كُتّاب الموقع
حرب تشرين 1973 وفلسطينيو الـ48

أليف صباغ

الجمعة 8 تشرين الأول 2021

ثمانية وأربعون عاماً مرّت على حرب تشرين (حرب أكتوبر) وجراح المستوطنين الصهاينة في فلسطين لم تندمل بعدُ. في كل ذكرى سنوية يكشفون وثائقَ جديدة. لكن الجديد ليس جديداً، فهذه الوثائق الجديدة لا تضيف إلى الاستنتاجات والدروس أي شيء، وإنما تعزّز الاستنتاجات والعِبَر، التي كَشَفَت عنها لجنة التحقيق آنذاك، وتفتح الجروح التي لم تندمل بعدُ في نفوس المستوطنين الإسرائيليين، بل تضيف إليها مِلحاً حارقاً، يسمّونه فشلاً استخبارياً، لكنه ليس كذلك، بل هو فشل من نوع آخر أشدّ وأخطر.
 
كنت في الخامسة عشرة من عمري. وعلى الرغم من صغر سني، فإنني كنت منخرطاً في النشاط السياسي، بفعل ملاحقة أخي الأكبر من جانب المخابرات الصهيونية وأعوانها آنذاك. وبما أنني ابن الجليل، والطائرات الحربية الصهيونية، المتَّجهة إلى جبهة الجولان، تمرّ من فوقنا، كنت ورفاقي الفتية نقف لنعدّ سَرب الطائرات التي تمر إلى الشمال، ثم نعدها مرة أخرى حين تعود، ونقول سقط منها كذا وكذا. ونضحك: كم مرةً قَبَّلَ "سام" حبيبته "فانتوم". 
 
هي قصة حُبّ نسجها الشبّان في مخيِّلاتهم، بين العاشق "سام" ومعشوقته "فانتوم". تُحكى أحياناً، وبعض الشبّان جعلها غناءً. كان "سام" يقف وعيناه محدّقتان في السماء، عندما مرّت من فوقه "فانتوم" مسرعةً، لحَظَها فأحبَّها. لحِقها فهربت. غمزَها فأسرعت أكثر... زاد في سرعته نحوها حتى وصل إليها. وفي لحظة خاطفة قبّلَها، احمرّ وجهها من الخجل، واشتعل قلبها، فاستسلمت وسقطت في حِضن سام على عجل.
 
لم تكن حرب تشرين كحرب حزيران/يونيو 1967. في حزيران/يونيو أخذت شرطة الاحتلال الإسرائيلي عدداً من الوطنيين، من كل قرية ومدينة، لمجرد أنهم استمعوا إلى راديو "صوت العرب". اقتادتهم إلى مقارّ شرطة الاحتلال، وضربَهم عناصرها بوحشية. منهم مَن استُشهد بعد فترة جراءَ الضرب، ومنهم مَن فقدَ سمعه، وآخرون لم تندمل جروحهم إلى يومهم الأخير، وأعرف بعضهم شخصياً.
 
خلال حرب تشرين لم يكن الأمر كذلك، فالشرطة لم تقترب إلى قرانا. هل كان ذلك صدفة؟ لا، بل لأن معنويات المستوطنين الإسرائيليين كانت في الحضيض، ومعنويات العرب كانت مرتفعة، فخشيت المؤسسة الأمنية من هبّة جماهيرية. 
 
هنا، دخلنا في مرحلة جديدة من المد الوطني الفلسطيني في الداخل، وهذه أُولى العِبَر. لقد أحدثت حرب تشرين، وبطولات الجيشين السوري والمصري، انقلاباً في نفوس الفلسطينيين ومعنوياتهم في الداخل، تماماً بعكس ما حدث في نفوس الصهاينة. فهزيمة حزيران/يونيو 67 أصبحت من الماضي، وإمكان الانتصار على "إسرائيل" أصبح جائزاً.
 
كان لهذا الشعور تداعياتٌ على الحياة السياسية للفلسطينيين في الداخل. كان توزيع صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية يتمّ سرّاً على عدد كبير من الأشخاص، وخصوصاً المعلّمين وطلاب الجامعات، خوفاً من ملاحقة المخابرات الإسرائيلية لهم وحرمانهم من العمل. لم تَمضِ أشهر قليلة حتى أصبح توزيع "الاتحاد" شبه علني، ورفض عدد كبير من المعلّمين العرب الشراء الإلزامي للصحيفة الحكومية، "الأنباء"، والصادرة باللغة العربية. في عام 1974، أُقيمت لجان الطلاب الجامعيين العرب، بلا خوف، وكان أول حصادها انتخابَ توفيق زياد عام 1975 لرئاسة البلدية بدلاً من رجل حزب العمل.
 
في عام 1974، أُقيمت أيضاً اللجنة القُطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، والتي كان لها دور مهم في التصدي لمصادرة الأراضي، واجتراح يوم الأرض الخالد في آذار/مارس 1976.
 
وهكذا، تطوّر المد الوطني، فتجلّى عام 1982 في مظاهرات فلسطينية في الداخل ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان، شكلت الشرارة الأولى لانطلاق حراك شعبي واسع ضد الحرب.
 
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، شهد الداخل الفلسطيني مداً وطنياً متميزاً، سياسياً وثقافياً، وصار "الكَفّ تُقابل المخرز"، وأصبح التحدي للمحتل والتقرُّب إلى الوطنيين هما السمةَ الغالبة، بدلاً من النفاق والتقرُّب إلى رجال السلطة.
 
كان لحرب تشرين تداعيات عميقة على المستوطنين الصهاينة في كل مجالات الحياة، السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية، وبعضها لا يزال محفوراً بعمق في نفوسهم.
 
منذ عام 1948 حتى عام 1973 عاش اليهود الصهاينة بشعور من الاستعلاء والنشوة، وخصوصاً بعد انتصارهم "الأسطوري" في حزيران/يونيو 1967. هذا الانتصار الذي أبهر العالم كما أبهر اليهود بصورة عامة، فازدادت الهجرة إلى فلسطين المحتلة وانتعش اقتصاد كيان الاحتلال، وساد لديهم الشعور بالأمان، وبأن العرب لا شيء، لأن جيش الاحتلال الإسرائيلي هو "جيش لا يُقهَر"، فجاء "تشرين" ليقلب كل هذه النشوة إلى إحباط وخوف وقلق على مستقبل "الدولة" ومستوطنيها. وعلى قَدْر النشوة والثقة بالنفس كان الإحباط. اضطرّت "إسرائيل" إلى طلب المساعدة العسكرية من الغرب الاستعماري، فأمدّتها الولايات المتحدة بجسر جوي من العتاد وطيّارين وخبراء، ولم تبخل الدول الاستعمارية الأخرى في أي شيء. وفهم القادة العسكريون والسياسيون، المنتشون بحرب حزيران/يونيو، أن "إسرائيل" غير قادرة على أن تحمي نفسها من دون الاعتماد على الغرب وخصوصاً أميركا، وهي عِبْرة لا تزال فاعلة في نفوسهم، وحاضرة في كل معركة انتخابية، وعشية تشكيل كل حكومة، حتى اليوم.
 
المستوطنون الإسرائيليون، بصورة عامة، وأهالي الأسرى والقتلى والجرحى منهم، بصورة خاصة، وهم بالآلاف، نزلوا إلى الشوارع، تظاهروا، وحمَّلوا المستويين السياسي والعسكري مسؤولية الفشل في الحرب، ومسؤولية مقتل أبنائهم أو جرحهم أو أَسْرهم، لأنهم هاجروا إلى فلسطين وهم مطمئنون على حَيَوات أبنائهم، وفجأة انقلب السحر على الساحر. 2656 قتيلاً، و7250 جريحاً، وعشرات المفقودين، وأكثر من 300 أسير، وخسائر مادية لا تَصَدَّق... إلخ. لم تعد مقولة "الجيش الذي لا يُقهَر" تُسمَع. الإحباط والتفكير في العودة إلى البلاد التي هاجروا منها، أصبحا حديثهم اليومي، حتى عبر وسائل الإعلام.
 
كان للحراك الشعبي انعكاسُه على المستوى السياسي، فأجبر الحكومة الإسرائيلية على أن تقيم لجنة تحقيق رسمية، اسمها لجنة "أغرانوت". حمَّلت هذه اللجنة المستويين العسكري والسياسي مسؤوليةَ الفشل، فاستقال وزير الحرب موشيه ديان، الذي اعتُبر بطل حرب حزيران/يونيو، في نظر المستوطنين الإسرائيليين، واستقال قائد الأركان ورئيسة حكومة الاحتلال غولدا مئير. كانت المعلومات الاستخبارية متوافرة، لكن القيادة استهترت في تقييمها احتمال نشوب الحرب، وهذا ما يؤكّده أيضاً مجموع البروتوكولات التي كُشِفَت هذا الأسبوع.
 
انعكس هذا الفشل سياسياً على الحياة الحزبية داخل حزب العمل الحاكم، وعلى توازن القوى السياسي في مقابل المعارضة بقيادة مناحيم بيغن، وأدّى ذلك إلى انقلاب سياسي عام 1977 ليستلم الليكود الحكم، لأول مرة، بدلاً من حزب العمل. هذا الحزب الذي لا يزال يعاني تداعيات حرب تشرين، حتى اليوم، ومفاعيل الانقلاب السياسي لا تزال قائمة أيضاً. 
 
انعكس الاستقطاب السياسي بعد حرب تشرين، من خلال بروز مجموعتين متناقضتين: الأولى هي مجموعة غوش إيمونيم، التي أصرّت على أن الخروج من الإحباط يتم عبر مزيد من الاستيطان في المناطق المحتلة عام 1967، بينما رأت مجموعة "السلام الآن" أن الحلّ يكمن في الانسحاب في مقابل تسوية سلمية مع العرب.
 
اقتصادياً، تراجَعَ الاقتصاد الذي ازدهر بصورة كبيرة بعد حزيران/يونيو 1967. اضطرت "إسرائيل" إلى أن تطلب مساعدات مالية، بالإضافة إلى المساعدات العسكرية، وهي مساعدات مالية من أجل سَدّ العجز الهائل في ميزانيتها، وعادت لتكون تلميذةً مطيعة لأميركا. لذلك، أبدت استعدادها، مرغَمةً، لأن تشارك في "مؤتمر جنيف" الذي رتبته أميركا مع الاتحاد السوفياتي آنذاك؛ ذلك المؤتمر الذي دعا إلى انسحاب "إسرائيل" إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو. لكن سفينة الخلاص، التي أتت من السادات، بدفع من الملك حسين وشاه إيران، أنقذت "إسرائيل"، وأدّت إلى أن يزور السادات الكنيست ويوقّع اتفاقية الذلّ في كامب ديفيد.
 
مثل حرب تشرين، كانت الانتفاضة المباركة عام 1987، وانتصار المقاومة اللبنانية عام 2000، وكانت حرب تموز/يوليو 2006 أيضاً. أمّا الجيش العربي السوري، فأثبت قدرته وعزيمته في أقسى معارك الشرف والكرامة في مواجهته الأسطورية جحافلَ الإرهابيين الذين غزوا سوريا من كل حدب وصوب، فهزمهم بعزيمة وعناد وكثير من التضحيات. فكل إنجاز يؤسّس ما بعده، وجيش الاحتلال الإسرائيلي "الذي لا يُقهَر"، هُزِمَ أكثر من مرة، والهزيمة لا تُقاس بالضرورة بعدد الجنود والضبّاط الذين قُتلوا في المعركة، وإنّما الهزيمة في النفوس والنظر إلى المستقبل. فلا انتصار إلاّ بانتصار النفوس، ولا هزيمة إلاّ في هزيمة النفوس.
 
 
 
 
المصدر: الميادين