كُتّاب الموقع
موسكو ومرحلة جديدة من "عسكرة الفضاء"

محمد منصور

الثلاثاء 14 كانون لأول 2021

لم تكن مساعي القوى الغربية الكبرى في نقل معادلات الردع وسباقات التسلح إلى الفضاء الخارجي وليدة السنوات الأخيرة، بل يمكن اعتبار هذه المساعي كأحد أهم موروثات حقبة الحرب الباردة التي دارت رحاها لسنوات، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. ساحة الصراع هذه شهدت الشهر الماضي نقلة نوعية، عبر تجربة فريدة وناجحة قامت بها روسيا ضد أحد الأقمار الاصطناعية السوفياتية القديمة.
 
هذه التجربة أحدثت صدمة لدى الأوساط الغربية، ليس فقط لأنها كانت مفاجئة وناجحة، بل أيضاً لأن تفاصيل هذه التجربة تؤشر على تقدم كبير من جانب موسكو في هذا المضمار، يعيد إلى الأذهان المحاولات السوفياتية الحثيثة لإنتاج أسلحة مختلفة مخصّصة للحروب الفضائية. المخاوف الغربية من التوجهات الروسية نحو التطبيقات العسكرية للفضاء، بدأت فعلياً في آب/أغسطس 2009، حين بدأت الولايات المتحدة الأميركية برصد تجارب وعمليات إطلاق، تستهدف إعادة تفعيل جميع المشاريع العسكرية الخاصة بالبرنامج العسكري الفضائي السوفياتي، والتي كانت معلّقة بشكل كامل منذ ثمانينيات القرن الماضي، علماً بأن هذا البرنامج يعتبر من أهم البرامج العسكرية السوفياتية، منذ إقرار الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، أواخر ستينيات القرن الماضي، بدء البرنامج السوفياتي الصاروخي المضاد للأقمار الاصطناعية، وتنفيذ أول تجربة صاروخية في هذا الصدد عام 1963، باستخدام الصاروخ الباليستي السوفياتي الأول (R-7)، لاعتراض قمر اصطناعي في الفضاء الخارجي.
 
صاروخ "نودول" الروسي والقلق الأميركي 
 
 
اللافت هنا أن هذه التجارب كانت تتم وفق نمط ينمّ عن رغبة روسية في امتلاك أنواع متعددة من المنظومات القتالية التي يمكن استخدامها في الفضاء، سواء لتنفيذ مهام اعتراضية ودفاعية، أم لتنفيذ مهامّ هجومية لاستهداف مركبات فضائية أو أقمار اصطناعية معادية. 
 
السلاح الأهم في هذا الإطار كان الصاروخ الباليستي العابر للقارات "نودول"، الذي يعتبر أساس المنظومات الروسية القتالية الجديدة الموجّهة نحو الفضاء، وقد نفّذت موسكو نحو سبع تجارب على إطلاقه، أولاها كان في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، تبعتها تجارب أخرى منذ عام 2017، إحداها كانت تجربة إطلاق تمت في حزيران/يونيو 2019، اعترض فيها الصاروخ الروسي هدفاً في الطبقات العليا للغلاف الجوي.
 
التجربة الأخيرة لهذا الصاروخ كانت في نيسان/أبريل 2020، وحينها أعربت الولايات المتحدة الأميركية بوضوح عن قلقها من هذه التجارب، وخاصة أن اقتناع المخطط العسكري الأميركي بات راسخاً بأن هذا الصاروخ مخصص بشكل كامل للعمل في الفضاء الخارجي، كصاروخ مضاد للأقمار الاصطناعية، ولا سيّما أن هذه التجارب أوضحت أن صواريخ "نودول" لها ثلاث نسخ، إحداها يمكن أن تستهدف أجساماً جوية على ارتفاعات تصل إلى 1500 كيلومتر، مع وجود احتمال لتزويد هذه الصواريخ برؤوس نووية أو أخرى حاملة لمركبات انزلاقية هجومية، وهو ما يجعل مدى التدمير القتالي لهذه الصواريخ أكبر من المدى المذكور.
 
المخاوف الأميركية من التوجهات الروسية في هذا الصدد تعاظمت في العام نفسه، وتحديداً في شهر تموز/يوليو، حين لاحظ المحللون العسكريون في الولايات المتحدة الأميركية، تحركات غير مألوفة للقمر الاصطناعيّ العسكريّ الروسيّ "كوزموس-2542"، الذي اقترب بشكل حثيث من القمر الاصطناعيّ العسكريّ الأميركيّ "يو أس أيه-245"، وأطلق جسماً جوياً لم تُعرف حينها ماهيّته، واتضح بعد ذلك أن هذا الجسم كان قمراً اصطناعياً أصغر يُسمّى "كوزموس-2543"، والذي أطلق بدوره مقذوفاً متوسط السرعة نحو الفضاء. 
 
هذه التجربة مثّلت نقلة نوعية في التوجهات الروسية نحو عسكرة الفضاء، رغم أن موسكو نفت حينها أن تكون هذه التجربة عسكرية، وقالت إنها كانت تجربة حول آلية لفحص الأقمار الاصطناعية عبر إطلاق أقمار اصطناعية أصغر تقوم بفحص التجهيزات الفنية وأبدان الأقمار الاصطناعية الأكبر.
 
واشنطن من جانبها اعتبرت هذه التجربة محاولة روسية أخرى لاختبار أسلحة مخصصة للفضاء، ورأت أن الخطوة الروسية تسهم في توسيع نطاق القدرات التي يمكن استخدامها في الفضاء، لتشمل مواجهات مباشرة في الطبقات العليا للفضاء، تكون الأقمار الاصطناعية فيها أدوات قتالية، بعد أن كانت التطبيقات العسكرية الفضائية تتركز بشكل أساسي على عمليات اعتراض الأقمار الاصطناعية، عن طريق صواريخ بعيدة المدى، يتم إطلاقها من سطح الأرض.
 
تجربة روسية جديدة في مجال التقنيات العسكرية الفضائية
 
 
بالعودة إلى تطورات العام الحالي، سنجد أن موسكو مهّدت لتجربة الشهر الماضي عبر إقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في حزيران/يونيو الماضي، وثيقة استراتيجية خاصة باستخدام التطبيقات العسكرية في الفضاء الخارجي، تضمّنت تصنيفات خاصة بتطوير ونشر أسلحة مضادة للصواريخ وأسلحة هجومية في الفضاء، لمواجهة التهديدات العدائية من جانب الدول الأخرى، وبهذا بات الفضاء الخارجي ضمن الرؤية الروسية لمصادر التهديدات العسكرية المحتملة للبلاد.
 
تجربة الشهر الماضي يمكن أن نعتبرها نقلة نوعية أخرى في مجال عسكرة الفضاء، أكدت فيها روسيا المخاوف الأميركية من صاروخ "نودول"، حيث استخدمت موسكو هذا الصاروخ لتدمير قمر اصطناعيّ سوفياتيّ قديم، يسمى "كوزموس-1408"، وهو قمر من نوع "تسيلينا-دي" مخصص للاستطلاع العسكري، وهي فئة من الأقمار الاصطناعية المصمّمة في أوكرانيا، تم إطلاق ما مجموعه 69 قمراً منها في الفترة بين عامي 1970 و1994، وكانت مخصّصة للاستطلاع والمراقبة والتنصّت، حيث تقوم بإرسال البيانات التي تقوم بتسجيلها إلى المحطات الأرضية في الاتحاد السوفياتي أثناء مرورها فوق أراضيه.
 
القمر الاصطناعيّ "كوزموس-1408" تم إطلاقه في أيلول/ سبتمبر 1984، وقد تم تدميره بنجاح خلال هذه التجربة، على ارتفاع يبلغ 485 كيلومتراً عن سطح الأرض، وهو ما مثّل تأكيداً واضحاً ورسمياً للقدرات الخاصة بهذا الصاروخ في مجال استهداف الأجسام المحلّقة في الفضاء الخارجي، وخاصة أن وزارة الدفاع الروسية تحدثت في بيان رسمي عن تفاصيل هذه التجربة، وهو أمر لافت لم يسبق حدوثه في ما يتعلّق بالتجارب الخاصة بالأسلحة المخصصة للفضاء.
 
إحياء المشروعات السوفياتية القديمة
 
 
اللافت هنا أيضاً أنه في أواخر الشهر نفسه، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إطلاق صاروخ فضائي من نوع "سويوز" إلى الفضاء الخارجي، حاملاً "مركبة عسكرية". ورغم عدم توافر معلومات كافية عن هذه التجربة، إلا أنها أعادت إلى الأذهان محاولات سوفياتية في هذا الإطار، أطلقها الزعيم السوفياتي ليونيد أندروبوف عام 1983، لمصلحة استخدام تطبيقات عسكرية غير صاروخية لمواجهة الأقمار الاصطناعيّة، مثل المحطة الفضائية القتالية "سكيف"، التي كانت موسكو في طريقها إلى استخدامها كمقاتلة فضائية يجري إطلاقها من المكوك الفضائي "بولايس"، لكن تمّ تجميد هذا المشروع بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
 
التقنيات السالف ذكرها، يمكن أن نضيفها إلى مجموعة أخرى من التقنيات العسكرية السوفياتية الموجّهة إلى الفضاء، عملت موسكو على استئناف البحث في إمكان تطويرها، مثل الأسلحة الليزرية؛ فقد كان للاتحاد السوفياتي مشروع طموح في هذا الصدد، عبر تثبيت قبّة دوّارة تحمل عدسة ليزرية، في مقدمة طائرة شحن عسكرية من نوع "إليوشن-76"، ضمن مشروع سُمّي حينها "أيه-60 بيريف"، وقد استوحت موسكو من هذا المشروع قسماً كبيراً من أبحاثها الحديثة في هذا الصدد، ما أسفر عن إنتاجها منظومة الليزر القتالية "بيريزفت"، التي تشير التقديرات الغربية إلى أنها تستطيع توجيه حزم عالية التردد من أشعة الليزر نحو أهداف جوية، وتعمل موسكو حالياً على تطوير نسخة من هذه المنظومة تستطيع تعطيل أجهزة الاستشعار الخاصة بالأقمار الاصطناعيّة.
 
مشروع الصواريخ الجوية "كونتاكت" السوفياتي، كان أيضاً من ضمن المشروعات التي أعادت موسكو العمل عليها، بعد أن تم تعليق العمل به عام 1991، وهو مشروع مخصّص لإنتاج صواريخ جو - جو مضادة للأقمار الاصطناعيّة، بحيث تكون مقاتلات "ميج-31" منصّة لإطلاقها. وقد لوحظ منذ عام 2018 ظهور متكرّر لصواريخ نوعية مستوحاة من صواريخ "كونتاكت" السوفياتية على متن هذه المقاتلات، وكان آخر ظهور لهذه الصواريخ في أيلول/سبتمبر الماضي.
 
الردود الأميركية على التجارب الروسية
 
 
الولايات المتحدة الأميركية من جانبها، ورغم أنها فعلياً كانت سبّاقة في الدخول إلى معترك التقنيات العسكرية الفضائية، بعد أن بدأت برنامجها التسليحي في هذا الصدد أواخر خمسينيات القرن الماضي، ضمن البرنامج الصاروخي "WS-199A"، الذي تمَّ خلاله إجراء تعديلات على الصاروخ الباليستي "أوريون"، من أجل استهداف الأقمار الاصطناعيّة، تبدو حالياً في مرتبة متأخرة مقارنة بروسيا في هذا المضمار، حيث لم يتم تسجيل تجارب عسكرية لافتة لها في هذا الصدد خلال العقود الأخيرة، باستثناء برنامج "سكاي بولت"، الذي بدأه سلاح الجو الأميركي منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بهدف إطلاق صواريخ "ASM-1359" من على متن مقاتلات "أف -15"، نحو أقمار اصطناعيّة معادية، وقد تمّ تعديل المقاتلات المستخدمة في التجارب، بحيث تمتلك القدرة على تعديل مسار الصواريخ عقب إطلاقها، وقد تمكّن هذا النوع من الصواريخ في إحدى التجارب من إسقاط قمر اصطناعي بنجاح.
 
التجربة الأميركية الأحدث في هذا الصدد كانت في شباط/فبراير 2008، عبر تجربة ناجحة لإطلاق صواريخ "RIM-161"، التي يتم إطلاقها من على متن القطع البحرية، ونجح هذا النوع من الصواريخ في تدمير القمر الاصطناعيّ الأميركي "يو أس أيه-193"، الذي كان قد خرج عن السيطرة عقب إطلاقه في كانون الأول/ديسمبر 2006. جدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأميركية باتت تتخذ من التجارب الفضائية المدنية منصّة لتجربة بعض التقنيات العسكرية، مثلما حدث خلال الرحلة الخامسة لمكوك الفضاء "أكس-37 بي" في أيلول/سبتمبر 2017، حيث تم خلال هذه الرحلة التي دامت نحو 780 يوماً، إطلاق عدة مركبات جوية في مدارات عالية في الفضاء، مع تغيير المدار خلال كل عملية إطلاق.
 
في ما يتعلق بالتجربة الروسية الأخيرة، كان الرد الأميركي عليها خلال الشهر نفسه، بإطلاق مركبة جوية على متن الصاروخ الفضائي "سبيس-إكس"، من قاعدة فاندنبرغ الفضائية، بهدف تجربة الاصطدام بكويكب فضائي بشكل مباشر، بسرعة تصل إلى ستة كيلومترات في الثانية، وهو الكويكب "دايمورفوس"، وهو جرم صغير يبلغ عرضه 160 متراً، ويدور حول كويكب أكبر يُسمّى "ديديموس"، يدور بدوره حول الشمس. ويُتوقع أن يتم الالتقاء بين المركبة والجرم المستهدف منتصف العام المقبل. وعلى الرغم من أن الشكل العام لهذه التجربة هو عملي ومدني بحت، يمكن قطعاً اعتبارها تجربة لها تطبيقات عسكرية عديدة.
 
خلاصة القول إن دخول الفضاء مرحلة "العسكرة" بات أمراً مفروغاً منه، وأصبح الحديث الآن هو عن آليات وأشكال المواجهة العسكرية في هذه الساحة - دفاعياً وهجومياً - والتي باتت تتنوع بين استهداف الأقمار الاصطناعية المعادية بأشكال متعددة، وتحليق الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي، واستخدام الأقمار الاصطناعيّة نفسها كأسلحة هجومية. 
 
انضمت دول أخرى إلى روسيا والولايات المتحدة الأميركية في هذه الساحة، مثل الصين، والهند التي قامت في آذار/مارس 2019 بتجربة ناجحة لإطلاق صاروخ من نوع "Prithvi Mark2"، نجحت من خلاله في تدمير القمر الاصطناعيّ (مايكروسات أر)، ما يجعل من المرجّح أن ينضم المزيد من القوى الدولية إلى هذه الدول، وخاصة أن دولاً مثل فرنسا مثلاً، وضعت الفضاء الخارجي ضمن مجالات اهتماماتها الاستراتيجية على المستوى العسكري، وهو ما يفتح الأبواب على مصاريعها أمام سباق تسلّح جديد، يكون فيه الفضاء الخارجي بمنزلة حقل للتجارب العسكرية، وربما المواجهات المباشرة لاحقاً.
 
 
المصدر: الميادين