كُتّاب الموقع
قصص تُروى لأول مرة: علاقة بابا الفاتيكان السرية بهتلر

ديفيد كيرتزر

الجمعة 3 حزيران 2022

في آب/ أغسطس سنة 1939، بينما كان أدولف هتلر يضع لمساته الأخيرة على مخطط غزوه لبولندا، كان منخرطا أيضًا في مفاوضات حساسة للغاية مع البابا بيوس الثاني عشر لدرجة أن السفير الألماني لدى الكرسي الرسولي لم يكن على علم بها. لقد حرص الفاتيكان على الحفاظ على سرية هذه المحادثات لفترة طويلة بعد وفاة بيوس الثاني عشر؛ وقد حافظ على سريتها طيلة ثمانية عقود.
 
ولا تتضمن وثائق الكرسي الرسولي المجمعة عن الحرب العالمية الثانية، المؤلفة من 12 مجلدًا، والتي اكتملت بحلول سنة 1981، والذي يشكل حتى الآن السجل الرسمي لنشاط الفاتيكان خلال تلك الفترة، أي إشارة إلى المفاوضات، وقد رفعت عنها السرية في الوقت الراهن في أعقاب الافتتاح الأخير لأرشيفات البابا بيوس الثاني عشر في الفاتيكان.
 
في الواقع، كانت بعض الموضوعات في تاريخ الكنيسة، أو تاريخ الحرب العالمية الثانية، موضع خلاف حاد بما في ذلك قرار البابا بيوس الثاني عشر بتجنب انتقاد هتلر أو نظامه بشكل مباشر، والتزامه الصمت علنًا في مواجهة الهولوكوست. ومع ذلك؛ صور العديد من المحافظين في الكنيسة بيوس باعتباره خصمًا ثابتًا وشجاعًا لهتلر والفاشية، بينما انتقده آخرون بشدة لفشله في إدانة حرب العدوان النازية وجهود هتلر لإبادة جميع يهود أوروبا.
 
وحتى عندما اعتقلت قوات الأمن الخاصة النازية أكثر من 1000 يهودي في روما نفسها، في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1943، رفض البابا التعليق على ذلك؛ حيث يُذكر أن اليهود احتُجزوا لمدة يومين في مجمع بالقرب من أسوار الفاتيكان، ثم وضعوا في قطار متجه إلى أوشفيتز.
 
وبحسب ما ورد كان البابا يوحنا بولس الثاني يستعد لتطويب بيوس الثاني عشر في سنة 2000 عندما أجبرته المعارضة، خاصة من الجالية اليهودية في روما، على تأجيل المراسيم. ودعا خليفته، بندكتوس السادس عشر، إلى التريث حتى يتم فتح أرشيفات الفاتيكان لسنوات الحرب قبل اتخاذ قرار نهائي. ومع ذلك، وافق على إعلان "جلالة" بيوس الثاني عشر، كخطوة على طريق القداسة.
 
في سنة 2019؛ أذن البابا فرانسيس بفتح أرشيفات بيوس الثاني عشر، والتي أصبحت متاحة للباحثين في سنة 2020. وفي السنتين التاليتين، تم رفع السرية عن اكتشاف جديد مثير يفيد بأن بيوس الثاني عشر دخل بعد فترة وجيزة من توليه منصب البابا في مفاوضات سرية مع هتلر، وهي  قصة تُروى لأول مرة.
 
في الأشهر الأخيرة من حياته؛ أصبح سلف بيوس الثاني عشر، بيوس الحادي عشر، مصدر إزعاج لأدولف هتلر؛ حيث ازداد غضب البابا بسبب تقليص ​​هتلر لتأثير الكنيسة في ألمانيا، واستبدال المدارس الأبرشية الكاثوليكية بمدارس حكومية، وإغلاق العديد من المؤسسات الدينية، واستبدال التعاليم المسيحية بالعقيدة النازية.
 
وفي سنة 1937، أصدر بيوس الحادي عشر رسالة عامة بابوية أدانت الحكومة النازية لاضطهادها للكنيسة وتأييدها لأيديولوجية وثنية، وقد أثار ذلك غضب هتلر. وبعد مرور سنة؛ عندما زار هتلر روما، تخلى بيوس الحادي عشر عن المدينة من أجل كاسل غاندولفو، ملاذه الصيفي في ألبان هيلز. وفي تصريحات أثارت غضب بينيتو موسوليني، حاكم إيطاليا ومضيف هتلر، قال البابا إنه لا يستطيع الالتزام بتمجيد الصليب المعقوف النازي، الذي وصفه بأنه "صليب لا علاقة له بصليب المسيح".
 
وتوفي بيوس الحادي عشر في مطلع سنة 1939، مما أزاح عبئًا من أمام هتلر وموسوليني. وتم اختيار الكاردينال أوجينيو باتشيلي، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية، لمنصب البابا باسم بيوس الثاني عشر. ورأى هتلر في ذلك فرصة لتحسين العلاقات مع الفاتيكان، أو لمنع البابا الجديد على أي حال من انتقاد نظامه علنًا.
 
واختار هتلر الأمير فيليب فون هيسن البالغ من العمر 36 سنة، صهر ملك إيطاليا فيكتور عمانويل الثالث، ليكون الوسيط السري بينه وبين البابا، وكان قلة من الأرستقراطيين الألمان يتمتعون بمكانة مرموقة مقارنة بفون هيسن، الذي كان جده الإمبراطور الألماني فريدريك الثالث وجدته الملكة فيكتوريا، كما كان عضوًا سابقا في كتيبة العاصفة التابعة للحزب النازي، وكان يرتدي زيها البني. كما كانت لديه خبرة في حفظ الأسرار، بعد أن اتخذ خطوات لمنع علاقته الغرامية مع الشاعر الإنجليزي سيغفريد ساسون من الظهور للعلن.
 
بعد فترة وجيزة من انتخاب باتشيلي، استدعى هتلر فون هيسن إلى مقره. ونظرا لحرص البابا الجديد الواضح على طي صفحة علاقات الفاتيكان المتوترة مع النظام الاشتراكي القومي، قرر هتلر النظر في إمكانية إبرام صفقة بين الطرفين. وطلب من فون هيسن معرفة ما إذا كان بإمكانه تحديد موعد لعقد اجتماع سري مع البابا لبدء المحادثات.
 
ومن أجل للحفاظ على سريتها، كان لا بد من ترتيب المحادثات بين فون هيسن والبابا عبر قنوات غير رسمية. واشتملت هذه القنوات، التي سيتم استخدامها مرارًا وتكرارًا على امتداد السنتين القادمتين، على رجل يدعى رافاييل ترافاجليني، وهو صديق غامض للأمير أومبرتو، ملك إيطاليا المستقبلي وشقيق زوجة فون هيسن، الأميرة مافالدا، وكان ترافاجليني خبيرا في التخطيط ومعتدًا بنفسه، فضلاً عن كونه مولعًا بالفاشية، كما كان متورطا بعمق في شبكة اجتماعية وصلت إلى الفاتيكان.
 
 
وفي أحد أيام الأحد في منتصف نيسان/ أبريل من سنة 1939، وتقريبا بعد شهر واحد من تولي باتشيلي منصب البابا، استدعى فون هيسن ترافاجليني إلى المقر الملكي الإيطالي في روما. وهناك أوضح له أن هتلر طلب منه استئناف مفاوضات مع البابا الجديد خارج القنوات الدبلوماسية العادية. وكتب ترافجليني على الفور إلى الكاردينال لورينزو لوري، وهو رجل مقرب من البابا، يطلب مساعدته في ترتيب لقاء بين فون هيسن وبيوس الثاني عشر.
 
التقى البابا بمبعوث هتلر لأول مرة في 11 أيار/ مايو، وللمساعدة في ضمان سرية المحادثات، اتخذ البابا خطوة غير عادية للغاية بعقد الاجتماع في شقة وزير خارجيته، الكاردينال لويجي ماجليوني. وتحدث الرجلان باللغة الألمانية، التي كان البابا يتحدثها بطلاقة، بعد أن أمضى 12 سنة في منصب القاصد الرسولي في ألمانيا.
 
والجدير بالذكر أن أرشيفات الفاتيكان تحتوي على سرد باللغة الألمانية لمحادثاتهم، ومن اللافت للنظر أن البابا استعان بأسقف ألماني متخفي لتدوين نسخة كاملة من محادثاتهم دون أن يلاحظ الأمير النازي  ذلك على ما يبدو. وتقدم الوثائق، التي رفعت عنها السرية مؤخرًا، وصفًا دقيقًا لما قيل.
 
في هذا الاجتماع الأول؛ أخذ البابا نسخة من الرسالة التي أرسلها إلى هتلر، معربًا عن تقديره للتمنيات الطيبة التي أبداها القائد النازي عند اختياره لمنصب البابا، وقد قرأها للأمير بصوت عالٍ، ثم قرأ رد هتلر.
 
عند الانتهاء من القراءة، قال البابا "لقد كنت مراعيًا للغاية، وكان رد مستشار الرايخ لطيفًا للغاية. ولكن الوضع تدهور منذ ذلك الحين"، فقد استشهد البابا بإغلاق المدارس والمعاهد الدينية الكاثوليكية في ألمانيا النازية والتي يشار إليها باسم "الرايخ الثالث"، ونشر الكتب التي تهاجم الكنيسة والبابا، وتقليص أموال الدولة التي تعود بالفائدة على الكنيسة في النمسا.
 
وأخبر الأمير أنه حريص على التوصل إلى اتفاق مع هتلر وأنه مستعد لتقديم تنازلات بقدر ما يسمح به ضميره، "ولكن لا بد من عقد هدنة لكي يتحقق ذلك. أنا متأكد من أنه إذا تحقق السلام بين الكنيسة والدولة، فسيكون الجميع سعداء. إن الشعب الألماني متحد في حبه للوطن. وبمجرد أن نحقق السلام، سيكون الكاثوليك مخلصين أكثر من أي شخص آخر".
 
وأوضح فون هيسن أن الاشتراكيين الوطنيين انقسموا إلى فصائل مؤيدة للكنيسة ومعادية لها، والتي كانت "معارضة بشدة لبعضها البعض"، وإذا وافق رجال الدين الكاثوليك على حصر أنفسهم في شؤون الكنيسة والنأي بأنفسهم عن الشؤون السياسية، فإنه يمكن للفصيل الموالي للكنيسة أن ينتصر.
 
وبناء على ذلك؛ أوضح البابا أن الكنيسة ليس لديها مصلحة في إقحام نفسها في السياسة الحزبية، وتابع قائلًا "انظر إلى إيطاليا× توجد هنا أيضًا حكومة استبدادية. ومع ذلك يمكن للكنيسة أن تهتم بالتعليم الديني للشباب. لا يوجد هنا معارضون للألمان. نحن نحب ألمانيا. وسنكون سعداء إذا كانت ألمانيا عظيمة وقوية".
 
وسأل فون هيسن البابا حول ما إذا كان مستعدًا للالتزام كتابيا بعدم تدخل الكنيسة في الشؤون السياسية، وأجاب بيوس الثاني عشر أن المشكلة تكمن في توضيح ما تعنيه السياسة. على سبيل المثال، لا ينبغي اعتبار التربية الدينية للشباب شأنًا سياسيًّا.
 
وأثار فون هيسن بعد ذلك نقطة مثيرة للجدل أخرى في علاقات الفاتيكان مع الرايخ، وهي المحاكمات "الأخلاقية" للكهنة الألمان التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة؛ حيث وجهت اتهامات للمئات بارتكاب جرائم جنسية، بما في ذلك إساءة معاملة الأطفال. ولاحظ البابا أن "مثل هذه الأخطاء تحدث في كل مكان". ويضيف "البعض يظل سرًّا، والبعض الآخر يتم استغلاله. عندما  نتلقى تقارير عن مثل هذه الحالات، نتدخل على الفور".
 
من الواضح الآن أن وزارة الخارجية، تحت إشراف الكاردينال باتشيلي، قد اتخذت بالفعل إجراءات فورية. وهناك مجلد في ملفات الأمانة العامة من العام الماضي بعنوان "فيينا: أمر لحرق جميع المواد الأرشيفية المتعلقة بحالات لا أخلاقية للرهبان والكهنة". حتى اللحظة الراهنة؛ رفض المؤرخون إلى حد كبير تحقيقات الشرطة في الاعتداءات الجنسية لرجال الدين في ألمانيا النازية كدليل على مناهضة النظام الاشتراكي القومي للكاثوليكية ورهاب المثلية الجنسية، لكن كانت هناك أسباب جعلت الكنيسة عرضة لهذا النوع من الابتزاز.
 
طوال هذا الاجتماع الأول، أعرب فون هيسن عن قلقه من تسريب المحادثة لكن البابا طمأنه "لا أحد يعرف أننا نجري هذه المحادثة، حتى أقرب زملائي لا يعرفون عنها".
 
بعد اللقاء؛ سافر فون هيسن إلى برلين ليخبر هتلر بما قاله البابا، وبعد ثلاثة أسابيع، بعد عودته إلى روما، نقل فون هيسن مرة أخرى رسالة إلى ترافاغليني، الذي  أعطاه رسالة إلى الكاردينال لوري، الذي نقلها بدوره إلى البابا.
 
بدأت الرسالة، أن الفوهرر كان راضيًا جدًا عن المناقشة السرية التي أجراها الأمير مع صاحب القداسة مساء يوم 11  أيار/مايو 1939 ... بعد ذلك الاجتماع جرت محادثات مختلفة في برلين مع الفوهرر وهيرمان غورينغ ويواخيم فون ريبنتروب؛ على إثرها توصّل مارشال الرايخ ووزير الخارجية للنتائج التالية:
 
أ) لقد غيّر لقاء البابا مع فون هيسن موقف ريبنتروب تجاه التوصل إلى اتفاق بين الرايخ والفاتيكان، والذي كان قد عارضه سابقًا ولكنه يؤيده الآن.
 
ب) اعتبارًا من 25 أيار/مايو، صدرت أوامر للصحافة الألمانية بإنهاء هجماتها على الديانة الكاثوليكية والكهنة الكاثوليك في ألمانيا والتحدث عنهم بذلك إذا سنحت الفرصة بذلك .
 
ج) دعا هتلر مختلف المسؤولين الإقليميين إلى إرسال تقارير عن الوضع الديني في مناطقهم، حتى يكونوا في وضع يسمح لهم بالتفاوض مع الفاتيكان بشأن مخاوفه.
 
د) تم اتخاذ القرار بإرسال الأمير فيليب إلى روما برسالة تحية وتمنيات طيبة للأب الأقدس، مصحوبة ببعض المقترحات الملموسة، لبدء اتصالات رسمية عبر القنوات الدبلوماسية المعنية من أجل الاتفاق المنشود.
 
استمرت رسالة فون هيسن في التأكيد على الأهمية التي يوليها هتلر لإبقاء المفاوضات سرية. حسب هتلر؛ حتى يتم التوصل إلى اتفاق مع البابا، لم تكن هناك فائدة من السماح بإعلان مبادرته.
 
خلال صيف سنة 1939، عندما كان هتلر يستعد لغزو بولندا، استمر في استخدام قنواته الخلفية لإغراء الفاتيكان باحتمال التوصل إلى اتفاق. في أوائل  تموز/يوليو، تلقى البابا تقريرًا جديدًا من فون هيسن عبر الكاردينال لوري.و في اجتماع قبل أيام قليلة من الغزو؛ سأل فون هيسن هتلر عما إذا كانت المقترحات الخاصة بالبابا جاهزة، وذكر الأمير أنه بينما كان الفوهرر مستعدًا الآن للمصالحة، قد طلب أن يُعذر إذا لم يكن قادرًا حتى الآن على دراسة المشاكل المعقدة الحالية للكنيسة الكاثوليكية في الرايخ بشكل كافٍ حتى يتمكن من أن يُقدم  لقداسة البابا، مع مشاعر مخلصة ومحترمة من التقدير الكبير والتعاطف"، مقترحات ملموسة، نظرًا للوضع الدولي الحساس للغاية الراهن. ولكن، سارع فون هيسن إلى التنويه أن هتلر كان مقتنعًا بإمكانية تحقيق السلام الديني المنشود، وكان يأمل في العودة قريبًا إلى روما للقاء البابا.
 
عقد لقاء فون هيسن السري التالي مع بيوس الثاني عشر في 26 آب /أغسطس في كاسل غاندولفو؛ حيث يأتي بيان تفصيلي ​​لهذا اللقاء في شكل سجل باللغة الألمانية موجود في أرشيفات أمانة دولة الفاتيكان المفتوحة حديثًا، وعقد الاجتماع قبل أقل من أسبوع من إرسال هتلر القوات الألمانية إلى بولندا، مما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
 
بدأ الأمير الألماني بإخبار البابا أن هتلر يريد أن يؤكد له "رغبته الشديدة" في استعادة السلام مع الكنيسة، وأشار فون هيسن إلى أن الفوهرر لا يعتقد أن أي "قضايا كبيرة" تقسمهم. وبدا غافلًا عن التناقض الواضح، قال الأمير بعد ذلك إن هتلر يعتقد أن "أكبر القضايا" التي يجب حلها، إذا تم التوصل إلى اتفاق، هي "المسألة العرقية" - في إشارة إلى حملة الاضطهاد والإرهاب التي يشنها النظام النازي على اليهود - والتي يعتبرها هتلر تدخلًا من رجال الدين في السياسة الداخلية لألمانيا. ويوضح فون هيسن أن هتلر كان يعتقد أن أول هذه العقبات، "المسألة العرقية"، التي يمكن تجاوزها، على الأرجح من خلال استمرار البابا في انتهاج سياسة التغاضي والتجاهل حيال هذه القضية، وكان المطلوب إذن فهم الدور المناسب لرجال الدين الكاثوليك في ألمانيا.
 
عند رده؛ أعرب البابا أولاً عن امتنانه لهتلر على تحيته الحارة؛ موضحًا أنه يود  في توصل الكنيسة إلى اتفاق مشرف يضمن السلام الديني في الرايخ. أما بالنسبة لمخاوف هتلر بشأن النشاط السياسي لرجال الدين الألمان، فلا داعي للقلق لأن الكنيسة ليس لديها أي سبب يدفعها للانخراط في السياسة الحزبية، وفي محادثاته مع فون هيسن؛ لم يثر البابا أي مخاوف بشأن حملة النازيين ضد اليهود.
 
ويقول الأمير إن الفوهرر كان مقتنعًا بأن محادثاتهما يمكن أن تؤدي إلى اتفاق جديد منقح مع ألمانيا، يشمل النمسا، التي أصبحت وقتها جزءًا من الرايخ، ويشير البابا: "سوف نشجع تحقيق سلام ديني مشرف بأقصى قوة"، وتابع فون هيسن أن مثل هذا السلام "هو في الحقيقة رغبة الفوهرر العميقة. إنه يأمل أن يرى قداستك عندما يعود إلى روما لأغراض رسمية"، وتابع الأمير أن هتلر كان يأمل حتى الآن في أن يقدم للبابا سلسلة من النقاط لدفع المفاوضات قدمًا. لسوء الحظ×  تسببت القضية الروسية في تشتيت انتباهه عن هذه المسألة.
 
لم يكن فون هيسن بحاجة لشرح هذه الإشارة، فقد تم التوقيع على ميثاق عدم الاعتداء الألماني الروسي - الذي أعطى هتلر الضمانات التي سعى إليها من أجل شن غزوه لبولندا - قبل ثلاثة أيام في موسكو. لكن الأمير الألماني أصر أن المفاوضات مع البابا ظلت ذات أهمية قصوى للفوهرر. في الوقت نفسه، أدركوا جميعًا أن المفاوضات ينبغي أن تستمر في السر إذا أرادوا منع "التدخل العدائي" من قبل أولئك الذين يتوقون لعرقلة أي اتفاق بين بيوس الثاني عشر وهتلر، وحيال  هذا الشأن؛ أوضح البابا مستخدمًا الكلمة اللاتينية: "السر مقدس بالنسبة لنا".
 
عُقد الاجتماع التالي في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1939، وبعد اكتمال غزوه الوحشي لبولندا، أخبر هتلر البابا أنه مستعد لاستئناف مفاوضاتهم السرية؛ حيث يوضح شبه نص المحادثة باللغة الألمانية التي دارت بين البابا وفيليب فون هيسن أنه حتى بعد الغزو وبدء الحرب الأكبر، كان البابا حريصًا على التوصل إلى تفاهم مع هتلر. في الوقت نفسه؛ أراد البابا أن يعرف هتلر أن أي اتفاق يعتمد على تغيير تلك السياسات الألمانية التي أضرت بالكنيسة في السابق.
 
وتبين المحادثة أنه عندما جلس فون هيسن؛ تساءل البابا عن حال هتلر، وقد أجابه الأمير: "إنه يبلي حسنًا على الرغم من التحديات الشديدة التي يواجهها". لسوء الحظ، جلب البولنديون كارثة لأنفسهم، وكان لرفضهم العنيد الاعتراف بهزيمتهم عواقب مأساوية، وذكر فون هيسن أن "قرار القيادة العسكرية البولندية بمواصلة المقاومة العبثية كان بمثابة تضحية بأرواح الكثيرين"، لكن البابا ردّ أنه على الألمان الاعتراف بشجاعة الجنود البولنديين.
 
في السياق ذاته، أوضح فون هيسن، مشيرًا إلى ملاحظات البابا، كان الفوهرر سعيدًا جدًا بالتقدم العسكري والسياسي الذي أحرزه في بولندا. علاوة على ذلك، سأل البابا عن حال الشعب الألماني؟
 
اعترف البابا أن الهدوء يجتاح الجانب العسكري حاليًا قائلًا: "إنهم يقومون بعمل جيد. تم تقديم حصص الإعاشة الغذائية. لكن الناس متفائلون"، فأجابه الأمير موافقًا، ربما كان متفائلًا بشكل مفرط، لكنه رأى علامات على أن السلام قد يعود الآن إلى أوروبا.
 
وأشار فون هسن إلى أنه عاد إلى ألمانيا بعد لقائه الأخير بالبابا، وناقش مع الفوهرر "الزعيم/ هتلر" ما أخبره به البابا حول أهمية التوصل إلى تفاهم؛ حيث قال الأمير: "كان متفقًا تمامًا"، لكنه مع الأسف أصبح مشتتًا بعد ذلك، نظرًا للقضايا الأخرى الملحة التي عليه معالجتها. لكن الأمير أكد للبابا أن "النية باقية".
 
وقال بيوس الثاني عشر، إن الأخبار الواردة من ألمانيا لم تكن لسوء الحظ لم مشجعة على التقارب مع الكنيسة، حتى أولئك المفضلين للنظام الاستبدادي كانوا قلقين بشأن الطريقة التي تُعامل بها المؤسسات الدينية.
 
عن هذه النقطة، قرر البابا طرح نقاش فكر أنه قد يستميل هتلر؛ فقد كان أعداء ألمانيا يستفيدون بشكل وافر من معاملة الرايخ السيئة للكنائس، وأضاف البابا أن كل هذا - مشيرًا للضغط الذي يتعرض له لرفع صوته ضد إجراءات هتلر المناهضة للكنيسة - جعل وضعه والفاتيكان في موقف صعب، فقد كان على الهجوم المنهجي الألماني على الكنيسة أن يتوقف، وأن الطريق لمفاوضات مثمرة سيمهَّد إذا أعطى هتلر إشارة وحسَّن الوضع، حيث قال البابا "أنا أتفهم أن المهام الأخرى تستحوذ على طاقة الفوهرر في الوقت الحالي، لكن إشارة مثل "توقف!" ممكنة ومهمة. هذا لأن الاضطهادات مستمرة وبشكل متعمد ومنهجي، ولا شك في هذا".
 
اقترح الأمير أنه قد يكون من الأفضل البدء بإجراء مفاوضات أولية في برلين؛ حيث قضى الفوهرر معظم وقته، وهناك يمكن للقاصد الباباوي أن يتصدر المحادثات، وأضاف فون هسن "إن العديد من الدول انضمت للرايخ"، وهذا يوضح الحاجة لاتفاق جديد مع الفاتيكان.
 
فسأل البابا: هل كان الأمير يخطط لإنشاء لجنة لتنظيم مثل هذه المحادثات؟
 
فأجابه: "لا، لم يتم إعطاءه مثل هذه التعليمات. كان فقط يفكر بصوت عال، وإذا وافق قداسته من حيث المبدأ، إذًا…."، فقاطعه البابا: "المهم في مثل هذه المحادثات لكي تكون مثمرة هو خلق أجواء مناسبة عن طريق إشارة من الفوهرر".
 
فأجاب الأمير "سأدعم هذا بكل سرور"، وردًّ البابا: "لطالما رغبت بالسلام بين الكنيسة والدولة وأنا مستمر في رغبتي".
 
عندما نهض بيوس لإنهاء الاجتماع، أخبر الأمير بمدى تقديره لزيارته وطلب منه أن ينقل تحياته الحارة لهتلر.
 
عاد فون هسن إلى ألمانيا، معتقدًا أن الوقت قد حان لتنتقل المفاوضات إلى المستوى التالي؛ حيث قرر هتلر إرسال وزير الخارجية فون ريبنتروب للقاء البابان بينما عاد فون هسن إلى روما لمناقشة الترتيبات الممكنة.
 
وباتباع مسارهم المألوف حاليًا، أخذ ترافاجليني تقريره لما أخبره به فون هسن إلى الكاردينال لوري، وأرسله الكاردينال إلى بيوس في 2 كانون الثاني/ يناير 1940، مع خطاب تقديمي يحث البابا على سرعة إخباره بكيفية الرد، وتظهر ملاحظة مطبوعة بشكل منفصل في ورقة عادية، عُثر عليها مع خطاب الكاردينال في أرشيف الأمانة العامة للدولة بالفاتيكان، مدى سرعة موافقة البابا على الاجتماع ويعطي نكهة عن طبيعته التي تنطوي على المكيدة: "3 كانون الثاني/ يناير 1940 "12:15 مساءًا". أخبرنا الكاردينال المرموق لوري أن "الشخص المعني" عاد هذا الصباح إلى روما ونصحنا بصورة ملائمة بالحضور مساءً في الوقت المتفق عليه".
 
وأثناء التحضير للاجتماع، قام بيوس الثاني عشر على عجل بتجميع وثيقة باللغة الألمانية، تتضمن خمس طلبات من هتلر، وأعطاها لفون هسن عندما حضر الأمير ذلك المساء في القصر الرسولي؛ حيث استهل البابا النقاط الخمسة بالتعبير عن سروره لرؤية أن "بعض المنشورات الدعائية ضد الكنيسة أو المنظمات التابعة لها "في ألمانيا" تم سحبها"ن غير أنه كان هناك علامات أخرى أقل تشجيعًا؛ فقج استمر وفود التقارير المناهضة لسلطة رجال الدين والدعاية المغرضة للكنيسة في ألمانيا؛ حيث قال البابا: "نحن ما زلنا مدركين أن هناك من هم في الحزب - خاصًا في تلك الدوائر التي ترسم نفسها الممثلين الرئيسيين لألمانيا اليوم مثل "فرقة الحماية إس إس" و"شعبة العاصفة إس إيه"، وجبهة العمل وهتلر يوس، واتحاد الفتيات الألمان - الذين يسعون إلى فصل الكاثوليك روحيًّا، وإذا أمكن، بشكل واضح من الكنيسة. على سبيل المثال، لا يمكن لأحد أن يتقدم في "فرقة الحماية إس إس" دون التخلي عن عضويته في الكنيسة"، وقد اقترح البابا: "تطهير الجو العام قبل بدء المحادثات"، وأنه سيتعين على الحكومة الألمانية اتخاذ إجراءات معينة، ثم سرد الخطوات الخمس:
 
1- إنهاء الهجمات ضد المسيحية والكنيسة في منشورات الحزب والدولة، وسحب المنشورات السابقة لا سيما المهينة منها، ولقد تم بالفعل سحب بعض أسوأ المنشورات ضد الكنيسة من السوق، ولكن بشكل عام...
 
2- وقف الدعاية المعادية للمسيحية والكنيسة التي تستهدف الشباب، في المدارس وخارجها...
 
3- إصلاح التعليم الديني في المدارس وفقًا لمبادئ الكنيسة الكاثوليكية وبإشراف مدرسين معتمدين من الكنيسة، في معظم الحالات من رجال الدين الكاثوليك.
 
4- استعادة حرية الكنيسة في الدفاع عن نفسها علانية ضد الهجمات العامة ضد عقيدتها ومنظماتها...
 
5- كف عمليات مصادرة ممتلكات الكنيسة، تحسبًا للفحص المتبادل للتدابير السابقة.
 
في الصباح التالي للاجتماع، أحاط فون هسن فون ريبنتروب عبر الهاتف بالمستجدات. وعند عودته إلى ألمانيا بعدها بفترة وجيزة؛ أحاط فون هسن هتلر أيضًا بالاجتماع وأعطاه المذكرة التي تحتوي على النقاط الخمس والتي أعدها بيوس الثاني عشر، وبعد إعادته لروما في مستهل الشهر التالي لمتابعة المفاوضات، استدعى فون هسن ترافاجليني لنقل رسالة جديدة إلى الأسقف الكاثوليكي، وبعد أن قرأ هتلر مذكرة البابا، ناقش الخطوات التالية مع فون ريبنتروب ووافق من حيث المبدأ على شروط البابا، وقرر أن يكون لقاء وزير خارجيته القادم مع البابا، اجتماعًا رسميًا ولا يظل سرًّا، وأنه يجب وصفه على أنه مناقشة لنقاط التوتر بين المملكة والفاتيكان.
 
من المثير للاستغراب أن فون هسن، في الاجتماع المخطط مع فون ريبنتروب، نقل رغبة هتلر في أن يتملق البابا وزير خارجيته بقدر الإمكان: "خلال الاجتماع الذي سيجريه فون ريبنتروب مع الأب المقدس - الذي قد يكون حاسمًا للعلاقات بين الكنيسة والمملكة - يود الفوهرر أن يستعين الأب المقدس بالعديد والعديد من الكلمات اللطيفة مع وزير خارجيته، حيث إنه شديد التأثر بهذه التعبيرات، بما أن فون ريبنتروب هو الوصي على الرقابة المستقبلية لهذه المنطقة"، وقال الأمير الألماني إن هتلر "يتوقع الكثير من هذا الاجتماع".
 
على الرغم من أن البابا كان متلهفًا للاجتماع مع وزير خارجية هتلر، إلا أن قرار هتلر بأن الاجتماع يجب أن يحظى بدعاية واسعة جعله متوترًا، فمنذ أن غزا الألمان بولندا يوليو/أيلول الماضي، كانت المناشدات البائسة من الكاثوليك البولنديين المقهورين تأتي للفاتيكان، وتحث البابا على التنديد بالعدوان النازي. وجعلت حقيقة أن أعدادًا كبيرة من رجال الدين الكاثوليك البولنديين كانوا أهدافًا للغزاة الألمان، الضغط للتحدث علنًا يكاد لا يطاق، فقد تأتي رؤية البابا الآن في محادثات جماعية مع فون ريبنتروب بعواقب وخيمة عليه.
 
وأعد البابا مذكرة جديدة لفون هسن في 8 فبراير/شباط، جاء فيها: "الأخبار التي تلقيناها حتى بداية الشهر الحالي حول وضع الكنيسة في ألمانيا لا تشير إلى بداية الوفاق مع المنصوص عليه في مذكرة النقاط الخمسة.
 
ةفي ظل هذه الظروف يعتقد قداسته أن إبقاء اللقاء الأول بينه وبين وزير خارجية المملكة سريًّا أكثر منفعة، للسماح بخوض نقاش مفتوح دون تدخل بشأن النقاط ... الأساسية للاتفاق".
 
في 18 فبراير/شباط، عاد فون هسن لروما، حيث أعطاه ترافاجليني رسالة البابا، وعرض تقرير ترافاجليني لمحادثته اللاحقة مع فون هسن، والتي تلقاها بيوس الثاني عشر عبر الكاردينال لوري، أحدث إغراءات هتلر للبابا، فقد كان الفوهرر وفون ريبنتروب "يطبقان بحذر وتكتم النقاط الخمسة لمذكرة "البابا"".
 
لقد خططوا لإكمال تلك المهمة وربما فعلوا المزيد لإرضاء البابا بعد زيارة فون ريبنتروب. ولجعل هذا ممكنًا؛ فقد اتفق القادة النازيون على أنه في الوقت الذي يمكن اعتبار اجتماع وزير الخارجية "اجتماعًا خاصًّا"، فإنه يجب أن يكون مصحوبًا بكل المراسم الملائمة لحدث بهذه الأهمية، وقد انتهت رسالة فون هيسن للبابا ببعض التفاؤل؛ حيث تضمنت: "بعد الزيارة والنقاش المفتوح والصريح لقداسة البابا مع فون ريبنتروب، ربما بدأت حقبة جديدة من السلام مع الكاثوليكية في ألمانيا".
 
في صباح يوم الاثنين 11 مارس/آذار 1940، تم نقل فون ريبنتروب والوفد المرافق له بواسطة أربع سيارات ليموزين سوداء تابعة للفاتيكان وترفع علم الفاتيكان والنازية، وانطلقوا باتجاه القصر الرسولي ودخلوا مدينة الفاتيكان عبر بوابة القديسة آنا، وكان وزير الخارجية البالغ من العمر 46 عامًا - "وهو بائع شامبانيا سابق مغرور ومتعجرف ومعتد بنفسه إلى حد كبير"، كما وصفه المؤرخ إيان كيرشو – قد أصبح أحد أقرب المقربين من الفوهرر، رغم أنه كان محط ازدراء من قبل معظم القيادة النازية العليا. في الفاتيكان؛ أدى الحرس السويسري ذو الزي المخطّط التحية للموكب قبل أن يشق طريقه إلى ساحة سان داماسو.
 
دخل فون ريبنتروب إلى المكتبة الخاصة للبابا بيوس الثاني عشر، المتميزة بطاولتها الكبيرة المنحوتة بالقرب من أحد الجدران، وقد امتنع وزير الخارجية عن الركوع كما جرت العادة عند الاقتراب من البابا بيوس الثاني عشر، وبدأ حديثه بنقل تحيات هتلر، وردًّا على ذلك، تحدث البابا عن سنواته العديدة التي أمضاها في ألمانيا، والتي قال إنها من أسعد سنوات حياته.
 
قال فون ريبنتروب إنه يأمل أن يكون حديثهم صريحًا، حيث اعتقد هتلر أن تسوية خلافاتهم "كانت محتملة جدًّا"، لكنه اعتمد أولًا على ضمان " تخلي رجال الدين الكاثوليك في ألمانيا عن أي نوع من النشاط السياسي"؛ أي عدم توجيه أي نقد صريح أو ضمني لسياسات الحكومة، وقال الوزير الألماني إنه بالطبع لم يكن وقت الحرب هو الوقت المناسب للدخول في أي اتفاقيات رسمية جديدة، ولكن "ما يهم في الوقت الحالي - حسب رأي الفوهرر "هتلر"- هو الحفاظ على الهدنة القائمة [بين الكنيسة والدولة] وتوسيعها إن أمكن"، وقال فون ريبنتروب إن هتلر كان يقوم بدوره في إحداث هذا التحسن، وقد ألغى ما لا يقل عن 7 آلاف لائحة اتهام لرجال دين كاثوليك متهمين بمجموعة متنوعة من الجرائم المالية والجنسية، وكان يواصل سياسة الوطنية الاشتراكية للحكومة المتمثلة في تقديم دعم مالي سنوي كبير للكنيسة الكاثوليكية، وأشار ريبنتروب إلى أن البابا في واقع الأمر مدين لهتلر بالكثير، وإذا كانت الكنيسة لا تزال قائمة في أوروبا فإن ذلك بفضل الاشتراكية القومية التي قضت على التهديد البلشفي.
 
ومن هنا بدأت الروايات الألمانية والفاتيكانية للمحادثة في الاختلاف، وبحسب الرواية الألمانية، فإن "البابا أبدى تفهمًا كاملًا لتصريحات وزير الخارجية واعترف دون تحفظات بأن الحقائق الملموسة كانت كما ذُكرت. صحيح أنه حاول حرف المحادثة نحو مشاكل وشكاوى خاصة ومحددة من الإدارة البابوية، لكنه لم يصر على الاستمرار".
 
ةتم إعداد رواية البابا للمحادثة من قبل المونسنيور دومينيكو تارديني، في وزارة الدولة، بناءً على ما أخبره به البابا بعد وقت قصير من مغادرة فون ريبنتروب، ولدينا أيضًا رؤية أعمق للمحادثة بفضل مذكرة مطولة باللغة الألمانية تم إعدادها - مسبقًا للاجتماع كدليل - حول ما أراد البابا بيوس الثاني عشر قوله. وقدمت المذكرة؛ التي كُشف عنها مؤخرًا، تذكيرًا بالنقاط الخمس التي أرسلها البابا إلى هتلر، وتضمنت أيضًا قضايا مهمة أخرى كان البابا يأمل في طرحها، وكانت القائمة طويلة: "كانت هناك حالات تفتيش لمكاتب كبار مسؤولي الكنيسة بما في ذلك الأساقفة ... من قبل البوليس السري النازي"، وقد انتهكت مثل هذه الإجراءات أحكام الاتفاق الذي تم التفاوض عليه مع الحكومة الألمانية بعد فترة وجيزة من وصول هتلر إلى السلطة، فقد كان يجب عليهم التوقف.
 
ثم ظهرت بعد ذلك قضية بولندا الحساسة؛ حيث كان لدى الكرسي الرسولي مخاوف بالغة بخصوص وضع الكنيسة في بولندا، لا سيما بسبب القيود الشديدة المفروضة على الأساقفة والكهنة، والقيود المفروضة على أنشطة الكنيسة، حتى خلال أيام الأحد، والتي تمنع الكهنة والأتباع من إقامة الشعائر الدينية الأساسية، وأغلقت العديد من المعاهد الدينية والمدارس الكاثوليكية الخاصة.
 
ولاحظ البابا بعد الاجتماع أن فون ريبنتروب ظهر كشاب قوي إلى حد ما، لكنه جادل كشخص متعصب عند حديثه، وكان فون ريبنتروب قد أخبر البابا أنه كان ذات يوم تاجر نبيذ مع اهتمامه القليل بالسياسة، وقال إنه يؤمن بالله وقد ولد بروتستانتيًا لكنه لم يكن ينتمي إلى كنيسة. وقد أشار بيوس، في معرض رده على شكوى فون ريبنتروب من أن البابا السابق قد استخدم كلمات قوية ضد ألمانيا، أنه في منشوره البابوي الأول الذي صدر في أكتوبر الماضي، كان بعكس ذلك حريصًا على عدم الإساءة إلى الألمان، وأنه في خطابه اللاحق بمناسبة عيد الميلاد، الذي تطرق فيه إلى معاناة "شعب صغير"، لم يشر إلى بولندا كما زعم البعض بل إلى فنلندا التي اجتاحها الروس مؤخرًا.
 
وحاول فون ريبنتروب أن يُرسّخَ في ذهن البابا يقين الألمان بالانتصار في الحرب قبل نهاية السنة، وهو ادعاء استمر في تكراره. وقد لاحظ ذلك جوزيبي باستيانيني، وهو وكيل موسوليني للشؤون الخارجية، حيث قال: "لم أر قط رجلًا من الجليد حتى التقيت بفون ريبنتروب"، والآن كان البابا يرى تاجر الحرب النازي المشهور أثناء عمله.
 
بعد شهرين من اجتماع البابا مع فون ريبنتروب، بدأ الجيش الألماني زحفه السريع غربًا، وقد تمكن من احتلال هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وفرنسا في وقت قصير مذهل، وقد استطاع إخراج قوة تدخل سريع بريطانية من القارة، كذلك تم تقطيع أوصال بولندا؛ ورغم ذلك استمرت اجتماعات البابا السرية مع الأمير النازي، وكان آخرها اجتماع عُقد في ربيع سنة 1941. في النهاية؛ لم تُثمر الاجتماعات بالتوصل لأي اتفاق رسمي، وبالتالي يمكن اعتبارها فاشلة بالمعنى الضيق، وما حققته الاجتماعات هو خداع البابا والمساعدة في إبقائه صامتًا، كذلك لم يقصد هتلر أبدًا استعادة امتيازات الكنيسة في ألمانيا، لكنه عرف كيف يتعلق بالإغراءات المختلفة.
 
لم يكن البابا بيوس الثاني عشر وأدولف هتلر يحملان أي مودة لبعضهما البعض. ومع ذلك؛ كان لكل مهما أسبابه الخاصة لبدء هذه المحادثات، فقد أعطى البابا الأولوية القصوى للتوصل إلى اتفاق مع النظام النازي بهدف إنهاء اضطهاد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في الرايخ الثالث وفي الأراضي التي سيطرت عليها، بينما رأى هتلر من جانبه أنها فرصة لإنهاء الانتقادات البابوية التي أصبحت مصدر إزعاج في عهد البابا السابق. وكما أخبر الأمير فون هيسن البابا، فإن هتلر يرى وجود عائقين محتملين فقط للوصول إلى تفاهم: "المسألة العرقية" وإشراك رجال الدين الكاثوليك في السياسة الألمانية، حيث لا ينبغي السماح للكهنة والأساقفة بإبداء أي انتقاد للسياسات النازية.
 
لا يوجد أي مؤشر إطلاقًا على أن البابا قد طرح حملة النازيين ضد يهود أوروبا كقضية، (وفي هذا الشأن، لم يكن البابا وقت ذاك يعبر عن أي معارضة لقوانين موسوليني العنصرية طالما أنها تستهدف يهود إيطاليا فقط). أما بالنسبة لهاجس هتلر الثاني؛ فقد نفى البابا مرارًا وتكرارًا تورط رجال الدين الكاثوليك في المجال السياسي، وإذا كان البابا يعتقد فعليًّا أنه من المناسب لرجال الدين الكاثوليك انتقاد أي من سياسات النظام النازي بخلاف تلك التي أثرت بشكل مباشر على الكنيسة، فإنه لم يصر على هذا الأمر
 
وكان لبيوس الثاني عشر أولويات أخرى؛ فحسب موقعه كرئيس لمنظمة دولية كبيرة، فقد كان هدفه الأسمى في المفاوضات مع مبعوث هتلر هو حماية الموارد المؤسسية وامتيازات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في الرايخ الثالث، وإذا كان الهدف الوحيد هو حماية مصلحة الكنيسة المؤسسية، فيمكن الحكم على جهوده بأنها ناجحة. لكن بالنسبة لأولئك الذين يرون البابوية كمنصب لقيادة أخلاقية عظيمة، فإن الكشف عن مفاوضات البابا بيوس الثاني عشر السرية مع هتلر يجب أن يكون بمثابة خيبة أمل كبيرة. ومع مرور سنوات الحرب بكل أهوالها، تعرض البابا بيوس الثاني عشر لضغوط شديدة لإدانة نظام هتلر ومحاولته المستمرة لإبادة يهود أوروبا، لكنه سيقاوم حتى النهاية.
 
 
 
المصدر: ذا أتلانتك - نون بوست