كُتّاب الموقع
إنجاز غير مسبوق: الكون كما لم نره من قبل

سامي خليفة

الأربعاء 13 تموز 2022

في حدثٍ علمي أقّل ما يُقال عنه بأنه تاريخي، عرضت وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" خلال مؤتمر صحافي في البيت الأبيض يوم 11 تموز صورةً مبهرة غير مسبوقة للكون التقطها تلسكوب "جيمس ويب" الفضائي. وتُظهر هذه الصورة التي انتظرها العلماء بفارغ الصبر، لمحةً هي الأكثر تفصيلاً على الإطلاق للكون في طوره الأول، فيها آلاف المجرات، بما في ذلك الأجسام الخافتة التي التقطتها الأشعة تحت الحمراء، وبصورةٍ عالية الدقة وملونة بالكامل.
 
قرابة البداية
 
 
اللمحة الخاطفة التي عرضها البيت الأبيض تشمل جزءاً ضئيلاً من الكون، والتي ستتبعها مجموعة من الصور، وصفتها "ناسا" بأنها تضم "رقعة من السماء بحجم حبة الرمل التي يحملها شخص ما على الأرض وينظر إليها بطول ذراعه". كما تظهر الصورة سلسلة مجرات عمرها 4.6 مليار عام، يُطلق عليها اسم "سماكس 0723"، تعمل كتلتها المجمعة بمثابة عدسة جاذبية، تشوه الفضاء لتضخم بدرجة كبيرة الضوء الآتي من مجرات بعيدة خلفها.
 
وقد أقدم مدير وكالة الفضاء الأميركية، بيل نيلسون، على توضيح الصورة بالقول: "ننظر هنا إلى ما قبل 13 مليار سنة ضوئية، الضوء يسافر بسرعة 168 ألف ميل في الثانية (270 ألف كلم في الثانية)، وهذا الضوء الذي تراه في إحدى هذه المجرات، يعود لما قبل 13 مليار سنة ضوئية، وفي المناسبة بعضها يعود إلى حوالى 13 ونصف مليار سنة ضوئية، ولأننا نعلم أن الكون عمره 13.8 مليار عام، فنحن نعود إلى قرابة البداية".
 
قدراتٌ خارقة
 
 
 
يأتي هذا الحدث العلمي بعد سبعة شهور من إطلاق التلسكوب جيمس ويب في كانون الأول المنصرم ليتوج جهود آلاف المهندسين ومئات العلماء و300 جامعة ومؤسسة وشركة من 29 ولاية أميركية و14 دولة حول العالم. ويُعدّ "جيمس ويب" الذي يبعد عن الأرض 1.5 مليون كيلومتر، أضخم تلسكوب يطلقه البشر في الفضاء وأكثرها تعقيداً بتكلفة بلغت 10 مليارات دولار، وهو ثمرة التعاون المشترك بين وكالات الفضاء الأميركية والأوروبية والكندية. حيث ساهمت وكالتيّ الفضاء الأوروبية والكندية بما يقرب من مليار دولار في المجموع، لجعل التلسكوب حقيقة واقعة.
 
يقول علماء الفلك أن هذا التلسكوب دقيق إلى درجة نعرف بها إذا كان الكوكب الذي ننظر إليه قابلاً للحياة أم لا، وأننا سنكون قادرين على إجابة أسئلة لم نكن نعرف أنها موجودة أصلاً من قبل. وهم لا يخفون اندهاشهم مما رأوه لإمكانيات التلسكوب التحويلية. إذ تقول فيفيان يو، عالمة الفلك الشهيرة بجامعة "كاليفورنيا": "لقد اندهشت للتو. أشعر بأنني أتحرك من خلال الصورة، وأكتشف ما هي المجموعة المركبة من الصور الملتقطة بأطوال موجية متعددة للضوء ولماذا توجد هناك".
 
ويُعتبر هذا التلسكوب الذي بدأ العمل المفاهيمي عليه في عام 1996، الخلف المخطط له لتلسكوب "هابل" الفضائي، وهو أحد أكبر وأشهر التلسكوبات الفضائية الذي تم إطلاقه في عام 1990. ولكن على عكس "هابل"، يكتشف "جيمس ويب" الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء بشكلٍ أساسي. ومن خلال دراسة الأشعة تحت الحمراء، يمكن أن يخترق سحب الغبار التي تحجب النجوم الوليدة ويمكنه أن يتعمق في الكون أكثر من أي وقت مضى. هذا، واستغرق تجميع أول صورة لـ"جيمس ويب" 12.5 ساعة وحسب، مقارنةً بالأسابيع التي استغرقها "هابل" لمراقبة الحقول العميقة الأخرى.
 
وجدير بالذكر أننا لم نتمكن من رؤية هذه المجرات من قبل. ويرجع ذلك جزئياً إلى توسع الكون: فكلما كان الجسم بعيداً، زادت سرعة ابتعاده عنا، وكلما ظهر ضوءه أكثر احمراراً بسبب هذه الحركة. ولكونه يستخدم ضوء الأشعة تحت الحمراء، يتمكن "جيمس ويب" من رؤية الأشياء التي تظهر حمراء جداً والتي كانت غير مرئية لسلفه "هابل"، الذي يراقب الضوء بشكلٍ أساسي في الأطوال الموجية المرئية.
 
وإنطلاقاً من ذلك، يقول زولت ليفاي، عالم الفلك المتقاعد ومعالج الصور الذي عمل لعقود على صور "هابل"، إن هذا التلسكوب ليس الإصدار الثاني من "هابل"، موضحاً "إنه حقاً تلسكوب مختلف تماماً. إنه ضوء غير مرئي نحن بأمسّ الحاجة إليه".
 
فهم الكون
 
 
إلى ذلك، يعوّل العلماء على هذا التلسكوب لمعرفة المزيد عن كتل المجرات وأعمارها وتاريخها وتركيباتها، فإحدى مهماته تقتضي البحث عن أقدم المجرات في الكون. يتخصص "جيمس ويب" أيضاً في التحليل الطيفي، ودراسة كيفية تفاعل الضوء بأطوال موجية مختلفة مع المادة. ويمكن لأطياف الأشعة تحت الحمراء للأجسام الفلكية التي سينتجها أن تكشف عما تصنعه الكائنات كيميائياً، وهذا ما دفع إليزابيث كيسلر، مؤرخة الفلك في جامعة "ستانفورد" في كاليفورنيا، وهي التي درست التأثير الجمالي لصور "هابل"، للقول "هذا هو المكان الذي سنضيء فيه على بعض العلوم المثيرة حقاً".
 
وتأتي الصور العلمية الأولى لـلتلسكوب كنوعٍ من التنفيس لمشروع عانى من سنوات من التأخير وتجاوز التكاليف المرصودة بمليارات الدولارات. وتمثل الصور الأولية لهذا الجهاز الخارق والذي من المتوقع أن يعمل لمدة 20 عاماً على الأقل، جزءاً صغيراً مما هو آت، إذ تشمل الدراسات القادمة استكشاف كوكبيّ المشتري وزحل، والنجوم الصغيرة الباهتة المعروفة باسم الأقزام الحمراء، والمجرات البعيدة التي تصطدم ببعضها البعض، والكواكب الصخرية الساخنة حول النجوم الأخرى.
 
من جانبه، يعلق عالم الكونيات بجامعة "شيكاغو" مايكل غلاديرز، على هذه الصورة وما سيتبعها قائلاً "سوف يُحدث التلسكوب ثورة في فهمنا للكون عبر نطاق هائل من المقاييس، من خصائص الكواكب التي تدور حول نجوم أخرى قريبة، إلى النجوم الأولى التي تشكلت من الغاز البدائي في العصور المظلمة للكون، بعد فترة وجيزة من الانفجار الكبير".
 
حل اللغز
 
 
وإضافةً إلى ما تقدم، لا بد لنا أن نشير بأن القدرة على رؤية الكون بعمق وبالتالي العودة بالزمن بعيداً، ستساعد علماء الفلك على فهم أقدم النجوم. وهنا، يقول ستيفن ويلكينز، كبير علماء الفلك بجامعة "ساسكس" في المملكة المتحدة: "نعتقد أنه عندما تتشكل النجوم من مادة بدائية في الكون البعيد، فإنها تتشكل بطريقة مختلفة تماماً، لكننا لم نلحظ ذلك من قبل. هناك الكثير من الفيزياء الحاسمة التي لا نعرف أيُ شيءٍ عنها".
 
يمكن أن يساعد فهم تكوين هذه النجوم والمجرات المبكرة أيضاً في حل لغز كيفية تشكل بذور الثقوب السوداء الهائلة. فهذه الصورة الأولى وما سيتبعها في الأسابيع المقبلة، من المقرر أن تفتح آفاقاً فلكية جديدة وتغير فهمنا للكون. لذا، يضيف ويلكينز "جميع البيانات التي رأيناها أظهرت للتو أنها تعمل بالفعل، ولكن هذه البيانات أولية، وسرعان ما سنحصل على البيانات التي يمكننا بالتأكيد استخدامها في البحث العلمي".
 
وبما أن نشر الصور الملونة سيتيح للعالم مشاهدة آفاق الكون التي لم يشاهدها من قبل، والتعرف على القدرات المتطورة لأدوات وأجهزة أقوى تلسكوب صنعه البشر على الإطلاق.. يشددّ زولت ليفاي أن التلسكوب حقق حتى الآن نجاحاً باهراً، ويضيف "إنه يعمل بشكل أفضل مما توقعه أي شخص. هذا فعلاً لأمرٌ رائع".
 
 
المصدر :المدن