كُتّاب الموقع
لماذا غيّرت حرب بوتين عالم التكنولوجيا للأبد؟

ستيفين فيلد ستين

الجمعة 1 نيسان 2022

جعلت مقاطع الفيديو من ساحة المعركة والمقاطع المسربة للطائرات بدون طيار وغيرها من أشكال الاتصالات الرقمية؛ من غزو روسيا لأوكرانيا الحرب الأكثر انتشارًا واتصالًا بالإنترنت على مر التاريخ، مما حول منصة تويتر وتيك توك  وغيرها من منصات الإنترنت إلى مصادر أساسية للأخبار عن الحرب. ولم تكن هذه الطريقة الوحيدة التي تُعتبر فيها هذه اللحظة فاصلة لشركات الإنترنت؛ حيث تجبرهم حرب روسيا في أوكرانيا على مواجهة الحقائق الجيوسياسية التي تمكنوا إلى حد كبير من تجنبها. وفي حين واجهت المنصات الرقمية ضغوطًا من الحكومات في جميع أنحاء العالم منذ فترة طويلة لإزالة المحتوى ومنع النقاد السياسيين وفتح مكاتب محلية يمكن للحكومات السيطرة عليها على نحو أكثر سهولة؛ يعمل الضغط الغربي والقمع الروسي على تعجيل التحول النموذجي لكيفية عمل شركات التكنولوجيا، فلقد نشأت خطوط صدع رئيسية ترتبت عنها عواقب بعيدة المدى فيما يتعلق بكيفية عمل منصات الإنترنت.
 
ويُعد السبب وراء هذا التحول جليًّا؛ ففي العصر الرقمي، ترتبط منصات الإنترنت ارتباطًا وثيقًا بالسُّلطة؛ حيث استخدمت الحكومات منصات تويتر وفيس بوك ويوتيوب وتيك توك  لنشر الدعاية وزرع الانقسام وترهيب منتقديها وتعزيز أجنداتهم السياسية. وبالمثل، تلجأ الحركات المدنية والناشطون إلى نفس المنصات لحشد أتباعها، ومعارضة المستبدين، وتنظيم تحركات جماهيرية ضد الحكومات. وقد أدت جائحة فيروس كورونا؛ التي فرضت الانترنت على جزء كبير من العالم، إلى تسريع مركزية المنصات الرقمية في السياسة والمجتمع؛ حيث تساهم هذه الديناميكيات في جعل الغزو الروسي لأوكرانيا - أول صراع رئيسي بين الدول في حقبة جائحة كوفيد 19 - لحظة مميزة لمنصات الإنترنت.
 
وعلى وجه الخصوص؛ تشير أربعة عوامل إلى أن الحرب في أوكرانيا تعمل بشكل أساسي على تغيير طريقة عمل المنصات؛ فلقد حطمت الحرب أسطورة الحياد، ففي معظم فترات وجودها، جادلت منصات الإنترنت بأنها منصات محايدة لا توزع سوى المعلومات- وأنها ليست مسؤولة عن محتواها. ورغم سنوات عديدة من الضغط على فيس بوك لدوره في نشر المعلومات المضللة وخطاب الكراهية في جميع أنحاء العالم، وتيسير التدخل في الانتخابات من قبل الجهات الفاعلة الحكومية الأجنبية؛ إلا أنه - وبشكل ملحوظ - أعلن الرئيس التنفيذي مارك زوكربيرج في مقابلة سنة 2018،  أن شركته ليست مسؤولة عن حظر منكري الهولوكوست أو أصحاب نظريات المؤامرة من البث على المنصة.
 
ولكن في سنة 2020؛ بدأ فيسبوك في عكس مساره عن طريق إدخال رقابة متواضعة على المحتوى. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، استمرت منصات الإنترنت الرئيسية في مقاومة جهود الحكومات الرامية لتحميلها المسؤولية عن المحتوى، بغض النظر عن مدى دنائتها، بحجة أنهم كموزعي معلومات، لا يمارسون وظائف الناشر، ومن اللافت للنظر أن موقع تويتر لم يبدأ في تصنيف وسائل الإعلام المضللة والدعاية الحكومية في الصين وروسيا على أنها مصادر حكومية قبل سنة 2020.
 
لقد دمرت الحرب في أوكرانيا ما تبقى من حجة الحياد، وتعبيرًا عن الإجماع المتزايد على أن عدم الانحياز إلى جانب في نزاع أوكرانيا شبيه بالعمل كأداة لنظام قمعي، اتخذت شركات التكنولوجيا الكبرى خطوات شاملة للحد من دعاية الكرملين؛ حيث أعلن موقع يوتيوب عن حظر عالمي لوسائل الإعلام الحكومية الروسية وأزال أكثر من 1000 قناة و15000 مقطع فيديو، في حين قام فيس بوك بتقييد النفاذ إلى المنافذ الروسية الرسمية آر تي و سبوتنيك في الاتحاد الأوروبي، وحظر وسائل الإعلام الحكومية الروسية من تشغيل الإعلانات أو تحقيق دخل من المنصة في جميع أنحاء العالم، كما أوقف تويتر الإعلانات في أوكرانيا وروسيا، وقلل من ظهور التغريدات التي نشرتها وسائل الإعلام الروسية التابعة للدولة، ولم يقتصر الأمر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة فحسب؛ بل حذت حذوها شركات التكنولوجيا الأخرى، حيث أوقفت آبل جميع مبيعات المنتجات في روسيا، في الوقت الذي قامت فيه شركة البث الصوتي سبوتيفاي بغلق مكاتبها في البلاد وإزالة كل المحتوى التابع لشبكتي آر تي وسبوتنيك، كما قامت نتفليكس أيضًا بتعليق خدمتها في روسيا.
 
وسيقود هذا القرار - الذي يتعلق بالتخلي عن التظاهر بالحياد - شركات التكنولوجيا إلى حقبة جديدة مربكة، نظرًا لأنها لم تعد تعمل ببساطة كمزود محايد للتكنولوجيا، بل أصبحت تتخذ أحكامًا ذات قيمة صريحة فيما يتعلق بكيفية استخدام الحكومات لمنصاتهم في زمن الحرب، وأنواع الخطاب الذي ينتهك حدود الكراهية والعنف والدعاية، وتتعارض هذه الإجراءات مع سياسات المحتوى السابقة وتشير إلى أن الشركات تسارع إلى إعادة كتابة قواعدها- غالبًا بطريقة مخصصة - استجابةً للأحداث الأخيرة.
 
يزداد الإكراه الحكومي بشكل حاد؛ فالضغط الذي تمارسه الحكومات الاستبدادية على منصات الإنترنت لفرض رقابة على المحتوى - كشرط  في أغلب الأحيان للاستمرار في ممارسة الأعمال التجارية في سوق معينة -؛  وتاريخ المنصات في الإذعان ليس أمرًا جديدًا. فمثلًا، في فيتنام؛ وافق فيس بوك على زيادة رقابته بشكل كبير على المناصب المحلية "المناهضة للدولة" بعد أن قامت السلطات الحكومية بإيقاف تشغيل خوادم الشركة، وفي نيجيريا؛ قامت الحكومة بتعليق تويتر لمدة سبعة أشهر إلى أن وافقت الشركة على فتح مكتب في البلاد والعمل مع الحكومة من أجل وضع "مدونة سلوك"؛ وهو ما يخشى الناشطون أنه قد يعرض حرية التعبير للخطر.
 
وفي الفترة التي سبقت الحرب، بدا أن الإكراه الروسي يتسارع؛ فوفقًا لـ"واشنطن بوست"، فقد وصل عملاء روس في أيلول/ سبتمبر 2021 إلى منزل الرئيس التنفيذي لشركة جوجل في موسكو لتوصيل إنذار مخيف مفاده "ألغ التطبيق الذي أثار حفيظة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في غضون 24 ساعة أو ستُنقل إلى السجن"، وفي أعقاب قرارات فيس بوك بحظر منافذ الدعاية الروسية مع السماح للمستخدمين في أوكرانيا بالدعوة إلى قتل الجنود الروس في الحرب، وصفت محكمة روسية الشركة الأم "ميتا" بأنها "متطرفة" وقامت بحظر فيس بوك وإنستجرام في البلاد. ولم تكن روسيا الدولة الوحيدة التي تصعد إجراءاتها القسرية ضد منصات الإنترنت فحسب؛ فقد أذنت الحكومة الهندية بدورها بشن غارات كوماندوز خاصة على مكاتب تويتر انتقامًا لمنصة وصفت أحد أعضاء الحزب الحاكم بأنه "المتلاعب به بواسطة الإعلام"، كما فرضت تركيا قوانين صارمة لإزالة المحتوى وتحديد مكان البيانات التي تفرضها العقوبات جنائية. ولا تعد شركات الإنترنت على استعداد لمواجهة مثل هذه الحقائق القسرية المتزايدة.
 
لكن الصفقات الشيطانية والتسويات المقيتة ليست بمنأى عن الساحة، طبعًا، لأنه لن تقوم جميع شركات التكنولوجيا بسنّ السياسات التي تعارض الحكومات الاستبداديّة، وإنما ستفضّل الشركات مراعاة تلك الحكومات للمحافظة على مصالحها في الوصول إلى الأسواق المربحة. وتساوم الكثير من الشركات على حقوق الإنسان مما يعرّض مستخدمي خدماتهم للخطر. فعلى سبيل المثال؛ حذت شركة تيك توك الصينيّة حذو المنصات الأمريكية في حظر الحملات الدعائية الروسية، كما انصاعت انصياعًا تامًّا لمطالب الكرملين بشأن الرقابة فحذفت 95 بالمئة من محتوى عرضه مستخدمون روس. والنتيجةُ فقدانُ مصدرٍ هام من المعلومات عن الحرب. وفي الهند، علّق تويتر مئات الحسابات المرتبطة بتظاهرات المزارعين ومنع مئات التغريدات الداعمة لهم والتي تعتبرها الحكومة مثيرة للجدل، واعتمدت شركة غوغل سياسات مشابهة في الهند من خلال إطلاع الشرطة على البيانات، مما أدى إلى اعتقال ناشط في شؤون المناخ؛ حيث قام الناشط بتحرير وثيقة غوغل تحوي على مصادر للمتظاهرين.
 
ومن إحدى الإستراتيجيات الناشئة للحكومات القمعية شق الطريق أمام تطبيقات ومنصات بديلة من شأنها أن تؤدي الغرض بشكل أكثر مرونة. ففي الصين؛ ساعد حظر جوجل وفيس بوك عام 2010 في تمهيد الطريق أمام وي تشات (WeChat) لتصبح المنصة الرقمية الرائدة في البلاد. وبذات الوقت، يعمل تطبيق وي تشات كأداة قوية للمراقبة والرقابة تخدم الدولة الصينية، وتستخدمها وكالات الأمن القومي فيها لمراقبة الخطاب العام والخاص وتصفية مليارات الرسائل بناء على الكلمات المفتاحيّة. وفي روسيا، يقيد محرك البحث المحلي ياندكس الخدمات الإخبارية لتقتصر على 15 وسيلة إعلامية معتمدة من الكرملين. وفي الهند، كانت الحكومة تروّج بنشاط لمنصة الاتصالات كو(Koo) كبديل لتويتر بسبب استيائها من سياسات محتوى تويتر. ومن المؤسف أن الكثير من الشركات - المنصّات الأمريكية أو المحلية - على استعداد لإجراء صفقات مقيتة مع الأنظمة القمعية من أجل ضمان حصتها من السوق والربح.
 
وتُبرِز الحرب مسؤوليات جديدة للمنصات الإلكترونية؛ حيث يثير الدور البارز للمنصات الإلكترونية في نقل المعلومات حول الصراع الأوكراني في الأذهان السؤال التالي: ما الالتزامات التي تقع على عاتق شركات الإنترنت بموجب قوانين حقوق الإنسان الدولية؟ وهل تنتهك المنشورات المتكررة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تحمل صورًا لأسرى الحرب الروس بروتوكولات اتفاقيات جنيف المناهضة لتعريض السجناء للفضول العام؟ وهل يساعد إغلاق الإنترنت أو الرقابة الذاتية للمنصات على ارتكاب جرائم حرب من خلال حرمان المدنيين من معلومات التدابير الإنسانية المنقذة للحياة أو الضربات الصاروخية الوشيكة ويحرّض عليها؟ لا تزال هذه المعايير حديثة العهد، إلا أن دور المنصات الرقمية الواسع في حرب روسيا قد سلّط الضوء على هذه القضايا التي لن تختفي بعد الآن على الأغلب.
 
ظلّت شركات التكنولوجيا لسنوات عديدة تتفادى الخيارات الصعبة بشأن مكان عملها وكيفية تعاملها مع الحكومات القمعيّة، بل سعت إلى الجمع بين الأمرين؛ الرضوخ لمطالب الرقابة والموافقة على صفقات مبهمة مع الحكومات الاستبدادية وإخبار الجماهير الغربية بأنها تدافع - كما يُفترض بها - عن حرية التعبير عن الرأي في جميع أنحاء العالم. إلا أن هذا النهج في النفاق لم يكن ليجدي نفعًا إلا إذا غاب وعي الكثير من الناس؛ حيث جاءت الحرب في أوكرانيا، وحملات القمع الشرسة التي تشنها روسيا على المعارضة، والضغوط المتزايدة في الغرب على الشركات للحد من أنشطتها في البلدان الاستبدادية، لتكشف حقيقة مواقف شركات التكنولوجيا المتذبذبة.
 
لا تواجه منصات التكنولوجيا ضغوطًا متزايدة فقط لأجل وضع سياسات متوافقة بشأن التعامل مع المعلومات في زمن الحرب، وإنّما لإيجاد طريقة للإبحار في بيئة عالمية محفوفة بالمخاطر المتزايدة؛ حيث زاد تصميم مختلف الحكومات على تأكيد وجهات نظرها ومصالحها، فتسعى الدول الغربية إلى سن قواعد جديدة تحدُّ من عمل منصات التكنولوجيا لإحقاق التوازن بين حرية التعبير ومكافحة المعلومات المضللة والدعاية، ويتعين على الشركات مواجهة  ضغوط المستثمرين لتبرير التخلي عن مصادر الإيرادات من خلال الخروج من الأسواق الصعبة، ويمكن لهذا الضغط أن يؤدي إلى نتيجة عكسيّة إذا ما ضغط المستثمرون من أجل سحب الاستثمارات لأسباب تتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، بينما تواصل الأنظمة الاستبدادية فرض تأثيرها على شركات التكنولوجيا، مما يهدد بإبعادها عن أسواقها أو تفضيل البدائل المحلية التي يمكن السيطرة عليها بفعالية أكبر، وتنذرنا جميع هذه العوامل بوضع متقلب لا يمكن التنبؤ به خلال السنوات القادمة.
 
لطالما كانت فكرة أن شركات التكنولوجيا شركات غير سياسية تقدم خدمات في التواصل، فكرةٌ يشوبها الشك، لكن الحرب الأوكرانية كشفت حقيقة حيادها المزعوم. أما بالنسبة لشركات التكنولوجيا الرائدة، فسيكون المستقبل غير واضح المعالم بدءًا من الآن.
 
 
 
المصدر: نون بوست