كُتّاب الموقع
مضيقان وبحران: حول الصراع البحري الروسي – الأطلسي

علي جزيني

الخميس 8 تموز 2021

“حتى لو أغرقنا تلك السفينة (البريطانية)، فإنَّ ذلك لن يضع العالم على شفير حرب عالميّة ثالثة، لأن الذين يقومون به (الدفع بالسفينة)، يعلمون أنهم لن يخرجوا فائزين من هذه الحرب. هذا الأمر مهم جداً” – الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حزيران/يونيو 2021.

“تأخذ فرنسا الجزائرَ من تركيا. وفي كل عام تقريباً، تضمّ ​​إنكلترا إمارةً هنديةً أخرى. لا شيء من ذلك يخلّ بتوازن القوى، ولكن عندما تحتل روسيا مولدافيا ووالاشيا، ولو بشكل مؤقت، فإن ذلك يخل بتوازن القوى. تحتل فرنسا روما، وتبقى هناك عدة سنوات في زمن السلم. هذا الأمر لا يعني شيئاً، لكن عندما تفكّر روسيا فقط في احتلال القسطنطينية، يتهدّد السلام في أوروبا” – ميخائيل بوغودين، مؤرخ روسي في رسالة إلى القيصر نقولا الأول – 1953.

في هذا المقال، سنستعرض الأهمية الاستراتيجية لشبه جزيرة القرم من الناحيتين العسكرية والسياسيّة، في إطار سياسات الاتحاد الروسي في المنطقة الممتدة بين البحر الأسود وشرقي البحر المتوسّط، ولن نتكلم عن الأهمية الاقتصادية، ذلك أنّ هذا الجانب يحتاج إلى مقال منفصل.

شبه جزيرة القرم
في العام 1783، استعادت الإمبراطورية الروسية بقيادة إيكاترينا العظيمة شبه جزيرة القرم، محقّقة بذلك حلمها القديم بمرفأ على المياه الدافئة لا يتجمّد خلال فصل الشتاء. انتزعت روسيا القرم من خصمها اللدود الإمبراطورية العثمانية بعد حربٍ دامت 6 سنواتٍ بدأت في العام 1768.

من الأحداث التي يجهلها الكثيرون في بلادنا، أن التواجد الروسي العسكري الأول فيها بدأ من هناك؛ ففي هذه الحرب، قام أسطول البلطيق الروسي بالدوران حول أوروبا والوصول إلى سواحلنا، فقصف مدينة صيدا، واحتّل مدينة بيروت مرّتين، مسانداً ثورة ظاهر العمر على الإمبراطورية العثمانية.

استيطان شبه جزيرة القرم واستخدامها قاعدة بحريّة لم يبدأ من هذا التاريخ، بل يعود إلى أيام الدويلات اليونانية منذ ما قبل الميلاد، كما أنَّ الجَنَويين نفسهم أسّسوا مدناً تجاريّة محصنة من غارات التاتار الذين كانوا يجوبون السهول الداخلية في شبه الجزيرة. وقد سيطروا عليها سداداً لديونهم من الإمبراطورية البيزنطية، فكانت ممراً مهماً وعقدة تجارةٍ أساسية بين قارّتي آسيا وأوروبا.

عندما انتزع العثمانيون السيطرة عليها من الجَنَويين، لم يقوموا بإدارة معظمها بشكل كامل، بل فرضوا سيادتهم غير المباشرة على الخانية المكوّنة من قبائل التاتار المسلمة نفسها. لاحقاً، تعهّد الروس في المعاهدة الَّتي تلت حربهم مع العثمانيين بأن تبقى الجزيرة مستقلة عن كلا الطرفين. كان من الواضح أن الروس لن يلتزموا بذلك، فاستعادوها في التاريخ المذكور سابقاً.

على الرغم من أن مسار انحدار الإمبراطورية العثمانية لم يبدأ من هذه النقطة، بل يمكننا اعتبار هزيمتها في حصار فيينا الثاني في العام 1699 أقرب إلى ذلك، فإن هذه الحرب رسمت مساراً مستمراً من الصعود الروسي من الجهة المقابلة، يقابله انحدار عثماني استمرّ حتى سقوط الإمبراطوريتين بعد الحرب العالميّة الأولى.

لاحقاً، هُزمت الدولة العثمانية تقريباً في كلّ حروبها التي خاضتها مع الروس، وكان لدور أسطول البحر الأسود الذي تأسَّس أيضاً في العام 1783 دور أساسي في الإغارة على الموانئ التركيّة، وقطع خطوط الإمداد، ونقل الإمدادات، فتحوّلت هذه “البحيرة العثمانية”، كما كانت تسمى، إلى بحيرة روسية، ومن ثمّ إلى بحيرة سوفياتية خلال الحرب الباردة، بسبب الموقع الاستراتيجي للقرم والدور الذي تمنحه لمن يسيطر عليها.

حرب القرم 1853
يندر أن نجد حرباً مهدت لشكل السياسة الدولية القائمة على المصالح الواقعية للدول كحرب القرم، فقد رسمت ما ستكون عليه التفاعلات المستقبليّة بين ما سمّيت “الدول العظمى” في تلك الحقبة (روسيا، بريطانيا، فرنسا، والنمسا).

كانت الحرب في البداية حرباً عثمانيّة روسيّة، ثمّ تمددت لتشمل تدخّلاً أوسع من فرنسا وبريطانيا بشكل أساسي، بهدف كبح جماح روسيا ومنعها من الوصول إلى مضائق البوسفور والدردنيل الاستراتيجية، والتي تفتح الطريق أمام وصول هذه الإمبراطورية القاريّة الهائلة إلى المياه الدافئة من دون أي حاجز، فيصبح بالإمكان منافسة القوى الاستعمارية الأخرى في ميادينها. كان هذا أيضاً هدفاً تلازم مع استراتيجية الولايات المتحدة في حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي، كما كان بين أسلافها البريطانيين خلال حقبتهم الإمبراطورية الذهبية.

في العام 1833، تحوّلت روسيا إلى حامية للإمبراطورية العثمانية منذ أن أرسلت قواتها للدفاع عن القسطنطينية خلال حملة محمد علي الألباني، والي مصر، والتي كادت تسقط السلطنة العثمانية، حين نزل على شواطئ الدردنيل 10 آلاف جندي روسي وقفوا حائلاً بين المصريين وعاصمة العثمانيين.

تمكّنت روسيا وقتها من انتزاع لقب “حامي السلطنة” في معاهدة “هنكيار سكلسي”، والتي تغلق بموجبها الدولة العثمانية المضائق أمام السفن الحربية الأجنبية متى ما كانت روسيا في حرب. أثارت هذه الجزئية السريّة من المعاهدة غضب البريطانيين الذين أخذوا يتآمرون لإدخال الروس في حرب تضعفهم وتحافظ على سمّي بـ”توازن القوى” (balance of power).

بعد الضّغط السياسي على الروس، تمّ توقيع اتفاقية لندن للمضائق في العام 1841، وفيها عودة إلى العرف القديم في إغلاق المضائق أمام كلّ السفن الحربيّة غير العثمانية، ما عدا سفن “حلفاء السلطان”، في حال تعرضت السلطنة للهجوم. أعطت هذه المعاهدة أفضلية لا لبس فيها للبريطانيين، ودفعت الروس إلى إعادة التفكير في تغيير الوضع القائم، وكانت الحرب.

افتتحت الحرب في البحر الأسود بمعركة سينوب البحريّة. قام الروس فيها بتدمير الأسطول العثماني في المرفأ الشتوي في تلك المدينة الساحلية. المفارقة هنا تكمن في أنَّ البريطانيين كانوا قد رسموا الخط الأحمر لروسيا عبر سماحهم لها بالقيام بعمليّات دفاعية بحتة، فيما أعلموها بأن أية عمليّة هجومية تهدد بدخول “القوى العظمى” الحرب.

من جهة أخرى، اعترض البريطانيون، على لسان سفيرهم ستراتفورت كانينغ في القسطنطينية، على رغبة العثمانيين في إرسال سفن خطّ المعركة الضخمة إلى البحر الأسود، فيما وافقوا فقط على إرسالهم الفرقاطات والسفن الأصغر، فكانت نتيجة معركة سينوب محسومة قبل أن تبدأ، وولدت ذريعة الحرب (Casus Belli) التي أدخلت القوى العظمى في أتونها.

من نتائج هذه المعركة التي لا تدخل في سياق المقال بشكل مباشر، اكتشاف الأساطيل أهمية القذائف المحشوة بالمتفجرات المعزّزة بقبقاب، والمُطلقة من مدافع “بايكسهانس” (Paixhans)، وهي سلف القذائف الحديثة، عوضاً عن مدافع الكرات الفولاذيّة المُطلقة من السبطانات الملساء.

لن ندخل في تفاصيل هذه الحرب البريّة في جزيرة القرم، ولكن في المحصّلة ألحق جيش الحلفاء خسائر مهولة بالجيش الروسي المدافع. تمّ ذلك عن طريق مزيج من القصف المدفعي البحري والإنزالات البحريّة والهجمات المستمرّة على خطوط الإمداد الروسية عبر خليج آزوف.

تمكّن الحلفاء من احتلال مدينة سيفاستوبول الروسية في جنوب غرب القرم، حيث مقرّ أسطول البحر الأسود، بعد حوالى سنة من الحصار المطبق عليها. يقول الكاتب الأميركي مارك تواين بعد زيارة قام بها إليها في العام 1867: “على الأرجح أن سيفاستوبول هي أكثر مدينة مهشّمة في روسيا أو في أي مكان”. تولستوي أيضاً كتب قصص سيفاستوبول للحديث عن تجربته خلال تلك الحرب كضابط مدفعية صغير، كما استوحى منها أجواء اجتياح نابليون لروسيا الذي لم يعاصره في رواية “الحرب والسلم” الشهيرة.

البحر الأسود وخطوط الإمداد
كما حصل في حرب القرم في القرن التاسع عشر، شكّل أسطول البحر الأسود الروسي كابوساً للعثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، فهو لم يحرمهم من استعمال مرافئهم على هذا المسطّح المائي فحسب، إنما أعاق أيضاً عمليّة تموين القوّات المتمركزة في القوقاز عبر البحر، وهي عمليّة أسهل بكثير، نظراً إلى حمولة السفينة الواحدة ووعورة التضاريس والطرق في الأناضول.

في عودةٍ إلى حرب القرم، كانت النجاحات التي حقَّقتها القوات العثمانية في تلك الجبهة سبباً في مبادرة الروس إلى الهجوم على مرفأ سينوب والأسطول المتمركز فيه، نظراً إلى مشاركته في عمليّة التموين. في الحرب العالمية الأولى، كان الأمر أكثر سوءاً، نظراً إلى حجم القوّات الأكبر، وظروف الهجوم المجنون الذي قام به أنور باشا شتاءً في القوقاز، فقضى العديد من الجنود في كلا الحربين بسبب نقص التموين.

في الحرب العالميّة الثانية، كانت القرم عتبة لا يمكن القفز من فوقها، في محاولة القوّات الألمانية الوصول إلى حقول النفط في القوقاز. شهدت شبه الجزيرة واحدة من أعنف المعارك والحصارات التي حصلت على القطاع الجنوبي في الجبهة الشرقيّة، فتعرَّضت مدينة سيفاستوبول لحصار طويل دام حوالى 250 يوماً، قاسى المدافعون فيه الأمرّين، واستخدموا البوارج والمدمّرات في محاولة صدّ قوّات المحور المتقدّمة.

انتهى الحصار بعكس ما انتهى إليه حصار ليننغراد وستالينغراد، وسقطت المدينة بيد قوات المحور. كانت سيفاستوبول بعد الحرب واحدة من أكثر المدن تعرضاً للدمار في الاتحاد السوفياتي، في استعادة لذاكرة المدينة من حرب القرم.

مضيقان وبحران
منحت اتفاقيّة “مونترو” في العام 1936 أفضليّة لا لبس فيها لمرور السفن الحربيّة لدول حوض البحر الأسود، أي الاتحاد السوفياتي بشكل أساسي في وقتها. وقد توجّهت تركيا في هذا الاتجاه، رغبة منها في استحصال اعترافٍ دولي بحقها في تسليح المضائق، وهكذا فعلت بريطانيا، خوفاً من ميل تركيا نحو قوات المحور الذي بدأ بالتشكّل.

سمحت الاتفاقية بمرور سفن السطح الرئيسية لدول البحر الأسود ضمن إطار تنظيمي معيّن داخل المضائق، كما سمحت لتركيا بإغلاقها في حالة الحرب، وفرضت قيوداً على مدة بقاء (21 يوماً) سفن الدول غير المطلة على هذا المسطح ووزنها، إذ تحدّه بإزاحة لا تزيد على 10 آلاف طن في الظروف العادية.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991، استحصلت روسيا على العديد من الامتيازات من أوكرانيا الناشئة حديثاً في تشغيل ميناء سيفاستوبول واستئجاره كقاعدة لأسطول البحر الأسود، ذلك أنَّ ملكية شبه جزيرة القرم كانت قد نقلت من جمهورية روسيا السوفياتية إلى مثيلتها الأوكرانية بقرار من هيئة رئاسة مجلس السوفيات الأعلى في العام 1954.

كان القرار مثيراً للجدل في وقتها، كما ظلّ كذلك حتى العام 2015، بعد استعادة روسيا الاتحادية شبه الجزيرة عندما قام المدّعي العام في روسيا الاتحادية بإصدار حكم أعلن فيه عدم قانونيّة هذا الفعل بالنسبة إلى أوكرانيا.

من وجهة نظر روسيَّة، لا تشكّل شبه جزيرة القرم، كنقطة سيطرة على البحر الأسود، خاصرة رخوة لروسيا فحسب، من ناحية إسقاط القوّة والسيطرة التي تتيحها قاعدتها البحريّة على هذا المسطّح المائي، كما يظهر السرد التاريخي المتناول سابقاً، بل يشكّل أيضاً نقطة “هجوميّة” تنطلق منها روسيا نحو البحر المتوسّط، في محاولة لتوسيع دائرة الاشتباك الحاصل مع حلف شمال الأطلسي.

إنَّ أسطول (squadron) البحر المتوسّط الروسي، والذي تم تشكيله في العام 2013، لما يزل متواضع الحجم، وهو يعتمد على أسطول (fleet) البحر الأسود للمدّ بالقطع البحرية دورياً. وتشكّل كلا المجموعتين البحريتين سيناريو عمليّات واحد في أي تصعيد عمليّاتٍ مستقبلي.

واجهت البحريّة الروسية، كما مختلف قطاعات الجيش الروسي، مشاكل عديدة مرتبطة بالتمويل والصيانة مع سقوط الاتحاد السوفياتي. ولعلّها كانت أكثر القطاعات تضرّراً من هذا الحدث. إذا ما نظرنا إلى الأسطول الروسي السطحي، أي من دون الغواصات، فإن معظم السفن يعود تاريخ تعويمها إلى مرحلة ثمانينيات القرن الماضي.

هذه القطع البحرية، وخصوصاً الطرادات الضخمة والمدمّرات، ما تزال تتمتّع بقدرة ناريّة هائلة، ولكنها تفتقد الإلكترونيات الحديثة والتصميم الانسيابي الهادف إلى تقليل بصمتها الرادارية، كما نظيراتها الغربية، مثل “الإتش أم إس ديفيندر” (HMS Defender) التي اخترقت المياه الإقليمية لشبه جزيرة القرم منذ عدّة أيام، وهي مدمّرة من طراز “دارينغ” (Daring) يعود تاريخ دخولها الخدمة إلى العام 2013 مثلاً.

في تقريرٍ لمركز “جورج مارشال” للدراسات الأوروبية، من إعداد الباحث ديميرتي غورينبيرغ، تظهر مخاوف حلف شمال الأطلسي الحقيقية من النشاطات الروسيّة في البحر الأسود ومدى ترابط العمليّات فيه مع البحر المتوسّط، فبحسب معدّ التقرير، وهو بروفيسور في جامعة “هارفرد” وخبير في الشؤون الروسية، عملت روسيا على خلق “فقاعة” منع دخول وتحريم مساحة “A2\AD” في شرقي البحر المتوسّط، باستخدام قواعدها البريّة بالتوازي مع أسطولها البحري المتمركز إلى جانب السواحل السوريّة.

هذا التمركز منح الروس القدرة على فرض مظلّة دفاع جوي/بحري في تلك المنطقة، وإعاقة عمليّات حلف شمال الأطلسي فيها. إضافةً إلى ذلك، خلَق حالة من الردع أو “حزاماً حديدياً” يمتد من سواحل المتوسط إلى القطب الشمالي.

بمعنى آخر، لا شكّ في أن موازين القوى ما زالت تصب في مصلحة قوى حلف شمال الأطلسي، ولكن نوع التواجد الروسي الدفاعي بشكل أساسي، والثابت نسبياً، قد يسمح لهذه القوات بتشكيل عامل رادعٍ، نظراً إلى الخسائر الهائلة التي قد تلحقها بقوات الناتو في حال التصعيد.

تعتمد روسيا بشكل أساسي في ذلك على منظومات الدفاع الجوي والبحري المختلفة المنصوبة براً وبحراً، مثل “إس 400 و300” ومنظومات “باستيون/ياخونت”، وعلى تواجدٍ في مطار حميم يمنحها أيضاً إسقاط قوّة لا يستهان به باتجاه البحر.

إضافةً إلى ذلك، إن الاستثمار المستمرّ في أسطول البحر الأسود وفي تحديثه، والذي كان مقرّراً أن ينتهي في العام 2020، ووصلت قيمته إلى 2،4 مليار دولار، بحسب الأدميرال الأميركي مارك فرغسون، قائد “قيادة قوات الحلفاء المشتركة في نابولي”، يهدف إلى توجيه رسالة إلى الناتو مفادها أن هذه المنطقة (أي البحر الأسود وشرقي المتوسّط) هي مساحة متنازع عليها.

في عودة إلى التقرير الأول، إنَّ التهديد الحقيقي (المتأتي من هذا الاستثمار الذي بدأ في العام 2011) لا يتأتى من طرادات “سلافا” الضخمة مثلاً، بل من سفن السطح المتوسطة الحجم، كالفرقاطات “Frigate” الحديثة من نوع “أدميرال غريغوروفيتش”، والفرقاطات “Corvette” الأصغر حجماً من نوع “بويان إم”، ومن غواصات “كيلو” المحدّثة العاملة بالديزل.

المشترك بين كلّ القطع البحريّة المذكورة سابقاً هو قدرتها على إطلاق صواريخ “كاليبر” المجنّحة. وقد أظهرت قدرتها في عرضٍ للقوة كان يحدث بين الفينة والأخرى في سوريا، وكان موجّهاً إلى حلف شمال الأطلسي بشكل أساسي.

خاتمة
يصعب أن نتخيَّل سيناريو تقوم فيها القوات البحرية الروسية بمجابهة متكافئة مع قوات حلف شمال الأطلسي، فهي ليست قادرة على ذلك، سواء من ناحية العدد أو من ناحية التقنيات البحريّة. كما أن لعنة الجغرافيا تشكّل عاملاً كابحاً لأي طموح بحريّ لمن يقيم في موسكو، إن كان قيصراً أو أميناً عاماً أو رئيساً للجمهورية، من فلاديفوستوك شرقاً، إلى أرخانغلسك شمالاً، وسان بطرسبرغ غرباً، إذ يكون الجليد أو المضائق عاملاً معوقاً لأي محاولة قد تقوم بها روسيا بحرياً لإسقاط القوة.

يظهر أن ما تقوم به روسيا حالياً لا يتعدى كونه استكمالاً لانتشارها الدفاعي خلال الحرب الباردة، إلا أن مزيجاً من التقنيات الحديثة والتكتيكات المطوّرة والإرادة السياسيّة الجريئة يمنحها أفضليّة على ما كانت عليه خلال الحرب الباردة، فتراها تناور شمالاً وجنوباً باتجاه المحيط المتجمّد الشمالي والبحر المتوسّط، في محاولة لتأمين أجنحتها من أي محاولة توسّعية يقودها الغرب بشكل عام.

في الأيام الماضية، تكرّر خرق ومحاولة خرق المياه الإقليمية لشبه جزيرة القرم، تلك التي تراها روسيا جزءاً لا يتجزأ من مياهها الإقليمية، في المرة الأولى من مدمّرة بريطانيّة، وفي المرة الثانية من فرقاطة هولنديّة. بمعزل عن سياسيات الإمبراطورية الروسية التوسّعية في القرن التاسع عشر، فإن النظرة الروسية نحو الغرب، والمتبدّية في رسالة بوغودين للقيصر في بداية النصّ، لم تتغير كثيراً.

تقوم روسيا، من وجهة نظرها، بمناورات طبيعيّة لحماية مصالحها الإقليمية، وتأمين أجنحتها، وتثبيت محاور ردعٍ لحماية أراضيها. أما من وجهة النظر الغربيّة بشكل عام، فإن المفكّرين الغربيين، على اختلاف مشاربهم، واقعيين كانوا أم ليبراليين، يجاهدون في فهم دوافع روسيا؛ منهم من يضعها في إطار توسّعي طبيعي، مثل مرشايمر، وآخرون ليبراليون يضعونها في إطار إمبراطوريّ تاريخي ناتج من “الاستبداد المتأصّل في النظام السياسي الروسي”.

يمكننا أن ننظر إلى المسألة بطريقة أبسط من ذلك بكثير، وذلك بكلمات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته السنوية الأخيرة: “لم نسافر آلاف الكيلومترات لنذهب إليهم. هم الذين أتوا إلى حدودنا وخرقوا مياهنا الإقليمية”.

في النتيجة، شكّل كلّ من القرم والبحر الأسود نقطة تحوّل انطلقت فيها روسيا لتصبح إمبراطورية، وقد يكون فقدانها بداية نهاية مسار الأمة الروسية الَّذي بدأ منذ القرن السادس عشر مع سلالة الروريك، ومن بعدهم الرومانوف، أو على الأقل قد يكون هذا ما يفكّر الروس فيه.

 

المصدر: الميادين