كُتّاب الموقع
هجمات 11 سبتمبر: كيف استدارت "الحرب على الإرهاب" فعادت من حيث بدأت؟

نون بوست

الخميس 9 أيلول 2021

لقد كان اليوم في أوله حين وصلتُ ضفاف نهر بياندز الذي يجري على الحدود الجنوبية لطاجيكستان. كان البرد شديدا والظلام دامسا. استقبلني حرس حدود طاجيكستان بتودد، لكنهم كانوا ثملين، ويقومون بإجراءاتهم بوتيرة بطيئة. وعلى بعد مسافة من الطريق المتعرج لمدخل الحدود، وقف الروس - حرس الحدود الحقيقيين - وكانوا أقل ثمالة وأكثر جدية، إلا أنهم كانوا بطيئين مثل نظائرهم.
 
لم تكن العبّارة التي نقلتنا عبر النهر سوى بارجة مسطحة بمحرك جرار مثبت في منتصفها، تُدفع باستخدام رافعة متصلة بالمحرك الذي يمر من خلاله حبل مرساة ضخم. كان طرفا هذا الحبل السميك يصلان بين الضفتين المتقابلتين لنهر بياندز. على هذا النحو، تم سحبنا ببطء نحو أفغانستان.
 
بلغت العبّارة وجهتها بارتطام خفيف، وسرعان ما وطأت قدميّ الأراضي الأفغانية. لم يكن هناك أي نور على الإطلاق. ولا أعتقد أنني شهدت ظلمةً كتلك في حياتي بأسرها. كنت أحمل على ظهري حقيبة ظهر بسعة 65 لترًا تحتوي على كيس نوم وبطانة وبعض الملابس والمؤن ومعدات للطبخ. وربطت بصدري حقيبة أخرى تحمل هاتفا يعمل بالأقمار الصناعية وجهاز كمبيوتر محمول. وكانت كلتا يدي تحملان أوعية ثقيلة تحتوي على الماء النظيف.
 
ليس للمرة الأولى – ولن تكون الأخيرة - التي أجد فيها نفسي في مكان لا أعرف فيه شيئًا ولا اتجاها ولا أحدا، تماما مثل ما عشته في مورمانسك وبولاوايو وبغداد. خلال مسيرتي المهنية في مجال الإعلام وإعداد التقارير، كانت تلك الأماكن وغيرها الكثير محيرةً في بادئ الأمر. كان عليّ فهم مجرى الأحداث من حولي بسرعة، ثم تجميع ما أدركته في تقارير قصصية لإحدى الصحف في لندن.
 
لكن هذه المرة كانت الأمور مختلفة عن مهماتي السابقة، رغم أن بعضها كان صعبا للغاية. لقد دخلت منطقة من البلاد تكاد تخلو من أي شوارع حقيقية ولا توجد أي علامات إرشادية. كما أنه لم يكن هناك أي كهرباء أو مياه جارية. ببساطة، كانت الأراضي التي كنت على وشك العمل فيها غريبة للغاية.
 
لم أكن أقف في أرض غريبة فحسب، بل كنت أعيش وأحاول العمل في عالم تغيرت معالمه تمامًا. على بعد حوالي سبعة آلاف ميل (حوالي 11 ألف كيلومتر) غربا، كانت بقايا برجا بتروناس التوأم تحت الرماد. ولم يحص عدد القتلى الدقيق في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر بعد. في واشنطن، كان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يتحدث بالفعل عن "الحرب على الإرهاب" معلنًا أن هناك "ملصق قديم من الغرب يقول: (مطلوب: حيا أو ميتا)".
 
لقد كانت "الحروب الأبدية" على وشك أن تبدأ.
من نوتنغهام إلى نيويورك
 
 
على غرار معظم مراسلي الأخبار، فإنني متردد من الكتابة عن نفسي. على مر ما يقرب من 40 سنة في مجال الصحافة، يمكنني عد المرات التي استخدمت فيها ضمير المتكلم "أنا" على أصابع اليد. تتمثل وظيفتي في مراقبة الأشخاص الآخرين، وطرح الأسئلة عليهم، وتسجيل ما يقولونه وما يفعلونه وما لا يفعلونه. ولكن مثل الكثير من الناس حول العالم، فإن حياتي منقسمة إلى قسمين: ما قبل أحداث 11 سبتمبر، وما بعدها.
 
مع اقتراب الذكرى العشرين للهجمات، كنت أتحدث مع بعض الأصدقاء والزملاء عن تجربتي في ذلك اليوم وخلال الأشهر والسنوات التي تلته. وكنت أفكر في كيفية انقشاع الضباب عن تفكيري بصدد كل ما اكتشفته عقب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر.
 
في البداية، كنت منجذبا بالتقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان التي كانت ترتكبها الحكومات الغربية يستهويني لأنني ظننتها تظليلية (ومن المعروف أن الصحفيين يحبون هذا الأمر- هناك قول مأثور قديم في غرف الأخبار مفاده: "إذا عض كلب رجلًا، هذا ليس خبرًا، أمّا إذا عض رجل كلبًا، فهذا هو الخبر").
 
بمرور الوقت، أدركت أن هذه الانتهاكات لم تكن تضليلية. عندما تعتقد أي دولة بأنها تحت تهديد ما، فستقدم بهدوء على انتهاك القواعد التي تدعي احترامها، والبدء بفعل أي شيء دون إحجام. وبعد ذلك، ستبذل بعض الحكومات كل ما بوسعها في سبيل التستر على جرائمها.
 
في سنة 2011، كنت أشغل منصب كبير المراسلين في صحيفة "لندن تايمز". وفي الساعة الثانية ظهرًا من يوم الثلاثاء الموافق 11 أيلول/ سبتمبر، كنت جالسًا في محكمة نوتنغهام الواقعة في منطقة ميدلاندز الإنجليزية، في انتظار بدء إحدى المحاكمات.
 
لقد كانت في الواقع إعادة لمحاكمة: كان المدعى عليه قد أدين بالفعل بضرب أم وابنتها البالغة من العمر ست سنوات حتى الموت باستخدام مطرقة أثناء سيرهما على طول ممر ريفي، وترك الأخت الأخرى، التي تبلغ من العمر تسع سنوات، على قارعة الطريق لتلقى حتفها. كانت محكمة الاستئناف قد أمرت بإعادة المحاكمة، وقد بدا الأمر برمته كحدث كبير للغاية حينها.
 
بعد بضع دقائق من الثانية ظهرا - أو بُعيد الساعة التاسعة صباحًا في نيويورك – لمس كتفي زميلٌ من صحيفة "لندن إيفنينغ ستاندرد" قائلا: "يريد أحد زملائك من مكتب الأخبار التحدث إليك". تلقّى هذا المراسل المكالمة عبر هاتفه المحمول الذي يمكن تركه على الوضع الصامت بحيث يهتز فقط عند الاتصال به: مع العلم أن ذلك كان ابتكارا جديدا في ذلك الوقت.
 
أخبرني محرر أخبار في لندن أن طائرتين قد قصفتا مركز التجارة العالمي، وطُلب مني الوصول إلى مطار هيثرو في أسرع وقت ممكن. ركضت إلى فندقي لتسجيل المغادرة، وهرعت إلى موقف السيارات القريب وانطلقت مسرعا. على الطريق السريع، اتصلت بصديق في نيويورك على هاتفي، والذي أعلمني أن طائرة ثالثة قد ضربت مبنى البنتاغون للتو.
 
وصلت من نوتنغهام إلى هيثرو، قاطعا 130 ميلاً (حوالي 209 كيلومتر)، في حوالي 90 دقيقة، إذ كنت أقود بسرعة خطيرة بين الحين والآخر.
 
لم يخطر ببالي أنه قد يتم تعليق جميع الرحلات الجوية. وجدت نفسي عالقًا في مطار هيثرو لمدة لا أذكرها تحديدا - يوم؟ يومان؟ (علمت لاحقًا أن إحدى الطائرات من طراز "دي سي 10" قد استطاعت عبور المحيط الأطلسي في ذلك الوقت. وكان هذا الاكتشاف، الذي جاء بعد سنوات، مهمًا جدًا في عملي).
 
في النهاية، استؤنفت الرحلات الجوية إلى تورونتو. بحلول الوقت الذي صعدت فيه إلى واحدة، كنت أفكر بالفعل أنني كنت أسير في الاتجاه الخاطئ: إذا أردت أن أفهم ما حدث، ولكي أبلغ عما سيحدث بعد ذلك، يجب عليّ أن أسافر شرقًا، وربما أن أبدأ في إسلام أباد.
 
لم تكن هناك رحلات جوية أو قطارات متجهة من تورونتو إلى نيويورك. خرجت من محطة الاتحاد في قلب المدينة الكندية، واقتربت من أول سيارة أجرة في الموقف وسألت سائقها إذا كان على استعداد لإيصالي حتى نيويورك، في رحلة تبلغ مسافتها 500 ميل (804 كيلومتر).
 
وافق السائق دون تردد، واتفقنا على سعر. ثم قال إنه سيحتاج إلى العودة إلى المنزل لإحضار جواز سفره. لكنه بدا مضطربًا بعض الشيء عندما اقتربنا من منزله فسألته عما إذا كان كل شيء على ما يرام. وأوضح قائلاً إنه "لم يسبق لأي من ركابي رؤية منزلي من قبل". لقد كان يعيش في قصر. بعد ذلك، سافرنا ليلاً وعبرنا الحدود من نياغرا. بحلول الفجر، وصلتُ أخيرا إلى موقع الانفجار.
 
بقدر ما كان عدد القتلى مروعًا (ثبت مقتل 2996 شخصًا في النهاية)، افترض الكثيرون في ذلك الوقت أن الرقم سيكون أعلى من ذلك: تحدث السفير البريطاني عن توقعات تفيد بأن أعداد القتلى البريطانيين وحدهم قد تصل عدة آلاف. ومع ذلك، لم يستطع سوى قلة من الناس نعي أحبائهم في تلك الأيام الأولى، لأنهم لم يجدوا لهم أثرا بعد؛ في كثير من الحالات، ظل إخوتهم وأزواجهم وأبنائهم وبناتهم مجهولي المصير، وبدا كأنهم قد اختفوا عن وجه الأرض.
 
غُطّي كل جدار ونافذة في المدينة بصور الأصدقاء والأقارب المفقودين، إلى جانب أرقام هواتف ومناشدات لأي معلومات عما حدث. ومع ذلك، كان هناك شعور واضح بالحداد، على فقدان حصانة أمريكا تحديدا. كان الناس متوترين ومرهقين وعيونهم غائرة. أصبحت المدينة بمثابة مركز تفشي وباء الصدمات النفسية. كما خيّمت عليها رائحة نتنة. كانت رائحة مدينة نيويورك مثل رائحة الفرامل الساخنة.
 
السفر شرقًا
 
 
بعد العمل في نيويورك لبضعة أسابيع، اتجهت شرقًا. بدأت رحلتي في موسكو، حيث حصلت على تأشيرة لدخول طاجيكستان. ثم اتجهت جنوبًا إلى عاصمة طاجيكستان دوشنبه. هناك ساعدني طالب شاب وذكي في الحصول على إذن للانضمام إلى قافلة إمداد كانت على وشك أن تُرسل إلى أفغانستان من قبل معارضي طالبان، الجبهة المتحدة الإسلامية القومية لتحرير أفغانستان- أو ما يسمى بالتحالف الشمالي.
 
تم الاتفاق - بعد دفع بضع دولارات - على أن أعبر نهر بينادز مع القافلة، ثم أكمل الطريق بمفردي. وهكذا وجدت نفسي أقف في الظلام على الجانب الجنوبي من النهر، بحيث لم يكن على مرأى عينيّ سوى بعض المباني الصغيرة التي استطعت لمحها بشكل ضبابي في الظلام. كنت قلقا، لكنني شعرت بشيء من الحماس أيضا.
 
كنت واثقًا من أن أحدا ما سيعرض العمل لدي، إذ كنت في مكان عادةً ما يتجول فيه المترجمون والمنسقون والسائقون، بحثًا عن الصحفيين الذين يدخلون البلاد. كما هو متوقع، اقترب شاب مني بعد فترة وجيزة من نزوله من العبارة وسأل بلغة إنجليزية ممتازة ما إذا كنت بحاجة إلى مترجم ودليل. كان اسمه فريد. وسرعان ما اكتشفت أن فريد كان شابا ذكيًا يتمتع بروح الدعابة والحيلة، ولم يكن بإمكاني القيام بعملي لولاه.
 
عملنا معًا لعدة أسابيع في شمال أفغانستان، وكان مركزنا في البداية خواجة بهاء الدين، وهي بلدة وعرة ومغبرة حيث اغتالت القاعدة أحمد شاه مسعود، المعروف باسم "أسد بنجشير"، قبل يومين من 11 أيلول/ سبتمبر. ولفترة من الوقت، رافقَنا مصور مجلة "تايمز" بيت نيكولز، الذي التقط الصور التي تُجسد هذه الحادثة.
 
كان فريد معتزّا جدا بمسقط رأسه وادي بنجشير، وهي المنطقة التي لم يستطع الاتحاد السوفييتي ولا طالبان إخضاعها.
 
سافرنا إلى طالقان وقندوز، وكنا في غضون ذلك نقدم تقاريرا عن الصراعات بين طالبان والتحالف الشمالي.
 
في كل مرة، وفي كل مكان، لم نتمكن فيهما من الوصول إلى خطوط أرضية أو هواتف محمولة، حاول فريد البقاء على اتصال مع عائلته في بنجشير من خلال إرسال رسائل منطوقة مع سائقي الشاحنات، الذين يقومون بنقلها إلى سائقين آخرين، وهكذا على أمل أن تصل إلى بلدته وعائلته. وقد بدا ذلك طريقة فعالة للغاية لإيصال الأخبار.
 
لدي الكثير من الذكريات الحيّة عن أفغانستان في ذلك الوقت، بما في ذلك الطرق المعلّمة التي تدل على الممر الآمن عبر حقول الألغام، والحمّامات الجماعية، وغناء الرجال العميان على عشائهم، وجرّاح في مستشفى ميداني - الرجل الحليق الوحيد الذي رأيته في أفغانستان في ذلك الوقت - وهو يعقّم أدواته في أحواض من الفولاذ المقاوم للصدأ قبل المعركة، والأزيز الذي كان يملأ الهواء من حولي قبيل الضربات الجوية، والخندق الضحل الذي قفزت فيه لأقع على ركبتيّ بشكل مؤلم.
 
لقد كان مكانًا شديد الخطورة بالنسبة لصحفي. ذات يوم، كنت أتجاذب أطراف الحديث في مقهى على جانب الطريق مع الصحفي الألماني فولكر هاندلويك. وفي اليوم التالي، علمت بمقتله بالرصاص هو وصحفيين اثنين آخرين، بينما كان يستقل  على ما يبدو عربة مدرعة تابعة للتحالف الشمالي.
 
غالبًا ما أدى تراجع طالبان إلى العودة إلى حالة من انعدام القانون التي بذلت الحركة جهدها للقضاء عليها تماما. لقد كان الأمر يسير على النحو الآتي: تنسحب طالبان من بلدة ما، فتعمّ أيام قليلة من السلام والهدوء، إلا أنه سرعان ما يبدأ اللصوص المسلحون بالخروج إلى الشوارع غير المضاءة ليلاً.
 
بعد عشرة أيام من وفاة فولكر، وبينما كنتُ على الخطوط الأمامية للمواجهة، التقيت بالمصور التلفزيوني السويدي أولف سترومبرغ، والذي بدا لي حينها كرجل رصين وطيب القلب.
 
بعد ليلة أو ليلتين، بينما كنت أسير مع إمام يتقن الإنجليزية في طالقان، تعرضتُ للتهديد من قبل مجموعة صغيرة من الأولاد الذين يبلغون من العمر حوالي 15 سنة، أسرع الإمام باصطحابي إلى مسجد قريب وشرح لي أنهم كانوا يطالبونني بتسليم قبعتي الدافئة، موضحًا أنني كنت مهددا حقا للتعرض لإطلاق النار.
 
بعد ذلك، يبدو أن الأولاد اتجهوا إلى منزل كان يقيم فيه أربعة صحفيين سويديين، حيث قاموا بسرقة اثنين تحت تهديد السلاح، وقتلوا ثالثا: أولف سترومبرغ.
 
على الرغم من خطورة أن تكون صحفيًا في أفغانستان في ذلك الوقت، فقد كان الأمر أكثر خطورة إذا ما كنت مدنيًا أفغانيًا. وفقًا لإحدى الدراسات، قُتل ما بين 1000 و 1300 شخصًا في أفغانستان بسبب الضربات الجوية فقط بحلول نهاية سنة 2001.
 
عندما عدتُ إلى غرفة العمليات في خيمة الجراح الذي كان حليق الذقن، كان بصدد علاج عائلة أصيبت بقذيفة وقعت بجانب الطريق الذي كان أمامي مباشرةً. استلقى أحد أفراد الأسرة وهو يئن على سريره، ومظهره يشير إلى أن أسدا قد نهشه. وكان آخر مجرد جثة ملقاة على طاولة عمليات مغطاة ببطانية. بجانب الطاولة، وقف صبي في الثامنة أو التاسعة من عمره بوجه خال من التعابير. كانت يده مخبأة تحت البطانية، حيث كان يمسك بيد القتيل.
 
في البداية، لم تكن طالبان قوة عاجزة. كانت الحركة تمتلك المدافع والدروع، لكن وصول القوة الجوية الأمريكية والبريطانية قلَب الموازين بشكل كبير، وسرعان ما قُضي على سلسلة من الأهداف السهلة.
 
بمساعدة فريد، أدركت كيف أن الحرب في أفغانستان شملت تقليديًا سبل التفاوض والرشوة والتجارة، فضلاً عن العنف. استطعت أن أرى مقدار الوقت الفعليّ الذي يقضيه هؤلاء المتنافسون في التحدث إلى بعضهم عبر الراديو المحمول – حيث يقومون بعقد الصفقات إلى جانب التخطيط للمعارك.
 
ذات مرة، وقفت على خط المواجهة بالقرب من ولاية قندز، وشاهدت الجانبين يتفقان على صفقة سجين مقابل جثث بواسطة جهاز اتصال لاسلكي: أرادت طالبان عودة السجناء - المقاتلين الذين تم أسرهم خلال هجوم أخير على قرية مجاورة - بينما أراد التحالف الشمالي استلام عدد من الجثث الملقاة في الأرض المحايدة في واد بين تلتين خاويتان ومغبرتان. وفي النهاية، تم الاتفاق على صفقة التبادل: سيتم تسليم ثلاث جثث مقابل كل سجين حي.
 
عبر اللاسلكي، أبلغ قائد طالبان نظيره في التحالف الشمالي أنه رأى أجنبيا بينهم، وطلب منه التأكد من عدم وقوع هجمات من الجو أثناء التبادل. قيل له إن الرجل الذي شاهده بالمنظار كان صحفيًا من لندن، وليس له أي سلطة على الضربات الجوية على الإطلاق.
 
أرسل التحالف شاحنة روسية قديمة زرقاء اللون رفقة أربعة سجناء متجمعين في الخلف، وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم. وبعد فترة وجيزة، عادت الشاحنة، وقفزنا لإحصاء عدد الجثث في الخلف، كان هناك تسع جثث. ولم أكن بحاجة إلى فريد لترجمة التعليقات الغاضبة من حولي والتي تقول: "لقد خدعونا".
 
لم يترك أحد للقتال
 
 
في نهاية السنة، شعرت القوات البريطانية الخاصة المنتشرة في جبال الأسماي المطلة على كابول بالفزع لإدراكها أن وسائل الإعلام العالمية قد وصلت إلى هناك قبلها. وأوضح لي أحد الأصدقاء لاحقا خيبة الأمل التي شعروا بها، قائلا إن "إذا كانت الصحافة موجودة بالفعل، لكان الأمر أقل خطورة".
 
عندما دخلت القوات البريطانية الأولى إلى المدينة، في وقت متأخر من الليل، كانت شاهدة على قتال في الشارع بين مصورين بريطانيين يتنافسان على أفضل مكان لتوثيق لحظة وصول القوات.
 
بحلول شهر كانون الثاني/ يناير، بدا أن كهوف تورا بورا قد طُهّرت من مقاتلي طالبان والقاعدة. وفي وقت لاحق، أثناء تجولها في شرق البلاد، اكتشفت قوات مشاة البحرية الملكية البريطانية أنه لم يبق أحد للقتال.
 
كنت في كابول، وكان هناك شعور كبير بالارتياح لرحيل طالبان. وعلى الرغم من اضطرارنا للنوم على الأرض، كنت أستمتع بالهدوء الذي كان يسود المنزل الذي استأجرناه. وبدا أن الهدوء قد ساد المدينة بأكملها.
 
كان مترجمي في العاصمة الأفغانية ابنا رجل كان يعمل ضابطا كبيرا في المخابرات الأفغانية، الشرطة السرية أيام الاحتلال السوفيتي، ويتمتع بعلاقات جيدة مع العديد من الجهات بشكل مذهل.
 
في ذلك الوقت، كانت هناك حفلات استقبال في السفارة البريطانية التي أعيد افتتاحها حديثا، ومباريات كرة قدم  أقيمت في ملعب غازي، حيث كانت طالبان ذات مرة تنفذ عمليات الإعدام والبتر، كما تنافس لاعبو البوزكاشي في كابول ضد فرق من وادي بنجشير. ولم أشاهد مثل هذه اللعبة المربكة والعنيفة والمثيرة في نهاية المطاف.
 
مع استئناف الغارات الجوية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أقر بوش بالحاجة إلى تشكيل حكومة قوية في كابول، وبدأت الحكومات في جميع أنحاء العالم في تقديم تعهدات بالمساعدة، ولكن لم تلتزم جميعها بها.
 
بحلول مطلع سنة 2002، اقتنع البيت الأبيض بفكرة بناء الدولة. وعلى الرغم من ادعاءاته الأخيرة بعكس ذلك، كان الرئيس جو بايدن أحد أكثر المدافعين حماسةً عن المشروع. واستمرت الفوضى والجرائم الخطيرة في التوسع خارج كابول، وتواصلت الحرب لأكثر من عقدين. وكان الصراع الاجتماعي والسياسي والعرقي معقدا، تغذيه القوى العظمى والجيران الإقليميون عديمي الشفقة. وافترض العديد من سكان كابول أن القتال سيُستأنف قريبا.
 
قد يتحدث البعض عن هجوم الربيع المقبل. وكنت أسألهم لماذا تعتقدون أن هجوما سيحدث في الربيع. وكانوا يجيبون "لأن هذه هي أفغانستان. وهناك دائما هجوم الربيع". ما زال أمامي الكثير لأتعلمه، لا سيما عن الحقائق القديمة للحياة والموت في أفغانستان، وعن الطابع الحقيقي "للحرب على الإرهاب" الوليدة على حد سواء.
 
في أحد أيام الشتاء في كابول، اتصلت بالمكتب الذي أعيد افتتاحه مؤخرا لمنظمة دولية غير حكومية كبرى. وهناك، أبلغني مسؤول كبير بهدوء أن الأمريكيين بدأوا في تعذيب سجناءهم في مركز احتجاز في قندهار. حينها شعرت بالفزع. فلن يصل الأمر بالأمريكيين إلى مستوى التعذيب، على الرغم من بشاعة الجرائم التي ارتكبت في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر. وسألته كيف علم بذلك.
 
أوضح أن الصليب الأحمر كان متواجدا داخل المركز، وأجرى مقابلات مع السجناء، وقد أكدت الروايات التي قدموها على الانتهاكات التي تعرضوا لها. وكان هناك نمط معين. واعتُبر ذلك بمثابة ادعاء استثنائي لدرجة أنني اعتقدت أنني بحاجة إلى مصدر ثانٍ للتأكد. وقد بحثت بجد عن هذا المصدر الثاني، ولكن لم أتمكن من العثور عليه.
 
لو كنت أعرف حينها ما أعرفه الآن، لكنت أدركت أن المصدر الثاني كان أمامي طوال الوقت. وفي 11 كانون الثاني/ يناير، عندما تم جر أول السجناء بملابس السجن على الأرض في مخيّم إكس-راي، في خليج غوانتانامو، تم تصويرهم من قبل مصور البحرية الأمريكية، شين ماكوي. ثم حصلت وكالة "أسوشيتيد برس" للأنباء على خمس من صور ماكوي.
 
وقد أظهرت تلك الصور أن جميع السجناء كانوا يرتدون كمامات على أفواههم، ونظارات سوداء واقية سوداء، وسدادات أذن، وقفازات سوداء سميكة. ولم تكن هذه الإجراءات أمنية، بل كان هؤلاء الرجال يتعرضون للحرمان الحسي.
 
قد وثق الجيش الأمريكي لجوءه للتعذيب، ثم وزع الأدلة على جميع أنحاء العالم. ولكن مثل البقية، لم أكن مطلعا بما يكفي على هذه الأمور لأتمكن من فهم أهمية ما كنت أشاهده. ولم أدرك في ذلك الوقت أنني كنت أشاهد صور رجال يتعرضون للتعذيب.
 
في شهر آذار/ مارس، بدأ الهدوء بالتلاشي. فقد اندلع القتال في أفغانستان مرة أخرى، كما توقع الناس في كابول. وجدّت اشتباكات بين القوات الأمريكية وطالبان وقوات القاعدة بالقرب من غرديز في جنوب شرق البلاد على بعد أميال قليلة من الحدود مع باكستان.
 
ولكن بحلول ذلك الوقت، تحولت أنظار الجميع إلى مكان آخر. فقد بدت الإطاحة بحركة طالبان سهلة، كما أن ردود الفعل على أهوال الحادي عشر من سبتمبر كانت غير كافية بالمرة. وصرح كل من بوش، وتوني بلير، والبنتاغون، ووسائل الإعلام العالمية قائلين: لقد كنا جميعا نتطلع إلى العراق. وكنا نستعد للحملة القادمة من الحروب الأبدية.
 
غزو ​​العراق
 
 
في وقت لاحق من تلك السنة، وبعد فترة قصيرة من تغطية آخر التطورات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقيامي بتغطية مباريات كأس العالم لكرة القدم في اليابان، أُرسلت إلى العراق لمتابعة الغزو.
 
زرت البلاد أول مرة في سنة 1998، عندما كنت أقود سيارتي عبر الصحراء الغربية للإبلاغ عن حملة القصف التي استمرت أربعة أيام والتي شنتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد أهداف في جميع أنحاء البلاد.
 
وقع تبرير هذه الهجمات بعدم تعاون صدام حسين مع مفتشي الأمم المتحدة الذين يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها. لقد كانت تلك التجربة مثيرة للاهتمام، حيث كنت متواجدا في الطرف المتلقي لضربات سلاح الجو الملكي. عدت مجددا إلى العراق في سنة 2002، حيث تزعم الحكومة البريطانية أن أجهزتها الاستخبارية أظهرت "بالدليل القاطع" أن صدام حسين كان ينتج أسلحة كيماوية وبيولوجية.
 
سافرت من عمان وقضيت عدة أسابيع وأنا أتنقل داخل جميع أنحاء البلاد، وعملت مرة أخرى مع بيت نيكولز، وأُبلغت عن الطريقة التي كان الناس يستعدون بها للحرب التي لا مفر منها.
 
على غرار جميع الصحفيين الذين يزورون العراق البعثي، كُلّفنا بمرافقة وزير الإعلام، وقد رافقنا شرطي سري ناطق باللغة الإنجليزية في كل مكان ذهبنا إليه، وكان يكتب تقريرا عن أنشطتنا كل مساء.
 
يوميا، بينما كانت غرف الفنادق التي حجزناها تخضع للفحص، كان مسؤول حكومي يفتشها بعناية (أعرف ذلك لأن صحفيا بريطانيا مغامرا قام بتصوير عمليات البحث سرا). وفي إحدى الأمسيات، عندما كنت أتناول السمك في مطعم في الهواء الطلق على ضفاف نهر دجلة، انحنى معلّمي نحوي وهمس في أذني "أنت تعرف إيان، لا توجد أسلحة دمار شامل. لقد كانت موجودة في السابق، ولكنها غير موجودة الآن. صدقني، أنا أعلم ذلك".
 
لم أثق به. لقد كان يتجسس علي في الواقع. علاوة على ذلك ، لم أستطع أن أقبل بسهولة أن صدام سيمنح الأمم المتحدة فرصة - إلى حد إقدام الولايات المتحدة وحلفائها على غزو البلاد - لإخفاء ما لم يكن يمتلكه، بدلا من إخفاء ما فعله. ولقد كنت مخطئا تماما، ولم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة.
 
خلال سنة 2002، لم أتقبل أبدا ادعاء حكومة المملكة المتحدة، الذي قدمته على مدار السنة، بأنه لم يتم اتخاذ أي قرار بشأن ما إذا كانت ستخوض حربا مع العراق.
 
ولكنني أعترف، بشكل يمس من مصداقيتي، بأنني ر كنت أرغب في تجاوز الأمر. وذلك ليس لأنني اعتقدت أن نظام صدام سيء (رغم أنني كنت أعتقد ذلك حقا)، ولا حتى لأنني اعتقدت أنه ما زال يشكل تهديدا للأمن الإقليمي. بل ببساطة، كنت على يقين بأننا سنخوض الحرب مهما حدث، وكنت أدرك أنني مطالب بتقديم تقرير عن تلك الحرب. لقد كنت أرغب في الابتعاد عن هذه المهمة.
 
بعد بضعة أشهر، كنت متوجها نحو العراق مرة أخرى، وهذه المرة من الكويت، حيث بدا أن الفنادق تعج بآلاف عمال البناء الأمريكيين الأشداء، في انتظار التحرك شمالا للمساعدة في إعادة بناء البلاد.
 
عبرت الحدود على إثر القوات البريطانية التي كانت تشق طريقها إلى البصرة.
 
وفي قصر صدام على ضفاف شط العرب، صادفت طابورا من السجناء العراقيين، راكعين في الشمس، ورؤوسهم مغطاة وأيديهم المقيدة بأصفاد بلاستيكية خلف ظهورهم.
 
عدت بعد ساعات قليلة وكان السجناء هناك راكعين على أرجلهم بشكل مستقيم ورؤوسهم مغطاة، تحت أشعة الشمس الحارقة. واقترب مني اثنين من مسعفي الجيش البريطاني وأكدا أنهما قاما للتو بإنعاش سجين كان يخضع للاستجواب من قبل القوات الخاصة في قبو أحد المباني في المدينة.
 
قالا إنه كان هناك عددا من السجناء، وكانت رائحة المكان كريهة تفوح برائحة البول والدم والقيء. وهذا لا يشبه عمليات التعامل مع الأسرى التي شهدتها على الحدود السعودية الكويتية خلال حرب 1991.
 
في ذلك الوقت، كان الجنود البريطانيون يعتنون جيدا بسجنائهم العراقيين، الذين تعرضوا لصدمة نفسية ومعاملة سيئة بعد أسابيع من القصف الجوي. لقد قدموا لهم الماء والمأوى، وسمحوا لهم بالتدخين قبل نقلهم.
 
في ذلك الوقت، كان الجنود ومشاة البحرية البريطانيون يسيطرون على المدارس الابتدائية في البصرة، ويستخدمونها كقواعد عسكرية. وخارج عدد من هذه المدارس، بدأت تتشكل طوابير من الرجال الذين يحملون الدلاء والزجاجات لتعبئة الماء.
 
أوضحوا لي أن التيار الكهربائي انقطع ولا توجد مياه جارية. وأضاف أحدهم أن "الأمر لم يكن كذلك في عام 1991 أو 1998. وقال مشيرا إلى إيران: "لم يكن الأمر كذلك عندما كنا نحاربهم".
 
كان البريطانيون بالطبع يمتلكون كهرباء وفيرة بفضل مولداتهم. وذهبت لرؤية ضابط مسؤول عن اللوجستيات والإمدادات، وشرحت له ما يجري خارج قاعدته. وأوضح أن مهمة وحدته كانت تتمحور حول طرد الجيش العراقي والميليشيات البعثية، ولكن تم الانتهاء من هذه المهمة. وقال مازحا: "قد نعود إلى أرض الوطن بحلول شهر نيسان/ أبريل".
 
بدأت عصابات اللصوص تجتاح المدينة، أغلبها من الفتيان الصغار، الذين كانوا يزيلون أي قطعة معدنية أو أسلاك يجدونها، وهذا ما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي. وفي ظل انعدام الأمن وغياب الشرطة وعدم توفر السجون، تبنى الجنود البريطانيون المرهقون سياسة أطلقوا عليها اسم "التبلل"، عن طريق إلقاء اللصوص في شط العرب، حتى يضطروا للعودة إلى منازلهم، وارتداء ملابس جافة، والتوقف عن السرقة لفترة من الوقت. ولكن غرق عدد منهم حتما.
 
لم يقع مشاهدة مقاولي البناء الأقوياء، الذين كانوا يتسكعون حول فنادق الخمس نجوم في مدينة الكويت، في أي مكان. ويمكن لمراسلي الحرب أن يكونوا أشخاصًا ضيقي الأفق بشكل يثير الفضول. وفي كثير من الأحيان، يمكنهم الإبلاغ فقط عما يرونه، ويعتبر ما يسمى "بالصورة العامة" أمرا بعيد المنال، وأحيانا يكون الوصول إليها أكثر سهولة بالنسبة للأشخاص الذين يراقبون من بعيد.
 
لذلك، عندما اتصل بي محرر صحيفة "التايمز" على هاتفي المتصل بالأقمار الصناعية، لسؤالي عن كيفية سير الحملة، أجبته قائلا "حسنا، بالنظر إلى ما يحدث أمامي، يجب أن أقول إنني لا أعتقد أن الأمور تسير على ما يرام على الإطلاق".
 
في مطلع شهر أيار/ مايو سنة 2003، نقل الرئيس بوش إلى حاملة الطائرات الأمريكية "يو إس إس أبراهام لينكولن"، حيث ألقى خطابا أعلن فيه أن حركة طالبان "دمرت" وأن العمليات القتالية الرئيسية في العراق قد انتهت أيضا.
 
وأضاف: "في معركة العراق، انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها". تفاعل البحارة والطيّارون مع ذلك بالتصفيق والصراخ. وبرزت خلفه لافتة ضخمة كُتب عليها: "أنجزت المهمة". أُلقي الخطاب بالقرب من ساحل سان دييغو، على بعد آلاف الأميال من الشرق الأوسط.
 
الكشف عن التسليم
 
 
في سنة 2005، بعد أن عملت كمحرر أخبار في التايمز، انضممت إلى صحيفة الغارديان من أجل العودة إلى إعداد التقارير. في أول يوم لي في هذه الوظيفة الجديدة، اتصلت بصديق في واشنطن العاصمة لأمنحه عنوان بريدي الإلكتروني الجديد، حينها سألني بيل: "هل قرأت الصفحة الأولى من نيويورك تايمز اليوم؟"
 
لقد أثبتت الصحيفة أن وكالة المخابرات المركزية قد أنشأت سلسلة من المنظمات الواجهة في ولاية كارولينا الشمالية. ومن خلال هذه الشركات، امتلكت الوكالة عددًا من الطائرات النفاثة التي كانت تقلّ السجناء في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وتنقلهم إلى سجون سرية حول العالم. تلك كانت رحلات التسليم.
 
كما سألني بيل: "إذا كانوا يسافرون من ولاية كارولينا الشمالية إلى الشرق الأوسط، فيحتاجون إلى التزود بالوقود في مكان ما. أين تعتقد أنهم يفعلون ذلك يا إيان؟"
 
لقد كان محقا. في النهاية، من خلال تتبع أرقام الذيل للطائرة، تمكنت من إثبات أن وكالة المخابرات المركزية قد طارت من وإلى المملكة المتحدة 210 مرات على الأقل في السنوات الأربع منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، باستخدام 19 مطارًا مختلفًا وقواعد سلاح الجو الملكي البريطاني.
 
من جهتها، نفت الوكالة وجود أي محتجز على متن الطائرة عند طيرانها من المملكة المتحدة وإليها، ولم يظهر أي دليل يتعارض مع ذلك. في المقابل، لا ينطبق الأمر ذاته على القاعدة الأمريكية في دييغو غارسيا، وهي جزيرة تقع في إقليم المحيط الهندي البريطاني، وهي الوجهة التي يقع نقل المعتقلين إليها، والمكان الذي يزعم أنهم محتجزون به.
 
بحلول ذلك الوقت، كانت وسائل الإعلام الأمريكية تعمل على تقويض السرية التي تحيط بالتسليم السري وإساءة معاملة المشتبه في أنهم إرهابيون - أو اختطافهم وتعذيبهم، لاستخدام عبارات واضحة- متعمقةً في موضوع السبق الصحفي الذي لم أتمكن من تغطيته في كابول في كانون الثاني/ يناير 2002.
 
مع نهاية السنة، كانت هناك لحظتان فاصلتان في تاريخ المملكة المتحدة. أوّلاً، حين قضت لجنة الاستئناف التابعة لمجلس اللوردات - والتي كانت تسمّى حينها المحكمة العليا - أن المحاكم الأدنى لا يمكنها الأخذ بالأدلة التي ربما تكون قد انتُزعت تحت التعذيب. وقالت الحكومة إن لجنة الاستئناف الخاصة بالهجرة يمكنها النظر في مثل هذه الأدلة.
 
هدّد كبير القضاة اللورد بينغهام قائلا:" لأكثر من نصف قرن، اعتبر القانون العام الإنجليزي التعذيب وما ينتج عنه شيئا بغيضا".
 
ومع ذلك، فإن قرار مجلس اللوردات لم يمنع وزراء الحكومة من استغلال مثل هذه النصوص بطرق أخرى. قال أحد القضاة، وهو اللورد براون، إنه لم يكن من حق الحكومة استخدام ما وصفه بـ"ثمرة الشجرة المسمومة" فحسب، بل إنها تتحمل مسؤولية القيام بذلك لحماية أمن البلاد. حينها بدأت أفهم أن الحكومة البريطانية لن تتردد في ممارسة تلك الصلاحيات.
 
بعد خمسة أيام من صدور حكم مجلس اللوردات، أدلى وزير الخارجية جاك سترو بشهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم.
 
ولدى سؤاله عن استخدام وكالة المخابرات المركزية لمطارات المملكة المتحدة والمزاعم حول تورط المملكة المتحدة في برنامج التسليم، أجاب: "لا أريد أن نبدأ جميعًا في الإيمان بنظريات المؤامرة وأن المسؤولين يكذبون، وأنني أكذب، وأن وراء كل هذه القضية حكومة سرية ترتبط ببعض قوى الظلام في الولايات المتحدة، ودعوني أقول أيضًا، أن البعض يعتقد أن الوزيرة [كوندوليزا] رايس تكذب. بكل بساطة، هذه الادعاءات القائلة بأن المملكة المتحدة متورطة في عملية التسليم كاذبة، لأننا لم نفعل ذلك حقا".
 
لابد أن سترو كان واثقًا جدًا من أن الحقائق لن تظهر لاحقًا. في السنة التالية، بدأت لجنة الاستخبارات والأمن التابعة للبرلمان البريطاني، والتي كان من المفترض أن تشرف على وكالات الاستخبارات، تنظر في الأمر.
 
بعد عدد من جلسات الاستماع السرية، خلصت لجنة التحقيق الدولية في تموز/ يوليو 2007 إلى أن وكالتي المخابرات البريطانية، القسم الخامس والسادس في هيئة المخابرات العسكرية (إم أي 5) و (إم أي 6)، كانتا مذنبتين لكونهما لم تكتشفا بسرعة النمط الجديد لعمليات الترحيل السري التي تقوم بها وكالة المخابرات المركزية.
 
سيظهر في النهاية أنّ هذا غير صحيح تمامًا. ولكن في السنوات القليلة المقبلة، كان ضباط هيئة المخابرات العسكرية (إم أي 5) و(إم أي 6) يشيرون إلى تقرير مركز الدراسات الدولي، ويقولون للصحفيين: "لقد حصلنا على شهادة السلامة".
 
البصرة وهلمند
 
 
في غضون ذلك، بدأ البريطانيون في جنوب العراق يواجهون تمردا مسلحا، غير متوقع على الأرجح، بقيادة المرجع الشيعي مقتدى الصدر.
 
كان البريطانيون قد أصبحوا في عداء مع الكثير من سكان البصرة. وفي ظل يأسهم من جمع معلومات استخبارية عن جيش المهدي التابع للصدر، لجؤوا إلى الاستجوابات العنيفة. دقّ المحامون في الصليب الأحمر والجيش البريطاني ناقوس الخطر حيال تلك الممارسات، لكن عددًا من الأشخاص لقوا حتفهم بعد احتجازهم لدى القوات البريطانية.
 
وأثبت تحقيق أجري في وقت لاحق أن موظف استقبال في أحد الفنادق يُدعى بهاء موسى، أصيب 93 إصابة متفرقة قبل وفاته بعد 36 ساعة من الاستجواب.
 
وقال ضابط كبير بالمخابرات العسكرية للجنة التحقيق إن الأمريكيين اعتقدوا أن أساليب الاستجواب البريطانية كانت معتدلة للغاية ولم تسفر عن أيّ أضرار.
 
في أوائل سنة 2007، مع اشتداد الهجمات بقذائف الهاون والقناصة والتفجيرات على جوانب الطرق، أُعيدت صياغة قواعد الاشتباك، حيث صدرت تعليمات للقوات البريطانية في البصرة بإطلاق النار على أي مدني يحمل هاتفًا محمولًا أو مجرفة، أو لوحظت عليه تصرفات مريبة. 
 
في نهاية المطاف، عقد البريطانيون صفقة مع الميليشيات لإطلاق سراح السجناء مقابل وقف الهجمات على قواعدهم. ثم تراجعوا نحو مطار في ضواحي المدينة.
 
في لندن، كان مسؤولو الدفاع يتهامسون عمّا إذا كان بإمكانهم استخدام مصطلح "الهزيمة الاستراتيجية" علنًا عند مناقشة الحرب العراقيّة. في أفغانستان، لم تكن الحرب تسير بشكل أفضل.
 
في أوائل سنة 2005، قرر الناتو توسيع نطاق التزامه في أفغانستان. بحلول ذلك الوقت، شعر الوزراء في حكومة توني بلير والمسؤولون في وزارة الدفاع، بأن المملكة المتحدة لا تقدّم أفضل ما عندها في البلاد. وفي غضون ذلك، كان كبار ضباط الجيش متحمسين لغضّ الطرف عن الإخفاقات على الساحة العراقية وإطلاق حملة جديدة. تمّ التغاضي عمدا عن حقيقة أن المخططات الدفاعية البريطانية كانت تقوم على أن البلاد لا يمكنها خوض حربين في وقت واحد.
 
بعد إجراء تحقيق رسمي بريطاني حول الحرب في العراق، قال رئيس اللجنة السير جون شيلكوت، وهو موظف حكومي سابق رفيع المستوى: "عندما قررت القيام بعمليات متزامنة في العراق وأفغانستان، تجاوزت حكومة المملكة المتحدة عن عمد المخططات الدفاعية. سيتمّ استنفاذ جميع الموارد من هنا فصاعدا".
 
وقالت وزارة الدفاع لشيلكوت إنها لا تستطيع تفسير هذا القرار، وهو ما وصفه شيلكوت بأنه رد "غير مقبول".
 
أعلنت الحكومة البريطانية في نيسان/ أبريل 2006 أنها ستوسع جهود إعادة الإعمار في هلمند، جنوبي أفغانستان، حيث يُزرع ما يقرب من نصف محصول الخشخاش في البلاد، على الرغم من علمها بأنها تفتقر إلى الموارد اللازمة،
 
وقال قائد الجيش البريطاني ريتشارد دانات، للسفير البريطاني في كابول إنه إذا لم يرسل قوات إلى هلمند، في الوقت الذي تراجع فيه عدد قواته في العراق وتقلّصت العمليات في أيرلندا الشمالية، فقد كانت أعداد القوات في أفغانستان ستُخفض. وقد نُقل عنه أنه قال: "إما أن نستخدمهم أو أن نخسرهم".
 
جُمعت قوة قوامها 3300 جندي، وقال لي أحد الضباط الذين أشرفوا على تلك القوة: "كان الكنديون قد سيطروا على قندهار، ويبدو أن ما كانت تفكر فيه وزارة الدفاع [في لندن] هو أنها يجب أن تسيطر على قندهار".
 
ويضيف: "قررنا الذهاب إلى هلمند بدلاً من ذلك، وبعد اتخاذ القرار بالذهاب إلى هناك، أعلنت الحكومة أن سبب ذهابنا هو القضاء على الخشخاش. لقد ألقينا نظرة واحدة حولنا وقررنا أننا لا نستطيع أن نقضي على الخشخاش. إذ