كُتّاب الموقع
فوز أبعد من نتائج الانتخابات اللبنانية

د. حياة الحويك عطية

الأربعاء 9 أيار 2018

يوم ولِدت – وأنا بلغت من العمر ملياً – كان للبنان خريطة سياسية مريضة، وعينا أمراضها وحلمنا شباباً بتغييرها. واليوم ارتفعت الأبواق الانتخابية ومن ثم هدأت في ما أسموه صمتاً، لتعود فترتفع مع النتائج. الخريطة لا تسجّل تغيّراً نحو الأفضل، وتجعلنا نقف أمام الصناديق – إن وقفنا – وبيدنا ورقة الضرورة لا ورقة الرضى.

هل كنا نصدّق نحن أبناء الستين (الستين عُمراً أو سنوات الستينات ومدّها التقدمي) بأننا سنسمع بعد أربعين سنة، صاغرين قابلين مصطلحات: الشارع السنّي والشارع الشيعي، الشارع المسيحي بل والشارع الكاثوليكي والأرثوذوكسي والماروني بالطبع.

نسمعها وكأنها دخلت معجم العلوم السياسية والبنيوية الاجتماعية كأبداعٍ لبناني يُميّز بلد الإشعاع والنور.


طبعاً نحن صدّرنا هذا الإبداع إلى العراق. منذ عام 1990 كتب جان بيير شفينمان فصلاً بعنوان "لبننة العراق" في كتابه الهام: "فكرة مُعينة عن الجمهورية تقودني إلى ...." مَن قال إننا لم نصدّر إلا التبوّلة والعُري في برامج التلفزيون؟


اليوم لم يعد العرب بحاجة إلينا، باتوا يتحدّثون عن "عرقنة سوريا"، وذلك بعد أن أبدعوا هم الآخرون لوحات تشكيلية سوداء لـ "هلال شيعي" و "مثلّث سنّي". لوحات تمدّدت فشملت العالم وأعادت بضاعتنا إلينا مُطوّرة ومُفعّلة.


عرقنة سوريا ينتظرها اللبنانيون بفارغ الصبر على أمل أن تساهم في سدّ مديونية الدولة والقطاع الخاص والأُسر. مديونية يُقال إنها بلغت مستوى 200 مليار دولار أي أكثر من 375% من مجمل الناتج المحلي.

لكن أمل المواطن العادي بهذا الحل هو أمل إبليس بجنّة ربّه، لأن إعادة الإعمار في سوريا ستدرّ على لبنان أموالاً، ولكنها لن تذهب إلى الدولة بل إلى مَن نهبوا الدولة طيلة كل هذه العقود. ومثلها الأموال التي ستأتينا من المكتشفات النفطية.


إذن لن تصلح حالنا باستمرار الفساد. ولكن هذا الشعار الذي تبنّاه الجميع، حتى بات مَن يريد الاقتراع له لا يعرف لمن يصوّت. هو مجرّد شعار منقوص. فالفساد توأم معروف للحياة الاستهلاكية، وتبنّي سياسة الاستهلاك وثقافته اقتصادياً واجتماعياً هو أساس الفساد وليس العكس. ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج، قال لكم جبران خليل منذ قرن، (ترى مَن سيقترع لجبران في بشري لو عاد إلى الحياة وترشّح هناك؟). "ثقافة الوصول إلى الثروة من دون تراكم مبني على احترام قيمة العمل المُنتج، خاصة إذا ما استبدل ذلك باللجوء إلى المُضاربات هو الطريق الحتمي للفساد" كتب ألان كوتا، الإيطالي الحامل لجائزة نوبل في الاقتصاد عام 2003. وما بينهما قال أنطون سعادة إن أي اقتصاد – حتى اقتصاد العدالة الاجتماعية – إذا لم يُبنَ على الإنتاج فمصيره إلى الهلاك.


ثقافة الاستهلاك، فلا أظنها قد بلغت في أي بلد في العالم ما وصلته في لبنان من التفاهة والتفريغ. وكأن المظاهر المادية باتت بديلاً لكل المضامين والقِيَم التي تُحدد قيمة الإنسان في محيطه. والدليل الأبلغ ما جاء في تقرير لجريدة الأخبار من أن مديونية الأُسر تجاوزت 21.5 مليار دولار، أي أكثر من نصف الدخل المُتاح لها للاستهلاك، وأكثر من 40% من مجمل الناتج المحلي، بحسب البنك المركزي.

والأطرف أنه في حين يتراجع الدخل الوطني يرتفع عدد الأُسر المدينة إلى مليون شخص 80% منهم تقريباً لجأوا إلى الاستدانة لتمويل استهلاكهم وشراء مساكنهم وسياراتهم وتسديد أقساطهم. تبيّن هذا الواقع لا يحتاج صحفاً ومحلّلين، يكفي أن ينظر كل منا إلى نمط حياته وجيرانه.


فكيف مع ثقافة كهذه لا يكون للمال الانتخابي فعل العقاقير المخدّرة مع المُدمنين؟


دلالة أخرى يحملها واقع المرأة في العملية الانتخابية والبرلمان. تمثيل يحتل المرتبة 150 عالمياً و15 عربياً. والأصح إنها الدرجة شبه الصفر لأن معاركنا الانتخابية لم تعرف – باستثناءات نادرة - إلا امرأة انتظرت كي يموت أبوها أو زوجها أو أخوها، كي تتقدّم، باسمه، لملء مقعده، بانتظار أن يكبر وريثه. وبالتالي تظل كائناً قائماً بغيره لا بذاته. كما نساء حريم السلطان.

ولا تغرّن الأزياء والأكسسوارات فقد كانت حريم السلطان بارعات فيها أيضاً. أما الوجوه الجديدة المختلفة التي برزت في المعركة الحالية، فمنها تلك التي تقول للإعلام إنها قرّرت "أن تغطس في السياسة" بعدما وجدت أن مقدمات حلقات برنامجها التلفزيوني لم تؤدِ إلى التغيير. مصيبة أن غولدا مئير وتسيفي ليفني لم تكتبا مقدّمات برامج تلفزيونية تشكل فلسفتهما السياسية!!


نعم هناك جمهور آخر، مسكون بغايات سياسية وطنية وقومية حقيقية. صحيح، ولكن كل الجمهور بات مسكوناً بموقع طائفته على خريطة المواقع وإلا فوجوده كله مهدّد. ومَن يتمرّد على هذه المعادلة يجد نفسه إما مهمّشاً وإما مُجبراً على الالتحاق الصاغِر بالتركيبة.


صحيح أن هناك مَن سجّل في رصيد الانتخابات دماً وناراً وحماية للوطن من الإرهاب، ولكن منطق المُحاصصات يساوي بين مَن قاوم إسرائيل والإرهاب ومَن قاوم سوريا بل ومَن تعامل مع إسرائيل، ولنسمِ الأشياء بأسمائها.


في هذا السياق تحضر الإدانة الخرقاء لما يُسمّى بالانقسام العامودي. ولماذا لا يكون هناك انقسام عامودي حول خطين سياسيين، انقسام عابر للطوائف على الأقل؟ هل يضير أميركا الانقسام العامودي بين جمهوريين وديمقراطيين؟ هل يضير بريطانيا الانقسام بن محافظين وعمال، وما بينهما الأحرار والحزب القومي. وفرنسا وإيطاليا ووووو. أم إن الإبداع اللبناني – مرة أخرى – في اختراع أطباق عجيبة من الفتوش يرغم الناخب على ابتلاعها كما هي، هو أكثر ديمقراطية؟
الديمقراطية؟ مَن قال إنها مجرد طباعة صوَر وإلقاء خُطَب وحجز مساحات إعلانية يهلّل لمدخولها إصحاب الفضائيات، ورفع أعلام ملوّنة بكل الألوان؟
الديمقراطية تعني في الأساس الخيار الحر. الخيار الحر في ما يخصّ خطين: خط السياسة الداخلية التي تترجم تصوّراً تفصيلياً لمصالح المواطن والعدالة الاجتماعية: الطفولة، الطبابة، التعليم، الشيخوخة، العمل والبطالة. مقوّمات الحياة من ماء وكهرباء وخدمات ومنتجات الخ .. وخط السياسة الخارجية، سيادة الدولة ومصالحها مع العالم الخارجي، وكرامتها والتصدّي لما يتهدّدها من أخطار حقيقية.


الخيار الحر يبدأ بفتح باب النقاش العام لطرح كل الأفكار والبرامج وهذا ما يبدو أنه يحصل في لبنان بامتياز. لكن الواقع إنها فعالية معطّلة طالما أن المنطق المُعتمد فيها هو منطق طائفي لا برامجي. لأن انتماءك إلى طائفة ليس خيارك في أية حال من الأحوال، بل هو انتماء لهوية جزئية إن تغوّلت قضت على الهوية العامة. والأنكى إنها قضت أيضاً على هويتك الفردية المتمثلة بعقلك وخيارك النقدي الحر.

ما بين الأنا العاقِلة الناقِدة الحرة الخيار والنحن الوطنية الجامِعة لا يجوز أن تتشكل أورام من الهويات الفرعية. لأن تشكلها يُضعف الدولة ومتى ضعفت الدولة فإن المواطن سيبحث عن الحماية لدى كتل الهويات الفرعية، وهذه الكتل نفسها ستبحث عن حمايتها في أبعاد خارجية أخرى، قد تبرّر بمشتركات طائفية أو عرقية، ولكنها في حقيقة الأمر مشتركات سياسية. مشتركات حوّلت معركة لبنان إلى عناوين ثلاثة تسمّ المنطقة والعالم: اقتصادية تؤدي إلى الغاز، قضية العصر، ديموغرافية تتعلق بتوطين اللاجئين السوريين، وقومية تتعلق بصفقة القرن. عناوين جند لأجلها الخطاب المذهبي الطائفي بدلاً من مناقشتها بصراحة مع الناخبين.