كُتّاب الموقع
جيو – بوليتيك المياه في الشرق الأوسط: مخاطر واقترحات حلول

العميد م. ناجي ملاعب

الإثنين 22 آب 2022

أدى الصراع حول توزيع مياه النيل بين مصر والسودان من ناحية، وإثيوبيا من ناحية أخرى، إلى زيادة تكثيف نقاش طال أمده في المجتمع الدولي حول مشكلة المياه. لقد ولّت منذ زمن بعيد تلك الأيام التي كان يُنظرُ فيها إلى المياه على أنها نوع من أنواع الموارد التي لا تنضب. لكنها، في الوقت نفسه، وزعت كما يبدو بطريقة غير عادلة، فبعض الدول لديها فائض كبير، ولدى البعض الآخر نقص حاد في وفرتها. وتشتد المنافسة، حتما، وتبرز النزاعات، عندما يدور الحديث عن الأنهار العابرة للحدود، وتتفاقم مشكلة توزيع مواردها في ظروف ازدياد أحجام استخدامها للاحتياجات الاقتصادية (الري الصناعي، وبناء السدود لإنشاء محطات الطاقة الكهرومائية، وما إلى ذلك).

وكما هو معلوم، هناك نقص في الموارد المائية بالشرق الأوسط، ما يولد التوتر وزعزعة الاستقرار بين دول هذه المنطقة. يقول فيتالي نعومكين، رئيس “معهد الاستشراق” التابع لأكاديمية العلوم الروسية: “كنت قد شاركت قبل 50 عاماً تقريباً، بصفتي مترجماً شاباً، ضمن محادثات في بغداد بين وفد سوفياتي رفيع المستوى والقيادة العراقية. في ذلك الوقت كان رئيس العراق أحمد حسن البكر ونائب الرئيس صدام حسين. أتذكر كيف أنني لم أستطع تصديق أذني عندما سمعت كيف تحدث قادة ‘البعث’ العراقي بقسوة عن زملائهم السوريين بشأن مشروع بناء سد الفرات الذي يتم إنشاؤه بمساعدة موسكو. بل كان هناك تلميح إلى أنه إذا لم يتم إيقاف المشروع، سينظر العراق في إمكانية توجيه ضربة لسوريا. لحسن الحظ، لم يحدث هذا. لكن بعد ذلك شعرت بمدى أهمية قضية المياه في النظام الأمني لدول الشرق الأوسط. على الرغم من أن معرفتي بمنعطفات الصراع العربي – الإسرائيلي ودور عامل المياه فيه كانت قد أعطتني فكرة جيدة عن ذلك.”(1)

اذا كان موضوع اقتسام المياه مؤهلاً للإنفجار بين دولتين كانا يحكمان بمبادئ حزب واحد (الحزب العربي الإشتراكي) عقيدة وسدة حكم، فالوضع بين الدول العربية والدول الأخرى المجاورة، إن لم ينفجر حتى اليوم، فمرد ذلك ليس بسبب عدم التوزيع العادل للمياه العابرة للحدود، مثال نهري دجلة والفرات في المشرق ونهر النيل في الشمال الإفريقي، وما يعانيه العراق من جه إيران، والأردن من جهة العدو الإسرائيلي، بل الموضوع لا يخلو من التدخلات السياسية من الدول الطامعة والتي لا تعير اهتماماً للقوانين الدولية، وأخرى – كالعدو الإسرائيلي – تناصر الدول الطامعة وتوظف الموضوع المائي في محاصرة الدول العربية. مسألة وقت واستعدادات ومهل قد تنفذ عند امتلاك عناصر القوة اللازمة للدول المجحف بحقها.

سوف نستعرض في هذا البحث مسألة المياه في الوطن العربي بمشرقه ومغربه وتطور الأزمات المائية والتوقعات المستقبلية، في محاولة لرسم بعض اقتراحات الحلول على صعيد الوطن العربي.

أولاّ: مسألة دجلة والفرات بين تركيا وسوريا والعراق

ينبع نهرا دجلة والفرات من أعالي جبال طوروس(2)، الفاصل الطبيعي بين مجتمعي بلاد ما بين النهرين وبلاد الأناضول، وينحدرا باتجاه سوريا والعراق باعثين الحياة والخصب فيهما ومانعين التصحّر عنهما، ثم يلتقيان في شط العرب كانهما يهنئان بعضهما على بعث الخير والجمال بشعب أجاد استعمالهما خلقاً وابداعاً وحضارة.

يتكون الفرات بعد أن يلتقي نهري فره صو ومراد صو في حوض ملاطية. يبلغ طول النهر 2330 كلم، يسير منها حوالي 442 كلم حتى يصل إلى الحدود السورية الحالية. تقدر طاقة النهر بحوالي 31,7 مليار متر3 ينبع 95% منها من جبال طوروس و5% من روافد في سوريا (جدول – 1) أهمها نهر الخابور. أما نهر دجلة فمساره أقصر من الفرات ويبلغ 1900 كلم (منها 400 كلم داخل تركيا) لكن طاقته المائية أكبر لكثرة روافده (الزاب الأكبر، الزاب الأصغر، العظيم، ديالة) وتصل إلى 49 مليار متر3. مصادر مياه دجلة هي 58% من جبال طوروس و12% من جبال زغروس اللذان يقعان تحت السيطرة التركية والايرانية، و30% من روافد في شمال شرق العراق (جدول – 1). إذا نظرنا لدجلة والفرات والروافد كمنظومة مائية واحدة فمصادر المياه موزعة بنسبة 72% في تركيا و7,4% في إيران 20.6% في سوريا والعراق.

معدل تدفق المياه موسمي ويختلف من شهر إلى شهر؛ فبعد فصل الشتاء تذوب الثلوج من أعالي طوروس وتنحدر مياهها بغزارة إلى دجلة والفرات بين شهري أذار وأيار، ومن ثم تشح تدريجياً حتى شهر تشرين الأول قبل البدء بالتصاعد ثانية(3). هذا التدفق الموسمي جعل دول النهر تبني السدود لتخزين المياه واستعمالها للري في موسمي الصيف والخريف الزراعيين ولتوليد الكهرباء.

أ. المشاريع التركية على نهري دجلة والفرات

فكرة استغلال مياه دجلة والفرات بدأت منذ أيام اتاتورك في العشرينات من القرن الماضي بعد ان رسمت معاهدة لوزان العام 1923 الحدود السورية – العراقية مع تركيا وايران على منحدرات جبال طوروس وزغروس بدل أعالي هذه الجبال، كما ترسم الحدود الدولية عادة، مما أفقد سوريا والعراق السيطرة على دجلة والفرات وروافدهما وأصبحا تحت رحمة تركيا وإلى حد ما ايران. في العام 1936، نضجت فكرة استغلال النهرين في تركيا بعد تأسيس ادارة الدراسات الكهربائية التي قدمت دراسة سد كيبان الذي نفذ في العام 1974 على الفرات. هذه الدراسة تبعتها دراسات أوسع وأشمل بعد تأسيس “مشروع جنوب شرق الاناضول” (“غاب – GAP” كما يعرف عالمياً) الذي اقترح إنشاء 22 سداً و19 محطة توليد كهرباء لري 1,7 مليون هكتار وتوليد 7500 ميغاوات من الطاقة الكهربائية(4). كلفة المشروع قدرت بـ 31 مليار دولار أميركي، وستحتاج إلى حوالي 17 مليار متر3 من مياه الفرات و8 مليار م3 من مياه دجلة(5) وستسبب نقصاً حاداً في دول المصب وخاصة العراق.

أهم هذه المشاريع التي شملها “غاب” هو سد اتاتورك على الفرات الذي يعتبر خامس أكبر سد في العالم، والذي انتهى العمل فيه في العام 1990، ويروي 872,4 الف هكتار ويولد 2400 ميغاوات من الطاقة في تركيا. المشروع الآخر المهم هو منظومة سدي أليسو وجزرة على دجلة الذي سيخزن 10,4 مليار متر3 لتوليد 1200 ميغاوات من الطاقة والذي سيروي 121,000 هكتار من الاراضي الحدودية التركية بكلفة 1,68$ مليار. بدا العمل بهذا المشروع في العام 2006، لكنه توقف في ديسمبر/كانون الأول 2008 بعد اعتراض الجمعيات البيئية والاجتماعية وضغطها على حكوماتها الالمانية والنمساوية والسويسرية التي ألغت في يوليو/تموز 2009 الضمانات لتمويل المشروع. أهم أسباب الالغاء هو تسبب بحيرة السد بفيضان قرية حسن كاييف الاثرية واجبار 10000 من السكان المحليين على هجرة منازلهم.(6)

إقرأ أيضاً: مبررات الأمن القومي العربي في مجال المياه

رغم وقف التمويل الخارجي، أصرت تركيا على اكمال المشروع وانتهى العمل بالمشروع وبدأ التخزين في يوليو/تموز 2019 ووصل إلى 5 مليار م3 في أبريل/نيسان 2020. أمام هذا الواقع أصبحت تركيا مسيطرة على أعظم مصدري مياه للمشرق السوري – العراقي ومؤهلة لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على المنطقة.

1. في القانون الدولي

دعا مؤتمر “استعمال المياه الجارية الدولية لغير الملاحة” العام 1994 في المادة 5 و6 إلى تقسيم المياه المشتركة بالتساوي والمنطق بين دول المصدر والمصب لضمان استمرارية النهر ومصالح الدول المتشاطئة. العوامل التي يجب الأخذ بها بعين الاعتبار لضمان المساواة هي العوامل المناخية والايكولوجية وحاجة البلدان الاجتماعية والاقتصادية والحاجات الانسانية للسكان الذين يعتمدون على الحوض. كذلك، دعت توصيات المؤتمر في المادة 7 منها إلى عدم قيام أية دولة بأية مشاريع مائية تسبب الاذى بدول النهر الاخرى، وضرورة التشاور معها قبل بناء هذه المشاريع. الجمعية العمومية للأمم المتحدة أقرت مسودة توصيات هذا المؤتمر، العام 1997، بالاجماع ما عدا 3 دول من بينها تركيا، ولكن لم تصادق عليها، إلا 21 دولة من مجموع 35 دولة يجب أن تصادق عليها لكي تدخل في اطار الاتفاقات الدولية. في 17 أغسطس/آب 2014 وبعد انتظار دام 17 عاماً، صادقت الدولة الـ 35 على الاتفاقية وبذلك أصبحت الاتفاقية قيد العمل والتحكيم والمرجعية القانونية الدولية.(7)

2. تركيا وعدم الإلتزام بالقانون الدولي

رفضت تركيا هذا القانون الدولي لإتباعها استراتيجية تتلخص بشعار “البترول للعرب والمياه لتركيا”، وباعتبار نهري دجلة والفرات “نهران وطنيان تركيان”. جاء ذلك في عدة تصاريح ومواقف اهمها تصريح لرئيس الوزراء الراحل ترغت اوزال، العام 1988، حيث قال “ادعاء سوريا والعراق بحقوق في مياه تركيا (يقصد دجلة والفرات) هو شبيه بادعاء تركيا بحقوق في بترول سوريا والعراق. المياه امر سيادي ويحق لنا ان نفعل ما نشاء فيها، فهي ثروة تركية كما هو البترول ثروة عربية ولن نسمح بمشاركتنا ثروتنا المائية ولا نريد مشاركتهم ثروتهم النفطية.”(8)

جدول رقم – 1

هذا الموقف لم يتغير عملياً بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية ذي الميول الاسلامية إلاَّ في الشكل. المشاريع المائية سارت وتسير حسب خطة “غاب” المرسومة من العلمانيين ومن دون اي تنسيق مع دول الجوار؛ فالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، دشن مشروع سد أليسو العملاق على نهر دجلة، أغسطس/آب 2006، وأكمل بناؤه بتمويل تركي، وبدأ التخزين العام 2019.

المواقف كذلك لم تتغير في الجوهر فعندما كانت العلاقات جيدة مع سوريا رفض وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، تانر يلديز، في اجتماع مسؤولي البلدان الثلاثة في 3 أيلول 2009 في أنقرة توقيع اتفاق شامل وملزم، ووافق فقط على زيادة مؤقتة لكمية مياه الفرات المتدفقة إلى سوريا إلى 520 متر3/ثانية لمدة شهرين، وادّعى ان تركيا تعطي “أكثر من التزاماتها”.

الجدير بالذكر ان تركيا – تاريخياً – تقاسمت المياه المشتركة مع جيرانها الآخرين، فوقعت معاهدات مع روسيا، العام 1927، قسمت فيها استعمال المياه على 4 أنهر مشتركة بين البلدين (كورو، كورا، اريا، اراس)، ومن ثم وقعت معاهدات اخرى في السبعينات. الشيئ نفسه تكرر مع اليونان، العام 1950، عندما وقع البلدان معاهدة لوزان.

عندما يُسأل الأتراك عن سبب عدم تكرار هذه المعاهدات مع جيرانهم المسلمين، يقولون إن الأنهر بين تركيا وروسيا واليونان هي انهر دولية لانها تفصل تركيا عن البلدين الآخرين، بينما دجلة والفرات نهران “عابران للحدود” ولا يشكلان حدوداً فاصلة!(9)؛ لذلك، فهم يعتبرونهما نهرين تركيين، ويرفضون توقيع أية معاهدة طويلة المدى تلزمهم بنسبة معينة من المياه. هذه البدعة التركية نقضها مؤتمر “استعمال المياه الجارية الدولية لغير الملاحة” التي صدقت على توصياته الأمم المتحدة، العام 2014، وهي توضح انه “لا يوجد اي اختلاف جوهري حول مفهوم الانهار الدولية والانهار العابرة للحدود”.

3. أهداف سياسية تتحكم بالموقف التركي من اقتسام الثروة المائية

يكتب محمد رقية، في موقع “الحوار نيوز”، أن الأسباب الرئيسية لتفاقم أزمة المياه بين دول حوض نهر الفرات ودجلة ( تركيا – سوريا – العراق ) وعدم التوصل لحلول عقلانية خلال 4 عقود من الزمن، يعود لربط ازمة المياه بملفات لا تمت بصلة للمياه وبشكل خاص الملفات السياسية والأمنية. وتعتبر تركيا ازمة المياه وملف المياه “كرة ضغط” وسلاح تحارب به كل من سوريا والعراق والمنطقة بمجملها، وكذلك من أسباب تطور الازمة عدم اعتراف تركيا بالصفة الدولية لنهر الفرات وتعده نهراً وطنياً عابراً للحدود، وأنه ثروة قومية خاضعة لسيادتها مثل النفط العراقي، وكذلك رفضها التوقيع على اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية لعام 1997، فضلاً عن استمرار أنقرة في انشاء مشاريعها المائية على النهرين من دون مراعاة حقوق سوريا والعراق وحصصهما المائية، واستمرار التعاون التركي – الإسرائيلي الذي كانت أول بوادره العام 1986 بسبب خط “أنابيب السلام” إلى الكيان المحتل ومنطقة الخليج، الذي أوقفته سوريا، والمأخذ الأساسي على تركيا أنها تمتلك فائضاً مائياً يزيد عن حاجتها الأساسية في منطقة الأناضول مقابل عجز مائي تعاني منه كل من سوريا والعراق.

ويبدو واضحاً الدور الإسرائيلي في هذا الشأن، فقد قدّمت بعض الدول دعما لمشروع الغاب ومن بينها: إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، وفرنسا… وقد اخذت تركيا قروضاً من إسرائيل لتنفيذ هذا المشروع؛ فإسرائيل طلبت من تركيا شراء أراضي في منطقة جنوب شرق تركيا، ولعل السبب الرئيس وراء هذا الطلب هو الحصول على المياه؛ وبالتالي، التحكّم بالمياه والضغط على طل من سوريا والعراق، علماً أن مشروع الغاب تم تصميمه بأيدي خبراء إسرائيليين، منهم خبير الري شارون لوزوروف والمهندس يوشع كالي. أما المشروع التركي الثاني الذي تم بمساعدة مالية من إسرائيل فهو مشروع سد أتاتورك.

الجدير بالذكر أن 67 شركة ومؤسسة اسرائيلية تعمل في مشروع الغاب منذ العام 1995، وتقوم بشراء الأراضي على ضفاف نهر مناوغات الذي تطمح اسرائيل في شراء مياهه من تركيا لتلبية احتياجات المستوطنات اليهودية. وتقوم مؤسسة “مشاو” الإسرائيلية للتربية والتعليم بنقل التكنولوجيا الزراعية وإنشاء وادارة الحقول إلى المزارعين اليهود في هذه المنطقة الواسعة التي تضم 4 محافظات في جنوب شرق تركيا.(10)

بـ. الموقف الرسمي العراقي

1. ما قبل وما بعد الغزو الأميركي

لمواجهة هذا الواقع، حاولت حكومتا العراق وسوريا وقف العمل في هذه المشاريع المدمرة لشعوبها واقتصادها ولكن دون أية نتيجة مهمة حتى الآن. “عراق صدام حسين” تفرّغ – في الثمانينات – لحربه مع إيران التي عمقت خلافه مع “سوريا حافظ الأسد”، فإعتمد على تركيا اقتصادياً لتصدير النفط عبر المتوسط، ولم يكن في موقع يستطيع فيه مجابهة أي من المشاريع التركية. وما كادت تنتهي حرب إيران، حتى شنَّ حرباً عبثية أخرى على الكويت في التسعينات أدت إلى اضعاف جيشه وفرض عقوبات قاسية همشت العراق كبلد، ومن ثم جاء الغزو الأميركي، العام 2003، وتبعته الانقسامات المذهبية والعرقية التي شلت العراق كلياً وسمحت لتركيا بالاستمرار بمشاريعها دون اي مقاومة عراقية تذكر.

العراق، ما بعد الرئيس صدام حسين، من جهته، طوّر علاقته الاقتصادية مع تركيا أيضاً بإبرام معاهدة التبادل التجاري البالغة 16 مليار دولار، العام 2019، ويسعى البلدان إلى ايصال التبادل التجاري إلى 20 مليار في الأعوام القادمة. وجل ما حصل عليه العراق عندما لوح بإلغاء هذه المعاهدة، حسب السيد حسن الصفار معاون مدير المعهد الوطني في إدارة الموارد المائية في وزارة الموارد المائية، هو ادراج جملة في وثيقة المعاهدة تقول “إن للعراق حقوقاً في مياه نهري دجلة والفرات”. بموازاة كل ذلك، تستمر المشاريع المائية التركية حسب الخطة المرسومة والتي كان آخرها سد أليسو على دجلة، وتُنفد السدود المتبقية من مشروع “غاب” (5% – 10%) حسب الخطة المرسومة، وتزداد الكوارث الاقتصادية على الشعبين السوري والعراقي عام بعد عام.(11)

2. تداعيات تعبئة سد أليسو وتشييد وتشغيل سد جزرة على العراق

من المحتمل البدء بتشغيل سد جزرة العام 2024 وإلى ذاك الوقت يكون قد تم ملء سد أليسو، فإن أسوا الحالات التي يمكن ان تنعكس على سد الموصل تتلخص بما يلي:
– سينخفض متوسط التدفق السنوي المتوقع إلى حوالي 119 م3/ثانية أي أنه سينخفض إلى 22% من متوسط التدفق السنوي لـ 30 عاماً الماضية (553 م3/ثانية). الجدير بالذكر أن معدل التدفق سيكون بمستوى أو أقل من “التدفق البيئي (60 م3/ثانية)” لمدة 5 أشهر، وهذا عملياً سيخرج سد الموصل من الخدمة.
– سيبلغ معدل التدفق التراكمي للعام بأكمله في حوالي 4.6 مليار متر3 أي أكثر بقليل من ما يسمى بـ “المخزون الميت” في سد الموصل وتمثل 42% من طاقة تخزين السد التي تصل إلى 11 مليار متر3، وهذا سيؤدي إلى انخفاضٍ كبير في إنتاج الطاقة الكهرومائية، بسبب تـأثر محطتي سـدي الموصـل وسامراء، اللذين سيتعذر عليهما إمداد المصانع ومحطات ضخ المياه وبقية المؤسسات الأخرى بما تحتاجه مـن طاقـة ضرورية لتشغيلها.
– ازدياد نسبة الملوحة في حوالي 600 – 700 ألف هكتار من أجود الأراضي الزراعية وخاصة الشمالية، وزيادة الأراضي الجرداء المتصحرة بـ 3 ملايين دونم (7,500 كلم) في الوسط والجنوب حسب الخبراء، سيتسبب بخروج 25% – 35% من الأراضي الزراعية من الخدمة.

3. ايران وبناء السدود على نهر دجلة

من الناحية الانسانية، يقدر الخبراء ان نسبة قد تصل إلى 5 ملايين عراقي ستضطر للهجرة إلى المدن أو الدول المجاورة طلباً للرزق بسبب شح مياه الشرب والتصحر، إذ لا يكفي هذا البلد المنكوب أمنياً من مآسي سياسية. كما ستتفاقم المسألة المائية وتزداد سوءاً من جانب إيران التي تسيطر على 6 ملايين متر3 (15%) من المياه المتدفقة للعراق حالياً، حيث تقوم بدورها ببناء السدود وتحويل الانهار إلى داخل الاراضي الإيرانية على روافد دجلة في الشمال (الزاب الاصغر، ديالة) وعلى نهري الكارون والكلخ في الجنوب قرب شط العرب. إلى جانب الاحتمال الكبير لانهيار السدود التركية بفعل الزلازل، فهناك علاقة سببية مؤكدة علمياً بين وقوع الزلازل بسبب السدود العملاقة وبحيراتها، وعلاقة أخرى بين انهيار السدود بسبب الزلازل في المناطق الناشطة زلزالياً، حسب الخبير طلال بن علي محمد مختار، أستاذ علوم الجيوفيزياء في احدى الجامعات السعودية.(12)

جـ. الموقف الرسمي السوري

1. انعكاس المسألة المائية على العلاقات السورية – التركية

في تسلسل تاريخي شمل تسعينات القرن الماضي، كتبت الباحثة السورية آلاء دياب، تعليقاً على مقالة راجي سعد(13)، للتذكير بـ “بعض المعلومات عن التقاطعات التاريخية؛ العسكرية والسياسية التي تدل على أن الماء سيصبح له ثقل مؤثر في قرارات المنطقة وخصوصاً في العلاقة مع إسرائيل”، وادرجت تداعيات القرارات التركية وردود الفعل السورية عليها في مواضيع ناتجة عن ملف المياه:
– في العام 1980، أصدرت رئاسة الأركان التركية تقريراً جاء فيه إن الخطر قادم من الجنوب، وإن العدو الأكبر لتركيا هو سوريا.
– في العام 1983، نصبت تركيا بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية صواريخ “بيرشنغ” على حدودنا بحجة مواجهة الصواريخ السوفيتية في سوريا.
– في العام 1987، وقِّعت معاهدة سلام بين سوريا وتركيا كانت أول اتفاقية سلام متعلقة بمسألة النزاع على المياه، لكنها لاقت انتقاداً واسعاص في تركيا بحجة أنها تضر بمصالحهم.
– في العام 1989، بعد اجتماع أوجلان بالسوفيتين في دمشق، ردت تركيا بقطع مياه نهر الفرات الجاري إلى سوريا، فقامت طائرات “الميغ” السورية باسقاط طائرة مسلحة تركية وقتل 5 أشخاص.
– في العام 1990، قطعت تركيا المياه الجارية بحجة ترميم سد أتاتورك، فرد الرئيس حافظ الأسد بحضور لمراسيم احتفالات حزب pkk في وادي بيكا.
– في العام 1992، أعلن الرئيس التركي الراحل سليمان دميرل – عند افتتاح سد أتاتورك – أنه لاحق لسورية والعراق في الأنهار المائية.
– في العام 1993 ومع استمرار هجمات حزب العمال الكردستاني، زار دميرل دمشق، فتعهد بضمان جريان المياه بعيداً عن أية اتفاقية ملزمة؛ وفي نفس الوقت، بدأ مشروع تطوير جنوب الأناضول –GAP، وهو عبارة عن 22 سداً و 19 مصنعاً لتوليد الطاقة الكهرومائية و 17 نظاماً للري.
– في العام 1995، اتهمت سوريا تركيا بأن مياه نهر الفرات ملوثة إلى حد كبير، وتقدمت بالشكوى إلى الجامعة العربية واجتمعت دول مجلس التعاون الخليجي وصدر “إعلان دمشق” الذي تضمن انتقاد واسع لأنقرة.
– في العام 1998، أعلن رئيس الأركان التركي أن بلاده في حالة حرب غير معلنة مع سوريا، وتم عقد اتفاق أضنة حتى بدأ التقارب بين البلدين.

خلصت الباحثة إلى أن التقاطعات التاريخية السياسية العسكرية تطول، لكن الفكرة الأساسية أن مسألة المياه ستكون ورقة بيد تركيا ضد دول الجوار، محاولة لكسب دور سياسي في صناعة القرار الإقليمي في المنطقة؛ فتركيا، تعتقد أنها تستطيع أن تخفف حدة التوتر بين دول الجوار وإسرائيل إذا قدمت عرضاً لحل مشكلة المياه، فإسرائيل تسيطر على نهر اليرموك ومرتفعات الجولان وحوض الأردن مما يرفع حدة التوتر مع فلسطين والأردن وسوريا، لذلك قدمت أنقرة عرضاً بنقل مياه سيحان وجيمان باستخدام أنابيب كلفتها 5 بليون دولار، حظي هذا العرض بترحيب من إسرائيل وبرفض الدول الباقية.(14)

2. الإستراتيجية السورية بين النجاح والفشل

تبقى الإلتزامت التركية عرضة للتغيير حتى بشخص من أصدرها؛ ففي العام 1987، وقّع البلدان “بروتوكولاً امنياً” حصلت سوريا بموجبه على وعد تركي بضخ 500متر3/الثانية من الفرات في مقابل الأمن على الحدود بين البلدين. هذا الوعد لم يكن كل ما تريده سوريا التي سعت إلى اتفاق ملزم. ومع ذلك حاول الرئيس دميرل التهرب من “الوعد” بقوله إن “القرار التركي باعطاء سوريا 500 متر3 كان عشوائياً”.

قطعت تركيا مياه الفرات عن دول المصب لمدة شهر لتعبئة بحيرة أتاتورك، فزادت سوريا دعمها لحزب العمال الكردستاني الذي حاول تخريب بعض السدود وتاأخير العمل في بعض المشاريع. هذه الاستراتيجية السورية لم تنجح على المدى البعيد وأًجْبرت سوريا على ترحيل عبد الله اوجلان، زعيم حزب العمال، لتفادي حرب غير متوازنة مع تركيا، العام 1998. حصلت سوريا أيضاً على بعض الدعم العربي عبر الجامعة العربية في التسعينات، لكن دون أي تأثير يذكر على المشاريع التركية.(15)