كُتّاب الموقع
شدوا الأحزمة.. بدأنا رحلة الإقلاع إلى عالم ميتافيرس

علي قاسم

الجمعة 17 كانون لأول 2021

الآثار المترتبة على الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التي غيرت العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ستبدو متواضعة مقارنة مع ما يمكن توقعه من آثار ستترتب على العالم الافتراضي الذي بات حقيقة واقعة.
 
خلال شهر أكتوبر الماضي أعلن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي عن تغيير اسمه ليصبح “ميتا”، ويأتي الاسم الجديد بعد أيام فقط من فضيحة كشفت فيها فرانسيس هوغن، المسؤولة السابقة في فريق النزاهة المدنية بالموقع، عن “ارتكاب فيسبوك عددا من المخالفات، من بينها تأجيج العنف العرقي”.
 
واختارت الشركة الاسم الجديد ليتماشى مع سياستها الرامية إلى إنشاء عالم افتراضي قائم على التقنية ثلاثية الأبعاد ويعرف باسم “ميتافيرس”؛ وهي كلمة تجمع بين “ميتا” و”يونيفيرس” الإنجليزيتين، وتترجم إلى العالم الفوقي.
 
منصة مفتوحة
 
ميتافيرس كما يعرّفها ساي كريشنا، المؤسس المشارك لشركة سكابك الهندية للواقع المعزز، “تطور ثوري للإنترنت حيث ستكون لدينا مساحات ثلاثية الأبعاد وبيئات افتراضية واتصالات متطورة، إلى جانب نقلة نوعية في التجارة والترفيه”. إنه كما يؤكد “الخطوة المنطقية التالية لما بعد مرحلة الهواتف الذكية وشبكة الإنترنت التقليدية التي نعرفها الآن”.
 
ولنُقدّمْ الفكرة بطريقة أبسط؛ نحن اليوم نعيش خارج الإنترنت، أي من خلال الشاشات أمامنا سواء كانت شاشة كومبيوتر أو هاتف ذكي أو تلفزيون. مع ميتافيرس سنعيش داخل الشاشات.
 
وارتفع الاهتمام بميتافيرس بعد قرار فيسبوك جعل هذه الفكرة مشروعها الجديد، وذهبت إلى أبعد من ذلك بإطلاق تسمية “ميتا” على شركتها الأم.
 
ولاحظت المستشارة التكنولوجية للشركات التي ترغب في دخول ميتافيرس كاثي هاكل أن نقطة التحول الاستراتيجية “أتاحت للملايين من الأشخاص اكتشاف المصطلح بشكل أسرع بكثير” مما كانت تتوقع.
 
وكان مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، قد قدم عرضا لما يريد القيام به داخل ميتافيرس عندما أعلن عن إعادة تسمية الشركة باسم “ميتا”. السبق لا يعني بأي حال من الأحوال أن زوكربيرغ يريد امتلاك ميتافيرس، لأنه بكل بساطة لا يستطيع فعل ذلك.
 
“لا أحد يمتلك ميتافيرس… إنه منصة مفتوحة”، كما يؤكد ساي. إنه عالم رقمي يتم فيه دمج العالمين الحقيقي والافتراضي. قريبا سيكون بإمكانك ليس فقط التحدث مع أصدقاء تفصلك عنهم آلاف الكيلومترات، بل أيضا مقابلتهم ومشاركتهم فنجان قهوة في مقهى افتراضي عبر الآفاتار الخاص بك. ولِمَ لا، ربما نزهة على شواطئ بحر الكاريبي، أو جولة لاكتشاف روائع الآثار الفرعونية، ليس فقط من الخارج، بل الولوج إلى داخل الأهرامات والمعابد واستكشاف أدق التفاصيل وأصغرها.
 
وعلى عكس الإنترنت الحالية المتهمة بزيادة العزلة بين البشر، يُتوقع أن تتيح تقنية ميتافيرس زيادة التفاعلات البشرية من خلال تحريرها من القيود المادية بفضل تقنيتي الواقع الافتراضي والواقع المعزز.
 
يقول أنوباما مالك، المدير العام لشركة فيزارا تكنولوجي، وهي شركة متخصصة في تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، “إن وسائل التواصل الاجتماعي الحالية رائعة. ولكن ما يميز شركة ميتا هو قدرتها على امتلاك البيانات، والتواصل في البيئة ثلاثية الأبعاد هو الخطوة التالية، وهو (زوكربيرغ) يعلم أن البيئة ثلاثية الأبعاد ستكون الشيء الكبير التالي”.
 
نقلة طموحة مثل هذه ستحتاج إلى استثمار ليس فقط مبالغ طائلة، بل مواهب وموارد أيضا. ولدى شركة ميتا الكثير منها. في الواقع أعلنت الشركة عن توظيف 10 آلاف شخص في الاتحاد الأوروبي للقيام بهذه المهمة الكبيرة، وستكون نظارات “أوكلوس” (Oculus) -الشركة الرائدة في أجهزة الواقع الافتراضي التي تمتلكها شركة ميتا- بوابة عالم ميتافيرس.
 
سيكون بوسع المستخدمين التجول في مساحات ثلاثية الأبعاد والقيام بكل ما يريدون. وهذا ليس مستقبل وسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل مستقبل شبكة الإنترنت كلها.
 
غنيمة مثل هذه لن تتركها الشركات العملاقة لزوكربيرغ يحصد أرباحها ونجاحاتها منفردا. وإذا كانت فيسبوك تسعى لتطوير ميتافيرس خاص بها فإن مايكروسوفت -التي كانت أول شركة تكسر حاجز 3 تريليونات دولار في أسواق المال- تخطط لجعل منصتها “ميش” (mesh)  رابطا يجمع البيئات الافتراضية معا. وقالت الشركة العملاقة إنها تخطط لإحضار “ميش” إلى منصة تعاون مشتركة تسمى “تيمز” (Teams)، وهي منصة تضم 250 مليون مستخدم في جميع أنحاء العالم.
 
وتتيح “ميش فور تيمز” الانضمام إلى بيئات افتراضية تستخدم الهيلوغرام (التصوير المجسم) مع الأدوات الإنتاجية الخاصة بـ”تيمز”، حيث يمكن الانضمام إلى الاجتماعات الافتراضية وإرسال الدردشات والعمل وتبادل الملفات.
 
وستسمح مايكروسوفت للشركات المسجلة ببناء ميتافيرس خاص بكل منها، بعد أن تزودها بمجموعة من عناصر وأدوات التحكم اللازمة، في عملية تشبه بناء ونشر تطبيق خاص بالهواتف الذكية في متجر أبل.
 
استثمارات سخية
 
عناصر ميتافيرس موجودة بالفعل حتى قبل أن يتحدث عنها زوكربيرغ، من السينما ثلاثية الأبعاد ونظارات الواقع الافتراضي أكولوس إلى منصات الألعاب الإلكترونية، وصولا إلى العملات المشفرة. ولكن السباق بين فيسبوك -باسمها الجديد ميتا- ومايكروسوفت سيغني كثيرا الواقعين الافتراضي والمعزز، وسيساهم في انتشارهما بشكل غير مسبوق. ويتوقع المتابعون لاتجاهات التسوق أن يسارع الأشخاص العاديون إلى تبني هذه التقنية في حياتهم اليومية في المستقبل القريب، مثلما حدث مع تبني الهاتف الذكي.
 
ويقول ساي “البيئة الغامرة ثلاثية الأبعاد تعني تجربة تواصل أغنى بكثير، ولهذا ستنتشر بسرعة فائقة في المستقبل”. ولهذا السبب تسارع شركات التكنولوجيا الكبرى إلى الاستثمار بسخاء في تقنيات الواقعيْن الافتراضي والمعزز، فالمستقبل لهذه التقنيات بالتأكيد.
 
ويتوقع ساي أن تشهد السنوات الخمس المقبلة “سباقا محموما بين شركات التكنولوجيا هدفه إنتاج أجهزة جديدة للوجه تختلف تماما عن الهواتف الذكية، وسيتعايش الواقعان الافتراضي والمعزز معا ليكمل كل منهما الآخر”. ولكن، إلى أي مدى يمكن الوثوق بالعالم الافتراضي؟
 
متابعة سلوك المستخدمين على الإنترنت قد تقدم الإجابة عن هذا التساؤل؛ مؤخرا ارتفعت نسبة الإنفاق على المقتنيات الرقمية الثمينة، وأنفق مستخدمو الإنترنت عشرات الآلاف من الدولارات، وأحيانا الملايين من الدولارات لاقتناء سلع رقمية افتراضية. وبرزت بشكل خاص سوق السلع الفنية. إنها سوق تثير من الحماسة أكثر مما تثيره من الشك.
 
وتوقع رئيس شركة “توكنز.كوم” أندرو كيغيل أن تصبح الملكية الرقمية سائدة في السنوات المقبلة بفضل تقنية سلسلة الكتل (بلوك تشين) للتعاملات الرقمية، والتي تضمن أمان المعاملات وشفافيتها.
 
وقال “أستطيع أن أرى تاريخ الملاك، وتكلفة السلعة المعروضة وكيفية انتقالها من شخص إلى آخر”، مشيراً إلى مهرجان موسيقي حديث اجتذب 50 ألف زائر عبر ديسنترالاند.
 
وقد بدأت العلامات التجارية الفاخرة منذ الآن تدخل عالم ميتافيرس، إذ بيعت حقيبة يد من ماركة غوتشي على منصة روبلوكس بأكثر من سعر نسختها المادية. ويأمل كيغيل أن يصبح حي فاشن ستريت معادلاً لـشارع فيفث أفينيو في نيويورك.
 
أما كيفية تحقيق الدخل فيمكن أن تكون “أمراً بسيطاً، مثل امتلاك لوحة إعلانية، أو امتلاك متجر مع موظف حقيقي”. ويمكن للزبون دخول المتجر بواسطة صورته الرمزية (أفاتار)، وإلقاء نظرة على نماذج ثلاثية الأبعاد لحذاء يمكنه حمله بيديه، ويستطيع أن يطرح الأسئلة على البائع.
 
عقارات رقمية
 
أسواق العالم الافتراضي لا تعرف حدودا، فمؤخرا بيع أول عمل فني افتراضي برمز غير قابل للاستبدال في دار كريستي للمزادات مقابل مبلغ فاق 69 مليون دولار. ووضع هذا الرقم المُحطم للأرقام القياسية مايك وينكلمان الذي يُعرف باسم بيبل على مقربة من أغلى فنانيْن لا يزالان على قيد الحياة؛ ديفيد هوكني وجيف كونز.
 
ويتكون عمل وينكلمان، الذي استغرق صنعه 13 عاماً، من 5 آلاف صورة. وبدأ السعر من 100 دولار فقط، إلا أن المزاد البارز جذب مزايدة محمومة من أكثر من 350 من المشترين المحتملين.
 
وقال وينكلمان بعد عملية البيع “استخدم الفنانون الأجهزة والبرامج لإنشاء أعمال فنية وتوزيعها عبر الإنترنت على مدى الأعوام العشرين الماضية، ولكن لم تكن هناك طريقة حقيقية لامتلاكها وجمعها حقاً”، ثم تابع “بواسطة الرموز غير القابلة للاستبدال تغير ذلك الآن”.
 
وكأن الأمر لا يبدو جنونيا بما فيه الكفاية، لتعلن دولة باربادوس الكاريبية الصغيرة أنها تعتزم إنشاء سفارة في ميتافيرس. وكان المستثمرون قد بدأوا مؤخرا بإنفاق الملايين من الدولارات لاقتناء أراض افتراضية والتعويل على قطاع العقارات الرقمية.
 
وأعلنت شركة “ريبابليك ريلم” في نيويورك الأسبوع الماضي عن إنفاقها مبلغاً قدره 4.3 مليون دولار لشراء أرض عبر “ذي ساندبوكس”، وهي منصة تتيح دخول عالم افتراضي يمكن للمشاركين فيه الدردشة واللعب وحتى المشاركة في الحفلات الموسيقية.
 
وعلى الموقع المنافس “ديسترالاند” أنفقت الشركة الكندية “توكنز.كوم” المتخصصة في العملات المشفرة 2.4 مليون دولار في نوفمبر على شراء عقار. وتعتزم المنصة التي استحوذت على قطعة أرض مهمة في حي فاشن ستريت تحويلها إلى وجهة للمتاجر الافتراضية الفاخرة. وكانت مطوّرة عقارية أثارت الاهتمام عام 2006 عندما باعت أرضاً في مقابل مليون دولار في العالم الافتراضي لـ”سكند لايف”.
 
وأظهرت قاعدة بيانات العملات المشفرة “داب” أن أكثر من 100 مليون دولار أنفقت خلال أسبوع على مشتريات العقارات عبر مواقع ميتافيرس الرئيسية الأربعة وهي “ذي ساندبوكس” و”ديسنترالاند” و”كريبتو فوكسلز” و”سومنيوم سبايس”.
 
هذه المواقع تحتاج إلى بعض الوقت لتصبح ميتافيرس حقيقية تتيح للمستخدمين استكشاف عوالم موازية من خلال خوذ الواقع الافتراضي، لكنّ العقارات الرقمية تشكّل منذ الآن أصولاً مالية، مثل العقارات الحقيقية نفسها؛ يمكن البناء عليها أو تأجيرها أو بيعها.
 
ورأى كيغيل، الذي عمل لمدة 20 عاماً كمصرفي متخصص بالاستثمار في قطاع العقارات، أن الأراضي الافتراضية تشكّل فرصة مشابهة لسلع العالم الحقيقي؛ فهي تقع في حي عصري ومزدحم.
 
الآثار التي ترتبت على الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي ستبدو متواضعة مقارنة بما يمكن توقعه من آثار ستترتب على العالم الافتراضي الذي بدأت البشرية ولوجه.
 
شدوا الأحزمة، الإقلاع بدأ، نحن في طريقنا إلى ميتافيرس.
 
 
المصدر: العرب اللندنية