كُتّاب الموقع
"فاروشا".. لعبة الشطرنج التركية مستمرّة في قبرص

محمد منصور

الخميس 2 أيلول 2021

من نافلة القول الإتيان على ذكر الطموحات التركية المستمرة على المستوى الإقليمي، فقد باتت هذه الطموحات واضحة للعيان، وصارت جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجية التركية في حقبة رجب طيب إردوغان، لكن الجدير بالذكر في هذه المرحلة أنَّ أنقرة باتت أقل ميلاً إلى المواجهة المباشرة مع الخصوم الإقليميين، وأصبحت تفضّل اللجوء إلى "وكلاء" في تنفيذ نقلاتها على رقعة الشطرنج الإقليمية، وخصوصاً في شرق المتوسط وشمالي أفريقيا.
 
كان الملفّ القبرصي دوماً من أهم المرتكزات التركية على المستوى الاستراتيجي، حتى في العهود السابقة لعهد حزب "العدالة والتنمية"، لكن اللافت أن أنقرة باتت تستخدم هذا الملف في الآونة الأخيرة كوسيلة للضغط "الموسمي" على دول حلف الناتو، وخصوصاً الدول المقربة من اليونان، مثل فرنسا على سبيل المثال.
 
هذا الأسلوب تم استخدامه سابقاً عدة مرات من جانب أنقرة تجاه اليونان والشطر التابع لها من جزيرة قبرص، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما قامت به تركيا في آذار/مارس 2020، حين قامت بفتح حدودها مع اليونان أمام مئات اللاجئين الذين تدفقوا باتجاه الأراضي اليونانية بشكل مفاجئ، ما وضع السلطات اليونانية تحت ضغوط كبيرة، سواء في ما يتعلق بسبل التعامل مع هؤلاء اللاجئين أو في ما يخص إدارة العلاقات بينها وبين تركيا.
 
مرة أخرى عادت أنقرة إلى اتباع سياسات مشابهة في تعاملها مع الأزمة القبرصية. هذه المرة كان حي "فاروشا"، وهو أحد أحياء مدينة "فاماغوستا" القبرصية، مسرحاً لخطوة تركية جديدة يراد منها تكريس التوجه نحو الحل النهائي الذي تراه تركيا لهذه الأزمة، وهو العمل على جعل الانقسام الحالي الذي تعيشه قبرص حقيقة مستدامة ومفروضة بحكم الأمر الواقع.
 
يمثّل هذا الحيّ تجسيداً مصغراً للتاريخ المعاصر لجزيرة قبرص، التي تعيش وضعاً نادراً على المستوى المؤسسي والحكومي، بالنظر إلى حقيقة أنه يقع في نطاق جمهورية "قبرص التركية"، وهي جمهورية لا تعترف بها سوى تركيا، وتقع في الثلث الشمالي من جزيرة قبرص. 
 
هذا الوضع فرضه التدخل العسكري التركي في الجزيرة في منتصف العام 1974، عقب 5 أيام من المحاولة الانقلابية التي قام بها ضباط في الحرس الوطني القبرصي، بدعم من اليونان، ضد حكم الأنبا مكاريوس. حينها، سيطرت القوات التركية على ثلث الجزيرة الشمالي، ودعمت الزعيم القبرصي التركي رؤوف دنكطاش، الَّذي أعلن تمتّع الثلث الشمالي بحكم ذاتي بعد ذلك بعام واحد، ثم أعلن من جانب واحد في العام 1983 قيام الجمهورية القبرصية التركية، ليتم بذلك فعلياً تقسيم الجزيرة.
 
مدينة "فاماغوستا" كانت من ضمن المدن التي مرّ بها "الخط الأخضر"، وهو خط يبلغ طوله 180 كيلومتراً، حددته الأمم المتحدة للفصل بين الجانب التركي والجانب اليوناني من جزيرة قبرص. ويمرّ هذا الخط بمحاذاة حي "فاروشا" الذي كان يوماً يضم أهم المنتجعات والفنادق القبرصية، لكنَّه أصبح منذ العام 1974 وحتى اليوم حياً مهجوراً بشكل شبه كامل، بعد أن أصبح بمثابة منطقة عسكرية مغلقة تضمّ نقاط تفتيش خاصّة بالأمم المتحدة والجيش التركي. 
 
وقد ظلَّت هذه المنطقة اسمياً تحت سيطرة الأمم المتحدة، وفعلياً ضمن مناطق السيطرة التركية، رغم صدور عدة قرارات أممية، منها القرار رقم 550 و789، تطالب بتسليم كامل أحياء مدينة "فاماغوستا" لسكانها الأصليين من القبارصة اليونانيين، البالغ عددهم نحو 39 ألف نسمة، وتم تهجيرهم منها قسراً أثناء دخول القوات التركية.
 
بدأت أنقرة في العام 2019 بزيادة تواجدها في شمال جزيرة قبرص، بسبب شروعها في عمليات التنقيب عن الغاز في المناطق الاقتصادية القبرصية الخالصة، فقامت بزيادة عديد قواتها المتواجدة في شمال الجزيرة، وكثّفت تواجد قطعها البحرية في هذه المنطقة، وأطلقت في آذار/مارس عمليات البحث والتنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية القبرصية، وخصوصاً المناطق الشمالية والشرقية والغربية للجزيرة.
 
وقد كانت ذريعة أنقرة في عمليات التنقيب هذه الادعاء أنَّ لها حقوقاً في القطاعات الأول والرابع والخامس والسادس والسابع من قطاعات المنطقة الاقتصادية المعلنة من جانب قبرص اليونانية، وأضافت إلى ذلك المنطقة الاقتصادية التي أعلنتها قبرص التركية، والتي تتضمن 7 قطاعات تقع ضمن المنطقة الاقتصادية التابعة لقبرص اليونانية.
 
العام 2019 شهد أيضاً بدء تحريك أنقرة لملف القضية القبرصية مرة أخرى، حين أعلنت في أيلول/سبتمبر 2019 أنها ستعيد تأهيل حي "فاروشا" وستفتتحه قريباً، وهو ما تم بشكل جزئي في تشرين الأول/أكتوبر 2020، إذ افتتحت السلطات القبرصية التركية جزءاً من الحي، وهو شارع "ديموكراتياس"، إلى جانب جزء من شاطئ الحي.
 
وقد زار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هذا الحي في الشهر التالي، وأعلن تسمية الشارع الذي تم افتتاحه باسم "سميح سانكار"، وهو أحد القادة العسكريين القدامى في الجيش التركي، وكان ضمن المخططين لعملية "آتيلا" التي سيطرت بموجبها وحدات الجيش التركي على ثلث جزيرة قبرص في العام 1974.
 
هذه الخطوات كرَّسها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في تموز/يوليو الماضي، حين زار شمال قبرص، وأعلن بمعية زعيم القبارصة الأتراك آرسين تتار أنه سيتم افتتاح جزء آخر من شاطئ الحي. واللافت أنه أطلق على مدينة "فاماغوستا" اسماً تركياً هو "ماراس".
 
هذه الخطوة الجديدة من جانب أنقرة كانت لها أهدافها الداخلية والخارجية؛ فعلى مستوى الداخل التركي، يحاول الرئيس إردوغان اللعب - مجدداً - على الوتر القومي، وهو الوتر نفسه الذي استخدمه سابقاً في الملف القبرصي والملفين العراقي والسوري. في هذه المرحلة، يشهد الداخل التركي تفاعلات حزبية عديدة، وكذلك تواجه الدولة التركية تحديات خارجية متصاعدة، وخصوصاً نهج حزب "العدالة والتنمية" في ما يتعلق بالعلاقات مع الدول المحيطة، والذي أفضى إلى ترسيخ خلافات عميقة مع دول عديدة في المنطقة، عوضاً عن الاستمرار في سياسة "صفر مشاكل" التي كانت من ملامح السنوات الأولى لحكم رجب طيب إردوغان.
 
إزاء هذا الوضع، تبدو محاولة أنقرة العزف مرة أخرى على الوتر القومي وسيلة لاستجلاب تعاطف وتأييد بعض الأوساط الشعبية والسياسة الداخلية التي لطالما تأثرت بالخطاب القومي. وفي الوقت نفسه، يكون هذا الخطاب بمثابة وسيلة لفرز الوسط الحزبي الحالي في البلاد، وتقسيمه قسراً إلى قسمين، أحدهما مؤيد للقومية التركية، والآخر معارض لها.
 
الداخل القبرصي الشمالي كان أيضاً ضمن دائرة أهداف الخطوات التركية الأخيرة، فقد اعتبر بعض المراقبين أنَّ إعلان تركيا افتتاح جزء من حي "فاروشا" بتوقيت متزامن مع الانتخابات الرئاسية في جمهورية شمال قبرص، كان بهدف دعم المرشح المعارض أرسين تتار، المقرب من تركيا، في مواجهة السياسي المخضرم اشتراكي التوجه مصطفى أكينجي، الذي شغل منصب رئيس قبرص التركية منذ العام 2015، وكانت علاقته مع أنقرة خلافية بشكل عام، وخصوصاً في ما يتعلق بمستقبل التواجد العسكري التركي في الجزيرة وملف توحيد الجزيرة القبرصية، الذي كان أكينجي من المؤيدين للمضي قدماً فيه. بالفعل، ساهمت الخطوات التركية الأخيرة بفوز تتار بمنصب رئاسة قبرص التركية في هذه الانتخابات.
 
فوز تتار كرس بشكل فعليّ وجهة النظر التركية التي ترى مستقبل جزيرة قبرص على شكل دولتين متجاورتين، وهي وجهة النظر التي عملت أنقرة على تأكيدها بشكل تدريجي خلال السنوات الأخيرة، بشكل تسبَّب بفشل جميع المباحثات والخطط التي تم اقتراحها لتوحيد الجزيرة، وهو وضع يتقاسم القبارصة اليونانيون المسؤولية عنه مع القبارصة الأتراك، وخصوصاً في ما يتعلَّق بخطّة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في العام 2004، والتي كانت من أهم المقترحات التي تم وضعها موضع البحث في هذا الملف، وتضمَّنت كذلك إعادة السكان الأصليين لحي فاروشا إلى منازلهم، وتم الاستفتاء عليها في كامل الجزيرة، ورفضها الجزء اليوناني في حين وافق عليها الجزء التركي. 
 
آخر محاولة لوضع خطّة لتوحيد الجزيرة تمت في العام 2017. حينها، تم البحث خلال مباحثات مباشرة بين القبارصة الأتراك واليونانيين حول مستقبل التواجد العسكري التركي في شمال الجزيرة، والمقدر بنحو 30 ألف جندي، لكن تعثّرت هذه المفاوضات، وتم تجميدها في النهاية.
 
خارجياً، بدأت بعض الأوساط التركية تتحدث عن إمكانية ضم شمال قبرص إلى السيادة التركية، وتطبيق تجارب مماثلة في هذا الصدد، أهمها تجربة "لواء الإسكندرون" السوري، إذ تطرح بعض هذه الأوساط رأياً مفاده أن أنقرة على وشك ضم شمال قبرص إلى الأراضي التركية في العام 2023، في مشهد قد يشابه إلى حد كبير ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، بحيث يتمّ وضع المجتمع الدولي أمام أمر واقع لا يختلف كثيراً عن الأوضاع القائمة حالياً، لكنه سوف يضيف إلى تركيا عدة ميزات استراتيجية، أهمها أجزاء جديدة ستضاف إلى جرفها القاري، وكذلك سيطرة كاملة على المناطق الاقتصادية الخاصة بشمال قبرص، ناهيك باستدامة التواجد العسكري التركي وتكثيفه، والذي يخدم أيضاً العمليات في مناطق أخرى، على رأسها ليبيا، وكذلك إضافة ورقة "ابتزاز" أخرى في مواجهة بعض دول الاتحاد الأوروبي.
 
المؤكّد أن هذا السيناريو، إن تم تطبيقه، ستتم معارضته بشكل كبير من جانب عدة دول غربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، التي أعلنت مراراً رفضها الإجراءات التركية الأخيرة في هذا الملف، وكانت لها مواقف مشابهة سابقاً في هذا الإطار، علماً أنَّ واشنطن سبق أن فرضت حظراً على تصدير الأسلحة إلى تركيا ما بين العامين 1975 و1978، بسبب التدخل العسكري التركي في قبرص. 
 
رغم هذه الاعتراضات المتوقعة، وبالنظر إلى ضعف المواقف الغربية والأميركية من العمليات العسكرية التركية في سوريا والعراق، وكذا من ملفات أخرى تتعلق بالداخل التركي، لا يتوقع أن يكون لهذه الاعتراضات دور مؤثر في هذا الملف، وخصوصاً أنَّ أنقرة بدأت باستطلاع آراء بعض الدول حول إمكانية اعترافها بجمهورية شمال قبرص، مثل روسيا التي قد تضع أنقرة أمامها ورقة الاعتراف بسيادتها على شبه جزيرة القرم، مقابل اعتراف موسكو بالجمهورية التي لا يعترف بها أحد حتى الآن سوى تركيا.
 
 
 
 
المصدر: الميادين