كُتّاب الموقع
فشل السياسة الخارجية التركية أضعف موقعها تجاه الغرب

هدى رزق

الأربعاء 2 حزيران 2021

لم تتمكّن تركيا من الاستفادة من التحول العالمي، الذي بشَّر بوجود عدة أقطاب. وبدلاً من ذلك، أصبحت، اقتصادياً واستراتيجياً أكثر اعتماداً على الغرب، وعلى الولايات المتحدة على وجه الخصوص. 
 
خسرت تركيا فرصتها في الاستقلال الذاتي الاستراتيجي، في ظل الظروف الحالية، وخسرت أيضاً ممارسة مزيد من النفوذ وفرض وجهة نظرها. عاشت تناقضات في سياستها الخارجية، لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها، ولاسيما في السنوات العشر الاخيرة، بحيث قدّم حزب "العدالة والتنمية" إلى العالم صورة متناقضة عن سياسته الخارجية التي كان أعلن عنها، فخسر الأصدقاء الذين اتَّهموه بالاستبداد والتوسع، وابتعد عن الحلفاء، وواجه جيرانه، فأصبحت تركيا جزءاً من معظم الأزمات في منطقة الشرق الأوسط. 
 
لم يستطع الرئيس التركي نسج علاقة ثقة بروسيا بعد محاولة انقلاب عام 2016، على الرغم من المبادرات التي كان يتراجع عنها. وربما يمكننا، عبر توصيف هذه العلاقة، تَبيانُ تناقضات هذه السياسة غير القادرة على الثبات: من إسقاط الطائرة الروسية والاعتذار بعده، إلى التدخلات العسكرية التركية في كل من سوريا وليبيا، وكذلك شراء نظام صواريخ أس-400، مروراً بعدم الوفاء بوعد نزع سلاح الإرهابيين في إدلب، أو الوعد بتصنيفهم إرهابيين، وأخيراً دعم أوكرانيا وتوفير المُعدّات العسكرية لها.
 
أظهرت موسكو غضبها، وقرَّرت عدم إرسال سيّاح روس طال انتظارهم في تركيا، وحذّرت أنقرة من التورط في قضية القرم. كانت تركيا قد أدارت ظهرها للولايات المتحدة عندما اشترت صواريخ أس -400، وهو ما أدّى إلى قطع التعاون بين الطرفين بشأن شراء طائرات 35F. وقام الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات محدودة على عدد من المسؤولين الأتراك، ممن لهم علاقة وارتباط بشركة الطاقة العامة، وأعلن تعاونه مع واشنطن فيما خص موقفها من السياسة التركية المتَّبَعة، والتي يراها غير مسؤولة، فتراجعت تركيا عن سياستها في المتوسط، والمطالبة بحق التنقيب عن الغاز والنفط في شرقيّ البحر المتوسط، مُنهيةً بذلك استكشافاتِها في البحر.
 
بحث إردوغان بشدة عن مخرج من خلال التحالف أكثر مع الغرب. وها هي حكومة حزب "العدالة والتنمية" تنفّذ استراتيجية تقوم على تجنُّب مزيد من العقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي، في مقابل الانسحاب من شرقيّ البحر المتوسط، وتعود إلى تبنّي شَراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة في حوض البحر الأسود، وتحاول أيضاً تجنُّب العداء مع روسيا خوفا من ردود فعلها. عادت استراتيجيتها لتعمل مع الاتحاد الاوروبي بشروطه، فوافقت على مطالبه، وأهمها السيطرة على تدفق اللاجئين من أراضيها، وبدأت المحادثات الاستكشافية مع اليونان، والتي تضمَّنت مناقشات بشأن الاستكشافات النفطية والغازيّة شرقيّ البحر المتوسط ​​، بعد أن كانت رافضة أي حوار في هذا الخصوص. لقد فشلت سياسات تأليب روسيا ضد الولايات المتحدة، وتهديد الاتحاد الأوروبي باللاجئين، وتهديد دول المنطقة بالقوة العسكرية، لكن مآلات العلاقة الروسية الأميركية لا تزال تثير مخاوف حكومة "العدالة والتنمية". 
 
حاولت تركيا إصلاح علاقتها بحلفاء الولايات المتحدة الثلاثة، مصر و"إسرائيل" والمملكة العربية السعودية، للتغلب على عزلتها الإقليمية، فأرسلت رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أنها ستقف إلى جانب الغرب في إحداث توازنات إقليمية جديدة.
 
كانت الولايات المتحدة قد مهّدت لتنامي التعاون الأمني ​​بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من جهة، واليونان وجمهورية قبرص من جهة أخرى. وهو تطوُّر غير مسبوق في المنطقة، ولا يبدو أن أياً من هذه الدول، على الأقل السعودية والإمارات واليونان، حريصة على إصلاح العلاقات بتركيا. وحتى مصر تريثّت في ذلك.
 
لا شك في أن السياسة الخارجية التركية افتقرت أولاً إلى الثوابت في التعامل مع الأصدقاء والحلفاء الموثوق بهم، حتى باتت أغلبية الجهات الإقليمية والعالمية، الفاعلة والمؤثّرة، تدرك الوضع اليائس لتركيا، التي ما إن تُحشَر في الزاوية حتى تتراجع، ولاسيما بعد التراجع الاقنصادي الكبير لديها، وعَقِبَ الأزمات التي تكاد تودي برغبة رئيسها في البقاء في السلطة. نقطة الضعف هذه ضربت مكانة تركيا، التي كان حكّامها يضغطون على الولايات المتحدة عندما يرون أن مصالحهم تتعرَّض لـ"الاعتداء". ومن الواضح أن استخدام الرئيس الأميركي جو بايدن تعريفَ "الإبادة الجماعية للأرمن" كان مقصوداً، فهو يعلم مسبَّقا بأن ردَّ الفعل التركي سوف يكون ضعيفاً وخصوصاً أن إردوغان يلهث إلى لقائه على هامش قمة "الناتو" في 14 حزيران/يونيو.
 
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر تركيا شريكاً موثوقاً به، ويمكن التنبؤ بتصرفاته، وهي تعلم بأن حكومة إردوغان لا تجرؤ على إغلاق قاعدة إنجرليك الجوية، مهما لوَّح الإعلام الموالي لإردوغان بذلك، وأن الأمر يُعتبر بمثابة كابوس بالنسبة إلى حكومته لأنه سيقلِّل الأهمية الاستراتيجية لتركيا، وخصوصاً أنه لطالما لوَّح بهذا الأمر من أجل الابتزاز، في الوقت الذي يبحث فيه عن طرائق للاقتراب من إدارة بايدن، التي أصبح لديها منشآت جديدة في اليونان وشماليّ سوريا والعراق، لكنها ليست في وارد الانسحاب أبداً من قاعدة إنجرليك.
 
تخشى حكومة حزب "العدالة والتنمية" فقدانَ أهميتها الاستراتيجية، والدخولَ في منافسة مع حلفاء آخرين للولايات المتحدة في المنطقة، مثل اليونان وجمهورية قبرص، وحتى حزب "الاتحاد الديمقراطي" في سوريا، وتعتبر أن الولايات المتحدة ستكون في وضع أفضل إذا تعاونت مع تركيا. 
 
لم تنجح استراتيجية استخدام السياسة الخارجية أداةً للبقاء في السلطة بالنسبة إلى "العدالة والتنمية"، ولم يتمكن إردوغان من استبدال نظام أفضل بالنظام القديم. وما فشلُ السياسة الخارجية إلاّ تعبيرٌ عن فشل "العدالة والتنمية".
 
لم تؤدِّ مغامرات تركيا العسكرية إلى إنجازات ذات قيمة، بل أضعفت سياستَها الخارجية، وبدَّدت الميزة التاريخية التي تمتَّع بها سليمان ديميرل وبولنت أجاويد ونجم الدين أربكان، والمتمثِّلة بإظهار استقلاليتهم (وتالياً استقلالية تركيا) عن الولايات المتحدة عند الضرورة.
 
لقد استنفدت الحكومة جميع أدوات سياستها الخارجية، وعمَّقت اعتماد البلاد على القوى الغربية. وعادت دولةً وظيفية تنشد رضا الشركات الأميركية والمستثمرين، كي يوظِّفوا أموالاً في تركيا التي تحوَّلت إلى دولة ضعيفة وهشَّة أمام الغرب، وفي العالم..
 
 
 
 
المصدر: الميادين