كُتّاب الموقع
الخاصرة الكردية الهشّة في الجغرافيا العراقية

عادل الجبوري

الخميس 16 أيلول 2021

في رقعة جغرافيّة تتداخل وتتشابك فيها حقائق التاريخ مع وقائع الحاضر، ومصالح الداخل مع أجندات الخارج، وعقائد القوميات والمذاهب والأديان المختلفة ومعتقداتها وحساباتها، من الطّبيعي جداً أن يغيب عنها الأمن والاستقرار، وتتجاذبها الحروب والصراعات، وتتقاطع في ميادينها الأولويات. هكذا هو حال إقليم كردستان العراق الَّذي يمكن وصفه بالخاصرة الهشة في الجغرافيا العراقية الجامعة لشتى أشكال التناقضات السياسية والثقافية والمجتمعية ومظاهرها.
 
لماذا يمكن أن يوصف الإقليم الكردي في شمال العراق بالخاصرة الهشّة؟ ولماذا أصبح كذلك؟
تراكمات عديدة على مدى عقود من الزمن ساهمت في تشكل هذه الصورة وبلورتها، والتي غالباً ما كان الكرد ككيان اجتماعي أو نخب وقوى سياسية ضحية لها، وما زالوا كذلك. أدى العامل الدولي - وتحت مظلَّته العامل الإقليمي - دوراً كبيراً في إيجاد القلق والارتباك والفوضى وغياب الاستقرار الحقيقي في الشمال الكردي العراقي. وتشتيت قياداتها وكوادرها المختلفة داخل العراق وخارجه.
 
ولعلَّ المساومة - أو قل المؤامرة - بين نظامي طهران وبغداد في ذلك الحين اتخذت مساراً آخر بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في ربيع العام 1979، حين ظهر صدام حسين بعد أن أزاح أحمد حسن البكر واستأثر بالسّلطة، عبر شاشات التلفاز، وهو يمزّق اتفاقية الجزائر، كخطوة أولى مهّدت لخطوات خطيرة جلبت كوارث كبيرة، لم يكن مهندس اتفاقية الجزائر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، بعيداً عن توجيه مساراتها، رغم أنَّه كان قد غادر المنصب إثر هزيمة الرئيس جيمي كارتر أمام رونالد ريغان.
 
الحقائق والمعطيات والمواقف الجديدة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران وتولي صدام مقاليد السّلطة المطلقة في العراق وعموم المخططات والمشاريع الدولية، ألقت بظلالها على المشهد الكردي شيئاً فشيئاً. وبقدر ما كانت تختلط الأوراق، وتتشابك الخيوط، وتتقاطع الخطوط، كانت أوضاع الشمال الكردي العراقي تزداد تعقيداً وتأزماً وارتباكاً واضطراباً.
 
عوامل عديدة وظروف مختلفة تسبّبت بذلك، قد يكون من بينها طبيعة التضاريس الجغرافية المعقّدة للمنطقة، التي كانت تتيح لمختلف الأطراف الاستفادة منها، ولكن في الوقت ذاته، شكّلت هذه الطبيعة عائقاً أمام أيّ طرف من الأطراف لتحقيق مكسب أو انتصار حقيقي وكامل على الخصم أو الخصوم، أي بعبارة أخرى، مثلت التضاريس الجغرافية المعقّدة سيفاً ذا حدين. 
 
وعندما اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية في خريف العام 1980، ووجد نظام صدام نفسه متورطاً بحرب استنزافية طويلة الأمد، وليس كما كان متوقّعاً أنها لن تستغرق سوى شهور قلائل تنتهي بإسقاط النظام الإسلامي الجديد في إيران، فتح الباب لتركيا لتسد فراغاً ما كان بإمكانه أن يشغله، في الوقت ذاته الذي أراد صناع القرار في أنقرة الدخول في العمق العراقي للحفاظ على الأمن القومي لبلادهم، ولا سيما بعد ظهور حزب العمال الكردستاني المعارض (PKK)، واتخاذه من جبال قنديل الواقعة في المثلث الحدودي العراقي - التركي - الإيراني منطلقاً له، بيد أنَّ أنقرة التي كان مسموحاً لها التوغّل في الأراضي العراقي بعمق 10 كيلومترات في ثمانينيات القرن الماضي، دخلت بعد 30 عاماً بعمق 200 كيلومتر، وربما أكثر، والأنكى من ذلك أنّها أنشأت معسكرات وأسّست قواعد عسكريّة ومحطات ومراكز استخباراتية علنيّة وسرية في مدن ومناطق عراقية مختلفة، بعضها ضمن حدود إقليم كردستان، وبعضها الآخر خارج حدوده.
 
والمفارقة هنا بعد عقود من الصّراع الدامي بين تركيا وحزب "العمال"، وبعد كل ذلك التمدد التركي في الجغرافيا العراقية، أن أنقرة فشلت فشلاً ذريعاً في إلحاق الهزيمة بالحزب، كما فشلت في تحييده وإضعافه. وبعد أن كان متواجداً ومتمركزاً في جبال قنديل وما حولها، بات يسيطر على مساحات في إقليم كردستان وخارجها، ويفرض سلطته وسطوته حتى على الأحزاب والقوى الكردية العراقية. وهنا، فعلت الجغرافيا فعلها، مضافاً إليها المصالح والمساومات والصفقات السياسية التي جعلت الكرد طوال الوقت بين فكّي كماشة.
 
وبعد حرب الخليج الثانية في العام 1991 وما أفرزته من معطيات ونتائج، بدا أن آفاقاً جديدة انفتحت أمام كرد العراق، حين قررت الولايات المتحدة الأميركية وعدد من القوى الدولية إنشاء منطقة آمنة لهم فوق خطّ العرض 36، خارجة عن سيطرة نظام صدام وسلطته، وتضمّ المحافظات الكردية الثلاث، دهوك والسليمانية وأربيل، رغم أنّ تلك الخطوة كانت بمثابة شروع عملي بمنح المكون الكردي العراقي استقلاله بعد مسيرة خذلان طويلة بدأت من معاهدة لوزان التي أُبرمت في العام 1923.
 
وبدلاً من أن تستثمر القوى والأحزاب الكردية هذه الفرصة التاريخية، وتعمل على توظيفها لتحقيق بعض من تطلعات المكون الكردي وطموحاته، راحت تكرر مشاهد صراعاتها وحروبها السياسية والعسكرية السابقة بصورة أكثر ضراوةً وعنفاً، في ظلِّ تنافس محموم على مواقع السلطة والنفوذ ومصادر المال والثروة.
 
ولا شكَّ في أن تراكمات الصراع التاريخي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال الطالباني، والذي تعود جذوره إلى العام 1966، أي حتى قبل نشوء حزب الطالباني (1975)، ساعدت في تغذية الصراع والتنافس الحاد ضمن حدود المنطقة الأمنية.
 
ووجدت أطراف خارجية مختلفة الفرصة مواتية لها للدخول على الخطّ، وتوسيع مساحاتها نفوذها وتحالفاتها بالنسبة إلى تلك الموجودة سابقاً، مثل حزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، وحزب الحياة الحرة (بيجاك) الإيراني المعارض، والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني ((KDPI، وحزب الكادحين (كومله)، إضافةً إلى أحزاب كردية سورية برزت في الساحة الكردية العراقية بعد اندلاع الأزمة في سوريا في العام 2011. كل هذه الأحزاب والتشكيلات اصطفت إلى جانب حزب بارزاني أو إلى جانب حزب طالباني، وما زالت كذلك.
 
أضف إلى ذلك أنَّ نظام صدام الذي فقد السيطرة على إقليم كردستان بعد إخراجه من الباب، عاد ليخترقه من الشباك عبر أجهزته الأمنية والاستخباراتية التي نجحت بمقدار معين في اختراق بعض الأحزاب الكردية، وكذلك بعض الأحزاب العراقية المعارضة التي وجدت في الإقليم ملاذاً مناسباً لها بعد أحداث العام 1991. وأكثر من ذلك، إنَّ قوات من الجيش العراقي تدخّلت بصورة مباشرة في صيف العام 1996 لإنقاذ حزب البارزاني من الهزيمة أمام حزب طالباني المدعوم من إيران.
 
وفي كلِّ المحطات والمنعطفات الحادّة والخطيرة، لم تكن واشنطن بعيدة عن المشهد، بل كانت تراقب وتتابع وتوجه وتؤثر وفق ما تقتضيه مصالحها وتفرضه حساباتها، فرغم اندلاع الاقتتال المسلَّح بين البارتي واليكتي في العام 1994، وتسبّبه بخسائر وأضرار بشرية ومادية كبيرة جداً، والتفاقم الحاد للمعاناة الاقتصادية الحياتية للشعب الكردي، فإنها لم تتدخَّل بقوة إلا بعد 4 أعوام، لترغم الفرقاء الكرد على إلقاء السلاح وإبرام اتفاق تحت رعايتها عرف باتفاقية واشنطن في أيلول/سبتمبر 1998. وكانت تلك الاتفاقيّة أقرب إلى الهدنة منها إلى الوقف النهائي والشامل للصراع المسلح، وإعادة الثقة بعد الكثير من الدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت بين كلا الطرفين.
 
ورغم أنَّ سقوط نظام صدام في العام 2003 دفع الفرقاء الكرد إلى صياغة تفاهمات وتوافقات من أجل بلورة موقف موحد في بغداد يتيح لهم تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية للمكون الكردي، فضلاً عن السعي المستمر للوصول إلى إحراز الاستقلال وتشكيل دولة كردية مستقلة، فإنَّ ذلك لم يكن كافياً هو الآخر لتذويب الخلافات والتقاطعات، ولا سيّما مع التنافس على مساحات النفوذ على الأرض، وعلى المناصب والمواقع، سواء في إطار مؤسسات الحكومة الاتحادية في بغداد أو ضمن مؤسسات الحكومة المحلية للإقليم، ناهيك بتنوع وتقاطع التحالفات والاصطفافات الإقليمية، إلى جانب مظاهر التشظي والانقسام الداخلي التي تعرض لها حزب الاتحاد الوطني طيلة العقدين الماضيين، والتي تجلَّت واضحة عند مرض زعيم الحزب جلال الطالباني في العام 2021، لتتفاقم إلى أبعد الحدود بعد رحيله في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2017، من دون أن يعني ذلك عدم وجود مشاكل داخلية لدى الحزب الديمقراطي الكردستاني بين مراكز قوى ذات صبغة عائلية عشائرية فيه، تتنافس على السلطة والنفوذ، بيد أنَّ وجود زعيم الحزب مسعود البارزاني وقوة شخصيته، تكبح كثيراً اتساع الخلافات وتفاقم المشكلات، وتساهم في ضبطها واحتوائها، بما يكفل بقاء الحزب متماسكاً ومحتفظاً بمحوريته في الإمساك بزمام الأمور في الإقليم، وبالتالي الحؤول دون تفككه وتشظيه، كما حصل لغريمه الاتحاد الوطني.
 
ومن الطبيعي جداً أنَّ واقعاً بهذا المستوى من التشابك والتعقيد يحرم الكرد وجيرانهم من التمتع بالاستقرار الحقيقي، وفي الوقت ذاته يحرمهم من تحقيق مكاسب يعتدّ بها على الأرض، وحتى في كواليس السياسة وأروقتها، بحيث يبدو أنّ الجميع يدورون في حلقة مفرغة، ولا سيّما حين يؤثر ذلك الواقع الأمني والسياسي المرتبك والمضطرب في الجوانب الأخرى، مثلما هو الحال مع ملفّ المياه الخلافي بين بغداد وأنقرة، وكذا الأمر مع طبيعة وإيقاع علاقات كلّ من أنقرة وطهران مع القوى الكردية العراقية، ناهيك بالكثير من الألغام الموقوتة في طريق العلاقات بين بغداد والكرد، وكذلك بين كرد أربيل وكرد السليمانية.
 
من الصّعب أن يطرأ على هذا الواقع تغيير جوهري على المدى القريب، وحتى المتوسط، ما دامت آفاق الحلول والمعالجات للمشاكل والأزمات غائبة ولا أثر لها على أرض الخاصرة الكردية الهشّة.
 
 
 
المصدر: الميادين