كُتّاب الموقع
أوكرانيا.. حرب سقوط الأوهام الاستراتيجية

بشير البكر

الثلاثاء 29 آذار 2022

أوهام كثيرة تسقط ومخاوف وأزمات تكبر، وحالة من القلق باتت معلنة أمام تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يلوّح باستخدام أسلحة محرّمة، كيماوية وبيولوجية وحتى نووية. يريد سيد الكرملين أن يركع العالم عند قدميه، بعدما صدّق الغرب، ووقع ضحية السياسات المفرطة في التفاؤل، التي روجها ساسة غربيون، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأن روسيا لا تشكل تهديداً لأوروبا، وأنها ليس مصدر قلق خطير للأمن القومي للولايات المتحدة، رغم ترسانتها النووية وقدراتها التقليدية والإلكترونية، وأن الخطر يأتي فقط من الجنوب من طريق "داعش" وأخواتها، وخاضوا الحرب ضد الإرهاب باتباع استراتيجية تدمير أجزاء من البلدان العربية في سوريا والعراق، وتحويل مدن مثل الموصل والرقة إلى ركام تركوه على حاله، ولم يكترثوا حتى بإعادة إعمارها وعودة أهلها المشردين في مخيمات بائسة، كما هو الحال في مخيم الهول في ضواحي مدينة الحسكة السورية.
 
ومن بين الأوهام التي عاش عليها العالم هي، إن الولايات المتحدة باتت القوة الكونية الوحيدة، وقد ولّى عصر الثنائية القطبية بسقوط الاتحاد السوفياتي العام 1991، وهناك "انتهى التاريخ" على حد وصف فوكوياما، وعلى أميركا أن تبحث عن أعداء جدد في الإسلام الأصولي. والغريب أن واشنطن لم تحسب حساب أقطاب آخرين مثل روسيا والصين وأوروبا في وسعهم تعطيل خططها، إن لم يكن في استطاعتهم مجاراتها ومنافستها على النفوذ الاقتصادي والسياسي. التاريخ لم ينته، بل دخل مرحلة جديدة وخطيرة، حيث سيكون مستقبل النظام الحالي في الكرملين على المحك أيضًا.
 
الولايات المتحدة اصطدمت بروسيا، وهي في طريقها إلى فتح مواجهة استراتيجية طويلة الأجل مع الصين، بعدما انسحبت على نحو عشوائي مهين من أفغانستان ولم تجد من يقلل من فضحيتها إلا قطر وفرنسا من خلال تنظيم عمليات إجلاء للأفغان الذين خدموا أميركا طيلة عقدين، وتركتهم على الأرض عُزّل بمواجهة أكثر من عدو، وما يدعو للاستغراب هو أن واشطن في لحظة المواجهة مع موسكو بلا حلفاء أساسيين في أوروبا والشرق الأوسط. ولو استعرضنا اللائحة، فلن نجد سوى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي يصح فيه القول "من كان لديه أصدقاء من هذه الشاكلة لا يحتاج إلى أعداء". كان آخر خلاف ذي طبيعة فضائحية مع الحليف الفرنسي في الخريف الماضي، حينما تفجرت صفقة الغواصات النووية التي أبرمتها واشنطن من وراء ظهر باريس مع استراليا، التي ألغت بموجبها عقداً لشراء غواصات فرنسية بأكثر من 50 مليار دولار كانت أبرمته مع فرنسا. وقبل ذلك صعّدت الولايات المتحدة الخلافات مع حلفائها القدامى في الشرق الأوسط، وعلى نحو خاص السعودية وتركيا، وهذا ما يفسر عدم مساهمتهما في العقوبات الأميركية ضد روسيا. حتى إسرائيل تمردت على حليفها التاريخي، ولم تعارض الغزو الروسي، بل طلبت من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يعلن استسلام بلاده، ويقبل أن تعيش بلا سيادة، وهو موقف جدير بالاهتمام في المديين القريب والبعيد، وهذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها افتراق مواقف تجاه مسألة دولية خطيرة، وعلى هذا القدر من الوضوح بين واشنطن وتل أبيب.
 
يواجهون حرب روسيا على أوكرانيا، وهم لم يستعدوا لها اقتصادياً وعسكرياً. وكشف الهجوم الروسي ضحالة وسائل التنبؤ الغربية، من أجهزة مخابرات ووسائل استطلاع وتقدير موقف ومراكز أبحاث. كل هؤلاء لم يتمكنوا من استشراف الموقف الروسي، رغم أن بوتين بنى الغزو الحالي على أساس هجوم القرم العام 2014. ولم يوفر فرصة منذ ذلك الحين لتأكيد نواياه في اقتطاع أجزاء جديدة من أوكرانيا، ولذلك اخترع الجمهوريتين الإنفصاليتين في لوغانسك ودونتيسك. وبعيداً من تهور بوتين، فإن سوء تقدير وضع روسيا قاد إلى تصعيد التوترات التي زادت من خطر الصراع العسكري. وبمعنى آخر إن الإدارة الفعالة للأزمات وخفض التصعيد وتقليل المخاطر ومنع الصراع، والتي يجب أن تكون من بين الأهداف الرئيسية لسياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا، كانت تتطلب فهماً عميقاً لمصادر السلوك الروسي والعوامل التي تشكله. ويمكن أن تلعب هذه الاعتبارات دوراً أهم بكثير في تحديد نتيجة الأزمات من مجرد حساب المعدات العسكرية التي تمتلكها روسيا. وبعبارة أخرى، فإن فهم وجهة نظر موسكو، وكيفية تحديدها للمصالح الحيوية الروسية، لا يقل أهمية عن حساب التوازن العسكري بدقة. وحتى لا يفسر أحد الكلام هنا على نحو خاطئ، أود التأكيد على إن فهم منظور الطرف الآخر يختلف عن قبوله. إن سوء قراءة الولايات المتحدة للتهديد السوفياتي / الروسي له تاريخ طويل يعود إلى بداية الحرب الباردة. تاريخ تلك المواجهة حافل بالحوادث عندما اقتربت القوتان العُظميان من حافة الهاوية.
 
ولا شك أن سكان الشرق الأوسط في سورية والعراق ولبنان وفلسطين، وبقية بلدان المنطقة مثل اليمن وليبيا وحتى أفغانستان، ينظرون إلى حرب أوكرانيا نظرة مختلفة عن بقية العالم. هذه الشعوب دفعت فواتير عالية جراء حروب التهجير والتدمير من دون أن يكون لها يد في كل ما حصل في العالم، بل واجهت الاحتلال والاستيطان في فلسطين والقمع على أيدي سلطات محلية كانت تستمد شرعيتها من اعتراف الخارج بها، سواء أميركا أو روسيا وأوروبا.
 
أوروبا تعيش حالة قلق اليوم. من المبكر القول إن شعوب القارة العجوز يشعرون بأنه جاء دورهم لتسديد جزء من الفاتورة، لكن هناك إحساساً عاماً بأن الحرب باتت قريبة من كل أوروبي، بعدما اختفى شبحها منذ خمسينيات القرن الماضي. والذي لن تبلغ داره شظايا الصواريخ الروسية، ستصله قوافل اللاجئين الأوكرانيين الذين يتدفقون بقوة إلى أوروبا. وكلما طال أمد الحرب زاد الدمار في العمران والبنى التحتية، وحتى لو خسر بوتين الحرب وعاد جيشه من حيث جاء، فإنه سيترك خلفه بلداً مدمراً، تتحمل الولايات المتحدة وأوروبا إعادة تأهيله.
 
 
المصدر: المدن