كُتّاب الموقع
مفتاح آسيا الوسطى “كازاخستان”.. مكسر عصا بين قوتين عالميتين

سمر رضوان

الخميس 13 كانون الثاني 2022

لطالما كانت آسيا الوسطى مركز ثقل في الصراع العالمي بين أكبر قوتين عالميتين، وأحقية إحداهما على الأخرى فيها كونها تملك اليد الطولى – واحدة بحكم الجغرافيا الممتدة حتى أسوارها حديثاً وقديماً وأخرى بحكم النفوذ السياسي – حيث يتنامى الصراع والتنافس بين كل من روسيا والولايات المتحدة على تلك المنطقة؛ من جهة، تطمح موسكو إلى إعادة نفوذها ومكانتها على المستوى العالمي من البوابة الوسط – آسيوية. ومن جهة أخرى، تعمل واشنطن على تطويق غريمتها بشتى الطرق، ليس للسيطرة على منابع الطاقة وايجاد مكان على تلك الجغرافيا الحيوية، بقدر ما هو أيضاً صراع على التفرد الدائم بالآحادية القطبية على المستوى العالمي مانعة غريمتها من الوصول إلى المكانة نفسها مستقبلاً ومنافستها عليها.
 
مفاجأة كبيرة
 
لم يكن أحد ليتوقع أن يحدث ما حدث في كازاخستان، الدولة الوسط – آسيوية الغنية بالنفط والغاز واليورانيوم والمصادر الأخرى، حيث أنها – ومنذ أن حصلت على استقلالها العام 1991 عن الاتحاد السوفيتي – لم يذكر التاريخ عنها أية حوادث خطيرة على عكس ما يحدث حالياً ما خلا أزمة العمال الذين تعرضوا للضرب العام 2019.
 
قد تكون اليوم الصورة قاتمة بعض الشيء وضبابية إلى حدٍّ ما، لكن من يربط ما يحدث مع الصراع على ناغورنو كراباخ بين كل من أرمينيا وأذربيجان، والذي نتج عنه دخول تركي وإسرائيلي بقوة إلى مسرح العمليات آنذاك دعماً لأذربيجان، يلاحظ تدخل روسيا بما يساهم بالحفاظ على أمنها القومي، قدر المستطاع، كذلك الأمر فعلت إيران، حيث تم ضبط الأوضاع وإفشال مخطط كان من شأنه – لو نجح – أن يزيزع استقرار كلا البلدين.
 
إلا أن لكازاخستان خصوصية، فهي تُعتبر ضمن “الحديقة الخلفية” لروسيا، فضلاً عن أنها تتوسط بين الأخيرة والصين. وبمجرد ذكر موسكو وبكين، فهذا يعني أن تصاعد الأحداث لن يتم السماح به أو حتى التصعيد إلى مراحل متقدمة نظراً للحدود الجغرافية، خاصة موسكو التي تملك مع نور سلطان (أستانا) حدوداً طويلة تصل إلى 6 آلاف كلم؛ بالتالي، سارعت موسكو إلى تفعيل قواعد منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وبعثت بقواتها إلى مناطق الاحتجاج المشتدة وأمنت مطار ألما آتا الاستراتيجي، الأمر الذي جعل واشنطن توجه تحذيراً مفاده إنها “تراقب الأوضاع عن كثب، خاصة لجهة انتهاكات حقوق الإنسان”، أي التلوح باستخدام ذريعتها الدائمة.
 
أهمية طاقوية
 
تعتبر كازاخستان تاسع أكبر دولة في العالم بمساحة تزيد عن 2.7 مليون كلم مربع، وهي أكبر دولة في آسيا الوسطى، وتضم مركز قاعدة “بايكونور” الفضائية التي استأجرتها روسيا، والتي لا تزال أكبر منصة إطلاق في العالم بعد حوالي 60 عاماً من انطلاق رائد الفضاء السوفياتي، يوري غاغارين، منها ليصبح أول رجل في الفضاء، ويتمتع هذا البلد بأكبر اقتصاد ضمن تلك المنطقة، فقد سبق وأن شهدت في الماضي نمواً كبيراً.
 
أيضاً، يشكل النفط 21% من إجمالي الناتج الداخلي للبلاد للعام 2020، بحسب البنك الدولي الذي توقع نمو الاقتصاد بنسبة 3.7% هذا العام 2021. وينتج أبرز حقل نفطي في البلاد، “تنغيز”، ثلث الناتج السنوي للبلاد، حيث تسيطر على 50% منه شركة “شيفرون” الأمريكية.
 
استكمالاً لما سبق، تعد كازاخستان أكبر منتج لليورانيوم في العالم، كما وتتوفر فيها أيضاً كميات كبيرة من المنغنيز والحديد والكروم والفحم، بالإضافة إلى امتلاكها لموارد معدنية كبيرة وإمكانات اقتصادية هائلة حيث تحتوي على ثروات طبيعية من بينها 3% من احتياطي النفط العالمي، فضلاً عن الفحم والغاز.
 
الصراع الروسي – الأمريكي
 
لا شك بأن الولايات المتحدة تحاول بشتى الطرق تطويق روسيا، عبر محاولات دائمة ومستمرة. فقبل أن تسدل الستارة عن الأزمة الروسية – الأوكرانية، خرجت كازاخستان كـ “القشة التي قصمت ظهر البعير”، حيث يرى الكثير من المراقبين بأن بداية الأحداث قد تكون برئية ومحقة حالها حال أية مطالب لدى شعوب تريد تحسين احوالها إلى الأفضل، وقد تكون الحكومة الكازاخية مقصرة لجهة دعم شعبها الذي يجب أن يتمتع برفاهية عالية نظراً لحجم الموارد التي يملكها. فقضية رفع أسعار الغاز المسال، هي الشرارة؛ لكن ما تلا ذلك من حوادث، يشير إلى وجود “أيادي خفية” بدأت تستغل – كما العادة – الأحداث المستجدة لخلق حالة من الفوضى تستثمرها لصالحها. هذا ومن الجدير ذكره هنا أن واشنطن كانت تخطط لتوافق مع كازاخستان من أجل اقامة قاعدة عسكرية على شواطئ بحر قزوين، لكن “الوعي ” الروسي أفشل هذه المحاولة بعدما تم الاتفاق بين الدول المتشاطئة – في أكتاو العام 2018 – على منع أية دولة على اقامة قواعد عسكرية فيما خلا الدول المطلة على البحر نفسه.
 
وفي أمر مبسط ولا يحتاج لتحليل، يمكن القول بأن جهاز الاستخبارات الروسية كان مدركاً لخطورة اشتعال الأزمة وتطورها في كازاخستان الخاصرة الرخوة لروسيا؛ بالتالي، الخطوة الاستباقية والسريعة والمعدة بعناية أحبطت السيناريو المرسوم أمريكياً، والمعد في الغرف المغلقة في أوكرانيا، وبحضور اللاعب التركي، الذي أصبح خبيراً في صناعة “الفوضى الخلاقة” انطلاقاً من تجربتيه في سوريا وليبيا، وتعامله مع المرتزقة والإرهابيين، إلا أن القوات الروسية التي نزلت في ألما أتا حالت دون أن يحقق الأمريكي غرضه.
 
للعلم، على مر التاريخ خضعت مناطق العالم لمحاصصة كبرى بين القوى العالمية، ما وضع العالم أمام ظروف منها حروب مدمرة ومنها “حروب بالوكالة” ومنها حروب سيبرانية، وآخرها صراعات داخلية عرفت بإسم “الربيع العربي” وبالطبع الثورات الملونة كالثورة البرتقالية في أوكرانيا، إلا أن تفكك الاتحاد السوفيتي السابق مثّل منعطفاً مهماً في تاريخ الصراع الروسي – الأميركي، الأمر الذي أتاح لواشنطن التفرد بقيادة العالم. لكن روسيا – وانطلاقاً من فنائها الخلفي – أرادت إستعادة مجد إمبراطوريتها، وعادت للمشهد الدولي بقوة الدولة العظمى مجدداً، فالبنسبة لها إن منطقة القوقاز وآسيا الوسطى هما النقطة الأهم. ففي وقت يتقد الجميع فيه أن اقتصاد العالم متركز في منطقة الخليج، إلا أن التوزان الاقتصادي منقسم بين هاتين المنطقتين.
 
موقع متميز
 
لفهم طبيعة التركيز على دولة كازاخستان الآن، لا بد من معرفة أهمية الموقع الجغرافي لآسيا الوسطى، التي تمثل المجال الحيوي الجيو – بولوتكي لمنطقة أوراسيا، (طاجيكستان، أوزبكستان، قرغيزستان، كازاخستان)، وتعتبر الأخير أكبر الدول تلك مساحة كما ذكرنا آنفاً، وأغناها بالثروات الطبيعية والمصادر الاقتصادية، وفيما يتعلق بأذربيجان فإنها تدخل في التركيبة الجيو – سياسية للمنطقة وليست من آسيا الوسطى لكنها من دول بحر قزوين كحال كل من أرمينيا وجورجيا.
 
لكن أهم ما يميز هذه المنطقة أنها عقدة مواصلات بين آسيا وأوروبا، وتشترك عبر الجهات الأربع بطرق تجارة تصل بين الجانبين، وذلك لقربها من منطقة الخليج العربي وإيران والصين، وموقعها هو السبب الرئيس في اشتعال أية أزمات سابقة أو لاحقة، فهي تشكل العمق الروسي باتجاه الجنوب، والعمق الحيوي الصيني باتجاه الجنوب الغربي، والعمق الهندي شمالاً، والعمق الإيراني في غرباً، ولكل ما سبق، تجاذبات وصراعات بعضها معلن وبعضها خفي، مع واشنطن، رغم أن الظاهر منها هو إيران، لكن في حقيقة الوضع العين على احتواء روسيا والصين المتحكمتان إلى حد ما بهذه المنطقة، لذلك لا يُستبعد نهائياً محاولات الفتنة التي تمارسها الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
 
أما بما يتعلق بروسا تحديداً، فتكمن أهمية آسيا الوسطى بالنسبة لها:
 
أولاً: رغم تفكك الاتحاد السوفيتي، إلا أن العلاقات الروسية مع جمهوريات الاتحاد تاريخية وجغرافية وعميقة ومتجذرة، وتشكل – كما أشرنا أعلاه – الخاصرة الجنوبية الرخوة لها، إلى جانب العامل الثقافي والعادات والتقاليد.
ثانياً: هذه المنطقة هي امتداد جيو – سياسي لروسيا، وما يؤكد ذلك توجه الأخيرة إبان الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعرضت لها، العام 1998، فكانت جمهوريات آسيا الوسطى منفذ روسيا الذي أنقذها.
ثالثاً: تعتمد روسيا عليها كونها النافذة لها إلى الأسواق العالمية، خاصة باتجاه أوروبا، مثل خط باكو – جيهان التركي.
رابعاً: تشكل المنطقة، منطقة نفوذ لروسيا، لذلك الانتشار الروسي في دولها أمر استراتيجي، لن تستطيع الولايات المتحدة من خلاله تحجيم نفوذها بأي شكل من الأشكال.
 
ضبط الأوضاع
 
طبقاً للأهمية الكبيرة لآسيا الوسطى، عملت روسيا مباشرةً على ضبط الأوضاع في كازاخستان، وقطعت كل الطرق المؤدية إلى الفوضى، السيناريو واضح، والمستقبل الذي كان سيحدث أيضاً، واضح، وتأكد لموسكو مجدداً، أن استغلال واشنطن للأزمة الحاصلة قبيل القمة التي عقدت اليوم، فيما لو تطورت الأوضاع، كان من الممكن أن تستثمرها الإدارة الأمريكية بطرق أكثر حدة وتعنت، مع الإشارة أن ما من توقعات ستخرج بها بل ستكون قمة عامة، تتعلق بقضايا الأمن، بسبب الهزيمة التي لحقت بالولايات المتحدة وفشل مشروعها في إشعال آسيا الوسطى انطلاقاً من كازاخستان.
 
أخيراً، يبدو بأن المستفيد الأول من نشر الفوضى وزعزعة استقرار كازاخستان – ومن ثم باقي الجمهوريات إن تحقق المخطط – هي الولايات المتحدة. وبالطبع، لم تم الأمر كما هو مححط له، فقد كانت ستسلم إدارة الفوضى لـ “الخبير الإداري” في نشرها داخل الدول أي الحليف التركي الذي سيكون مستعداً لتتنفيذ الأوامر انطلاقاً من مد “الطورانية” التي يعمل عليها الأخرى على قدمٍ وساق، اعتقاداً منه أنها قد تغير من خريطة المنطقة وتعيدها كما رسمت أبان فترة العهد العثماني.
 
لكن الوقائع أثبتت أن الظافر من هذه الأحداث هو روسيا والصين؛ فالأولى، أثبتت أنها حليف قوي عند الشدائد وهذا سيشد من أزر اتحاد الجمهوريات عبر تعزيز الشراكات واتفاقات الأمن المشتركة. وبخصوص الثانية، يمكن القول بأن بكين قد اطمأنت على أن أمنها القومي كونه لا يزال ضمن التحالفات المرسومة وأن القوى الاقتصادية الكبيرة ستزداد وستكبر، وعليه الخاسر الأكبر من الأحداث هو الولايات المتحدة، وقمة اليوم ونتائجها ستبين حقيقة هذا الأمر.
 
 
المصدر: مركز سيتا للدراسات الاستراتيجية