كُتّاب الموقع
التكنولوجيا الذكية تشعل شرارة حرب باردة جديدة

علي قاسم

الجمعة 6 آب 2021

تستفيد صناعة التكنولوجيا الرقمية، وفي قلبها صناعة تطوير الرقائق وأشباه الموصلات، من المنافسة المحمومة التي أطلقتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والإدارة السابقة، عندما اعتبرت أن تصنيع الرقائق مسألة أمن قومي، مطلقة شرارة حرب باردة وجدت أوروبا نفسها مضطرة لخوض غمارها.

خلال القرن الماضي شكل النفط عصب الصناعة في الغرب وفي آسيا؛ بسببه تشن الحروب. وكان ارتجاف سعر برميل النفط، صعودا أو هبوطا، يؤدي إلى هزّة في أسواق المال.

الطلب على النفط لم ينته، ولكن يمكن القول إن النفط بات مهددا بخسارة المرتبة الأولى أمام صناعة أشباه الموصلات والرقائق، أو هو في طريقه إلى خسارتها.

والطلب على الرقائق لا يقتصر على أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة، هناك طلب متزايد عليها في صناعة السيارات والأتمتة والذكاء الاصطناعي والروبوتات، وتشير الأرقام إلى أن حجم سوق أشباه الموصلات خلال عام 2020 بلغ 520 مليار دولار.

الحكومة الصينية التي أدركت أهمية التحول الجديد جعلت من تطوير التكنولوجيا، والحديث هنا يشمل الأتمتة والذكاء الاصطناعي والهاتف المحمول، أولوية قصوى.

هذا ما تظهره النتائج، كما يقول دانيال كاسترو مدير مركز ابتكار البيانات التابع لمؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، منبها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى ضرورة “الانتباه إلى ما تفعله الصين والتفاعل معه، لأن الدول التي تقود التطوير ستصوغ مستقبلها وتحسن قدرتها التنافسية الاقتصادية بشكل كبير، في حين أن الدول التي تتخلف عن الركب تجازف بفقدان قدرتها التنافسية في الصناعات الرئيسية”.

الذكاء الاصطناعي ليس وحده المتعطش لأشباه الموصلات، صناعة السيارات تبدي أيضا نفس التعطش إن لم يكن أكثر.

أولوية وطنية

هل تسمح الولايات المتحدة للصين بتولّي القيادة الاقتصادية العالمية والسيطرة على التكنولوجيا الذكية وصناعة أشباه الموصلات؟

متابعة ما يحدث داخل مجلس الشيوخ الأميركي تؤكد أن الولايات المتحدة لن تسمح بذلك، فرغم الانقسام الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين، أقر المجلس قانون الابتكار والمنافسة، الذي خصص 52 مليار دولار لدعم تصنيع الرقائق المحلية كجزء من حزمة بقيمة ربع تريليون دولار تهدف إلى مواجهة طموحات الصين التكنولوجية، وبهدف جعل الولايات المتحدة أكثر قدرة على التنافس مع التنين الصيني، بعدما تبيّن خلال الفترة الأخيرة أن قطاع التكنولوجيا الأميركي، بما في ذلك صناعة أشباه الموصلات والروبوتات والذكاء الاصطناعي، تأخر كثيرا عن بكين، وأصبح من اللازم ضخ أموال حكومية ضخمة في البحث والتطوير، على أمل أن يُبقي ذلك الولايات المتحدة رائدة التقدم التكنولوجي في العالم.

وبحسب تشاك شومر زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ “يمكن للديمقراطيات التي تتصارع فيها الأحزاب مثل الديمقراطية الأميركية أن تستثمر في ما تعتبره أولوية وطنية بالطريقة ذاتها التي تعمل بها حكومة مركزية وسلطوية”.

الخبراء اعتبروا أن القرار الأميركي جاء متأخرا جدا، وقد لا تكون الأموال المخصصة كافية لكسب السباق، فالصين هي الأخرى تنفق ببذخ كبير على التكنولوجيا. والزمن وحده سيكشف عن الفائز.

الاتحاد الأوروبي من جانبه يسعى إلى دخول سباق تصنيع أشباه الموصلات وقد وضع لنفسه هدفا هو مضاعفة حصته في سوق الرقائق العالمية بحلول عام 2030. وكانت شركة إنتل الأميركية في قلب هذه الطموحات، باقتراحها بناء مصنع جديد في القارة لتصنيع أشباه الموصلات بقيمة 20 مليار دولار.

مؤخرا التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس التنفيذي لشركة إنتل بات غيلسنجر، كان هناك موضوع واحد تصدر جدول أعمالهما تركز حول الاستثمار في صناعة أشباه الموصلات.

بالنسبة إلى مسؤولي الاتحاد الأوروبي، نقص الإمدادات الذي تعانيه صناعة أشباه الموصلات حاليا وإعاقة الإنتاج في قطاع السيارات الحيوي في الاتحاد الأوروبي وحده يكفي لاتخاذ مثل هذا الإجراء.

وإذا كانت الاقتصادات، بما في ذلك الصين وكوريا الجنوبية وتايوان والولايات المتحدة، تستثمر أكثر لتجميع قطاعات أشباه الموصلات، يتساءل مفوض السوق الداخلية في الاتحاد الأوروبي تييري بريتون “ألا ينبغي لأوروبا فعل الأمر نفسه؟”.

وأثار عرض إنتل تدافع دول الاتحاد الأوروبي لجذب غيلسنجر حاملا معه عروض التصنيع، ودعم البحث والتطوير، والعمالة الماهرة، والإعانات الحكومية الضخمة.

وتسعى إنتل للحصول على دعم كبير لمصنعها الأوروبي الجديد. وفي حين لم يتم الكشف عن أرقام، يقول غريغ سلاتر المسؤول التنفيذي للشؤون التنظيمية إن الاتحاد الأوروبي يعاني “قصورا في التكلفة” 30 – 40 في المئة، مقارنة مع آسيا، وإن كثيرا من الفارق يعود إلى تدني مستويات الدعم الحكومي.

سراب جيوسياسي

لمبالغ المتضمنة يجب أن تكون ضخمة إذا حكمنا عليها من خلال البرامج في أماكن أخرى؛ تقدم كوريا الجنوبية حوافز لدفع برنامج استثماري مدته تسعة أعوام قيمته 450 مليار دولار من قبل صانعي الرقائق، بينما تتحدث الولايات المتحدة عن أكثر من 50 مليار دولار مخصصة لصناعة أشباه الموصلات.

إضافة إلى ذلك، ستحتاج إنتل إلى موقع تبلغ مساحته 405 هكتارات مع بنية تحتية متطورة قادرة على خدمة ما يصل إلى ثمانية مصانع للرقائق. وقد قامت بفحص دول مثل ألمانيا وهولندا وفرنسا وبلجيكا كمواقع محتملة.

السؤال الذي يواجه مسؤولي الاتحاد الأوروبي، وهم يستعدون للشروع في هذا الالتزام، هو ما إذا كان الأمر سينتهي بتبديد مبالغ كبيرة من المال العام في مطاردة سراب جيوسياسي لا يدعمه منطق الصناعة والسوق.

ويحذر مسؤولون تنفيذيون من أن تغيير تلك الصورة سيستغرق أعواما من الجهد ومبالغ هائلة من المال العام، في وقت تضخ فيه الحكومات في آسيا والولايات المتحدة عشرات المليارات من الدولارات في شكل إعانات مالية لهذا القطاع.

ومن أجل تنفيذ استراتيجيتها وزيادة قدرتها، كشفت إنتل عن خطة بقيمة 20 مليار دولار في مارس لبناء مصنعين جديدين في ولاية أريزونا. كما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال في يوليو أن إنتل تجري محادثات للاستحواذ على شركة غلوبال فاوندريز، أكبر شركة لتصنيع الشرائح في الولايات المتحدة، مقابل 30 مليار دولار.

خارطة طريق إنتل الجديدة للحاق بمنافسيها الآسيويين لن يثبت جدواها قبل عام 2025 مع إعادة بناء قدرات تصنيع الشرائح في الولايات المتحدة. ففي يوليو كشف غيلسنجر الغطاء عن خطط طموحة تهدف إلى استعادة هيمنة الولايات المتحدة على صناعة أشباه الموصلات في غضون السنوات الخمس المقبلة. كما أعلن أن أمازون وكوالكوم سيكونان أول عميلين رئيسيين لخدمات شركة إنتل الجديدة، التي تهدف إلى بناء أشباه موصلات متطورة من تصميم شركات أخرى والتنافس مع شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات.

إنتل هي الحل

تهدف إنتل في إطار خطتها الجديدة إلى إطلاق وحدة معالجة مركزية جديدة كل سنة، ما بين عام 2021 وعام 2025، وستكون هذه الوحدات أكثر تطورا من الإصدارات السابقة. وستتوج الإصدارات الجديدة بإطلاق شرائح إنتل 20 إيه في 2024، وإنتل 18 إيه في 2025، والتي تقول إنتل إنها ستفتتح عصر أنغستروم للرقائق، حيث تُستخدم وحدة أنغستروم (0.1 نانومتر).

وتخطط إنتل لإطلاق أول وحدات ترانزستور جديدة لها منذ عام 2011، وهي ريبونفيت، إلى جانب مع عدد كبير من تقنيات الترانزستور وغيرها التي تهدف إلى مواكبة قانون مور. وهو القانون الذي ابتكره غوردون مور أحد مؤسسي إنتل في 1965، حيث لاحظ أن عدد الترانزستورات على شريحة المعالج يتضاعف تقريبا كل عامين، في حين يبقى سعر الشريحة على حاله. وأدت هذه الملاحظة إلى بدء عملية دمج السيليكون بالدوائر المتكاملة على يد شركة إنتل مما ساهم في تنشيط الثورة التكنولوجية في شتى أنحاء العالم.

إضافة إلى ذلك، أعادت إنتل مؤخرا تسمية مجموعتها الحالية من تقنيات الشرائح قيد التطوير والإنتاج الضخم إلى إنتل 7 وإنتل 5. وتهدف هذه الخطوة إلى تحسين تسويق شرائح الشركة الأميركية مقابل تلك التي تصنعها شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات وسامسونغ الكورية الجنوبية، اللتين استخدمتا تسميات نانومترية أقل في علاماتهما التجارية على الرغم من المكونات المماثلة لشرائح إنتل.

وتهدف استراتيجية إنتل إلى إنشاء فرع عمليات جديد لإسناد مهام تصنيع الشرائح تصممها خصيصا لشركات مثل كوالكوم وأمازون وأبل، هذا إضافة إلى تصميم شرائح خاصة تقوم هي بتصنيعها. وسيمثل مثل هذا التوسع في خدمات التصنيع تحولا كبيرا في نموذج أعمال إنتل، والذي يركز على تصنيع الأجهزة المتكاملة، أي تصميم الشرائح وتصنيعها واستخدامها ضمن منتجاتها.

وتحظى طموحات إنتل بدعم إدارة الرئيس الأميركي بايدن، التي ترى أن تعزيز قدرات تصنيع الرقائق الأميركية مسألة أمن قومي ومنع لخطر استراتيجي، لذلك عملت على مواجهة المنافسة التكنولوجية المحمومة مع الصين التي تشكل صناعة أشباه الموصلات نقطة محورية فيها.

 

المصدر: العرب اللندنية