحرب في فبراير (شباط)، لقد فات الأوان الآن لعقد صفقة، روسيا وأوكرانيا والغرب عالقون في وضع رهيب لا يوجد له مخرج واضح.”
 
إستراتيجية الخروج من المأزق
 
يمكننا الجزم بأن استراتيجية الحرب الروسية في أوكرانيا تتعدى حدود إدارة المعارك مع القوات الأوكرانية إلى رؤية أوسع تتمحور حول الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، إذ تربط روسيا بين الموقف الميداني في المعارك الجارية الآن وبين اهدافها الاستراتيجية في الصراع مع الغرب، إذ لم تعد الحال كما كان في بداية الحرب حين تصور الروس أن بامكانهم كسب المعركة سريعاً بالقضاء على نظام الحكم في كييف واستبداله بنظام موالي لروسيا، أو على الأقل نظاماً يحافظ على حيادية أوكرانيا ويمنع من دخولها في حلف الناتو.
 
فبعد أن اظهرت القوات الأوكرانية قدرتها على المقاومة والتصدي لمغامرة الجيش الروسي – التي لم تكن محسوبة بدقة من قبل العسكريين الروس الذين حاولوا مباغتة الرئيس فولوديمير زلينسكي باحتلال كييف – سارعت الولايات المتحدة بحشد حلفائها في الناتو لتقديم الدعم العسكري والاقتصادي الكبير لأوكرانيا ومحاصرة روسيا سياسياً وفرض العقوبات الاقتصادية الكبيرة عليها؛ كل ذلك، تطلب تغييراً بالاستراتيجية الروسية في ادارة المعارك من منظور الصراع الأوسع.
 
فمن سير المعارك الجارية الأن، يظهر أن موسكو متأنية في تصعيد عملياتها العسكرية لكسب الحرب بشكل نهائي رغم قدرتها على فعل ذلك بسرعة، فهي لم تقم بحملة تجنيد واسعة تحشد فيها قوتها الكاملة للاندفاع نحو احتلال كامل أراضي أوكرانيا، ولم تحاول إلحاق الضرر الكبير فيها عن طريق قصف شبكة الكهرباء والخدمات العامة الأخرى، كما أنها – ورغم إعلانها أن هدفها السيطرة على كامل إقليم الدونباس – لا تزال تُسيّر المعارك ببطئ شديد في استكمال السيطرة على دونيتسك، وعلى نفس المنوال تتحرك خارج الدونباس في السيطرة على بعض المناطق المهمة، مثل خاركييف المحاذية للحدود الروسية، إلى جانب سيطرتها على محطة زاباروجيا النووية.
 
وبذلك، يبدو أن الاستراتيجية الروسية تميل إلى عدم التصعيد في أوكرانيا مع الحفاظ على مستوى للتحكم في العمليات العسكرية والاحتفاظ بالمكاسب المتحققة والسيطرة على ادارة وتوجيه المعارك ضمن اغراضها الاستراتيجية الكبرى (الصراع مع الغرب)، مع شن هجمات متواصلة على الأسلحة الأمريكية والأوروبية الموردة إلى أوكرانيا، وضرب مواقع تحشيد القطعات العسكرية وبضمنها مراكز تجمع القوات غير النظامية الأجنبية ومراكز التدريب. تكمن أهداف هذه الاستراتيجية برغبة روسيا في تفادي المواجهة المباشرة مع حلف الناتو، التي قد تترتب على تدخله المباشر في الحرب إذا أوشك الروس على تحقيق نصر حاسم.
 
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الخيار يصب في صالح الهدف الأمريكي في اطالة أمد الحرب لاستنزاف روسيا، غير أن الواقع يشير إلى العكس من ذلك تماماً؛ فالروبل الروسي حقق ارتفاعا ملحوظاً، واحتياطي البنك المركزي الروسي من الذهب والعملات الاجنبية ارتفع بنسبة 5.8%، بينما الولايات المتحدة وبقية دول حلف الناتو باتت تواجه ازمات التضخم والركود بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وتتعرض مواردها للاستنزاف بسبب الحجم الكبير من المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي دفعتها إلى أوكرانيا على مدار الأشهر الماضية، والتي قدرت بأكثر من 100 مليار دولار، من دون أن تسهم بهزيمة روسيا أو تحرير جزء من الأراضي التي وقعت في قبضتها، اذ دمر الروس قرابة 50 ألف طن من الأسلحة الغربية المقدمة إلى أوكرانيا، بينما بيعت كميات كبيرة أخرى من هذه الأسلحة في السوق السوداء، واشترت روسيا جزءاً منها، هذا من جهة.
 
ومن جهة أخرى، تدرك روسيا بأن التصعيد قد يودي إلى تحقيق نصر عسكري حاس في أوكرانيا، إلا أنه قد لا يحقق أية نتائج سياسية في منع الناتو من التمدد شرقاً حيث يمكن أن تكون ردة فعل الغرب – على هذا الانتصار – هي الاسراع في ضم دول أخرى إلى الناتو – بدلاً من الدخول المباشر في القتال ضد روسيا – وفي مثل هذا الموقف يصبح التهديد أكبرعلى موسكو، التي ستجد صعوبة في خوض حرب ثانية ستواجه بها دولاً منضمة إلى الحلف.
 
أيضاً، تراهن استراتيجية روسيا على أن اطالة أمد الحرب – ضمن مستواها الحالي – سيؤدي إلى ارهاق الولايات المتحدة وزرع الشقاق بين دول حلف الناتو، كما سيؤدي تصاعد ضغط الداخل الأوروبي، لا سيما الرأي العام، واحراج حكومات الدول الغربية بسبب زيادة الاعباء الاقتصادية على المواطنين، ناهيك عن تفاقم المشكلات الاقتصادية. وتنتظر روسيا فصل الشتاء القادم الذي سيقرر بشكل حاسم مقدرة الغرب على التخلي عن الغاز والنفط الروسين، إذ تعول موسكو على إحداث الخلافات بين دول الناتو ومن ثم منع تحقيق الإجماع على ضم دول دول جديدة لحلف الناتو، وقد يدفع كل ذلك الاتجاه نحو التسوية بشروط روسية حيث يمكن أن تكتفي روسيا بالحدود الحالية مع اشترط تغيير نظام الحكم في كييف أو على الأقل ضمان تحييدها وعدم ضمها لحلف الناتو.
 
كما تراهن روسيا على أن اطالة أمد الحرب قد يؤدي إلى انقلاب محلي على نظام زيلينسكي، وتشكيل حكومة موالية لموسكو.
 
في بالمقابل، إن استراتيجية الولايات المتحدة – في استنزاف روسيا –في اطالة أمد الحرب اثبتت ضعفها وارتداد آثارها على الغرب؛ وبالمثل، فإن فكرة هزيمة روسيا عسكرياً – من قبل الجيش الأوكراني – أمر لا يمكن تحقيقه نظراً للتفوق الهائل الذي يتمتع به الجيش الروسي في كافة صنوفه من حيث المعدات والأسلحة والفكر والتخطيط الاستراتيجي والعملياتي لقادته؛ لذا، لم يحقق الجيش الأوكراني أي تقدم ميداني، رغم كل الدعم الذي يقدمه الناتو.
 
وعلى الرغم من محاولة الولايات المتحدة جر روسيا للتصعيد عبر دفع أوكرانيا إلى شن عمليات استفزاز ضدها عبر توجيه ضربات خلف الخطوط مثل الهجمات على المناطق الحدودية ومهاجمة شبة جزيرة القرم، فإنها تبقى عمليات غير مؤثرة على الجغرافية العسكرية التي فرضها الروس ولم تحدث أي تغيير في الموقف الميداني. فحتى لو قامت واشنطن بتجهيز كييف بأسلحة ومعدات متطورة، كالطائرات والمسيرات والصواريخ الهجومية ذات المديات المتوسطة، لمنح الجيش الأوكراني القدرة على مهاجمة الجيش الروسي أو شن ضربات على الأراضي الروسية، فان مثل هذا الخيار لن يؤدِ إلى هزيمة موسكو التي تمتلك القدرة على تدمير هذه المعدات واتخاذ خطوات تصعيدية قد تعجِّل بانهيار نظام الحكم في كييف.
 
يبقى أمام الولايات المتحدة – وحلفائها – خياراً تصعيدياً واحداً ويكمن بالدخول المباشر في الحرب، وهو خيار غير محبذ لدى الغرب لأنه سيجر الطرفين إلى المواجهة المباشر بين القوى النووية، وستكون عواقبه كارثية.
 
أخيراً، اصبحت الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو أمام خيارين أحلاهما مر؛ فإما أن يجنحوا للتسوية السلمية ويقبلوا بشروط روسيا “المذلة” – وهو ما يعني اعترافها بتغير قواعد القوة والسيطرة في النظام العالمي، أو أن تدخل الحرب مباشرة لايقاع الهزيمة بالجيش الروسي، وبذلك تكون قد فتحت عليها باباً يشي بمستويات كارثية.
 
 
 
 
مصدر الصور: الحرة – النشرة – الغارديان
 
المصدر: مركز سيتا للدراسات الاستراتيجية