كُتّاب الموقع
الدولرة (Dollarization) وفقدان الثقة بالعملة المحلية

محمد يونس الشرابي

السبت 17 نيسان 2021

يعد فقدان الثقة بالعملة المحلية وفشلها في الأداء الكفوء والفاعل لوظائف النقود، وهي الصفة السائدة في البلدان النامية وبلدان الأسواق الناشئة، الحافز الأساسي الذي يدفع بالوحدات الاقتصادية إلى البحث عن بدائل من العملات الأجنبية القادرة على أداء هذه المهمة بشكل أكثر كفاءة وفاعلية، الأمر الذي ينعكس بنشوء ظاهرة الدولرة الجزئية التي باستمرارها وارتفاع معدلاتها ستدفع ببعض الحكومات، في ظل عدم القدرة على معالجة الوضع الاقتصادي القائم وأملها في الوصول إلى توازنات اقتصادية أفضل، إلى تبني أحد العملات الأجنبية لتكون بديلًا قانونيًّا عن العملة المحلية، والدخول في أحد أكثر ترتيبات الصرف الثابتة تطرفًا والمعروف بالدولرة الكاملة.
 
كما تعرَّف الدولرة (Dollarization) بأنها توقف استخدام الدولة للعملة الوطنية الخاصة بها لفقدانها وظائفها الأساسية كوسيط للتبادل ومخزن للقيمة، واللجوء إلى استخدام العملة الأجنبية كالدولار الأميركي أو الين الياباني أو اليورو أو أي عملة قابلة للتحويل.
 
السبب الرئيسي للدولرة هو الحصول على فوائد الاستقرار الأكبر في قيمة العملة مقابل العملة المحلية للبلد. على سبيل المثال، قد يختار مواطنو بلد ما داخل اقتصاد يمر بتضخم متفشي استخدام الدولار الأميركي لإجراء معاملات يومية، لأن التضخم سيؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية لعملتهم المحلية. 
 
وكذلك تستخدم كأداة لتحقيق أرباح مقدّرة نتيجة للارتفاع المتوقع في سعر الدولار أمام العملة الوطنية، وعادة ما تحدث الدولرة في البلدان النامية ذات السلطة النقدية المركزية الضعيفة أو البيئة الاقتصادية غير المستقرة.
 
ويمكن أن تحدث كسياسة نقدية رسمية أو كعملية سوق فعلية، إما من خلال مرسوم رسمي وإما من خلال اعتماد المشاركين في السوق، حيث يتم الاعتراف بالدولار الأميركي كوسيلة تبادل مقبولة بشكل عام لاستخدامها في المعاملات اليومية في اقتصاد الدولة.
 
 
أنواع الدولرة
 
 
صنفت الدولرة في ثلاثة أنواع رئيسية تفرعت من بعضها تصنيفات أخرى، وهي كما يلي:
 
الدولرة الرسمية أو الكاملة: وتعني الاستبدال الكامل وبصورة رسمية للعملة المحلية بالعملة الأجنبية التي تصبح بمثابة العملة القانونية التي تقوم بجميع وظائف النقود، كما هو الحال في بنما منذ عام 1904 والإكوادور بدءاً من عام 2000، وفي السلفادور وغواتيمالا بدءاً من عام 2001. 
 
الدولرة شبه الرسمية: والتي تشير إلى استخدام العملات الأجنبية إلى جانب العملة المحلية بحكم القانون للقيام بالوظائف الأساسية للنقود، كما هو في هايتي ولاوس وكمبوديا.
 
الدولرة غير الرسمية: أو ما يعرَف بالدولرة الجزئية، وتعكس استخدام العملة الأجنبية بشكل واسع في المعاملات والصفقات والعقود المالية التي تمارسها الوحدات الاقتصادية المحلية الخاصة (القطاع الخاص) مع بقاء العملة المحلية كعملة رسمية قانونية وحيدة، كما هو الحال في معظم بلدان أميركا اللاتينية كالأرجنتين وبيرو والمكسيك. كما تصنف الدولرة غير الرسمية إلى: 
 
 دولرة المعاملات: وتعرف أيضًا بإحلال العملة، ويقصد بها استخدام العملة الأجنبية من قبل المقيمين لأغراض المعاملات والمبادلات المحلية.
 
الدولرة المالية: وتعرف أيضًا بدولرة العقود المالية، والتي تتضمن احتفاظ الوحدات الاقتصادية المقيمة بجزء من موجوداتها أو مَطلوباتها المالية.
 
الدولرة الحقيقية: ويقصد بها استخدام العملة الأجنبية كأداة تقييم وقياس لمقدار الأجور وأسعار السلع والخدمات والعقود الحقيقية المحلية.
 
لماذا تلجأ الدول إلى الدولرة؟
 
 
من أهم أسباب لجوء الدول النامية إلى الدولرة، هو عدم استقرار الاقتصاد وعدم قدرة البنك المركزي على مواجهة التضخم المفرط والانخفاض الكبير في قيمة العملة الوطنية وعدم استقرارها أمام العملات الدولية، وكذلك انقطاع السلع الذي قد يؤدي إلى انهيار سعر الصرف وانهيار قوة العملة الشرائية، والبديل الوحيد أمام الأفراد في هذه الحالة هو اكتناز العملة الدولية كالدولار، وحفظ الودائع بالعملة الأجنبية بدلًا من العملة الوطنية كمخزن للقيمة وأداة للتبادل.
 
تحدث الدولرة لوجود ثلاث فجوات بالاقتصاد القومي: الفجوة الأولى، وهي فجوة النقد المحلي أو التمويل المحلي. الفجوة الثانية، وهي فجوة النقد الأجنبي حيث تعاني الدول المَدِينة من اختلال مزمن في سوق الصرف الأجنبي، أما  الفجوة الثالثة فهي فجوة التجارة الخارجية، وتعتبر هذه الفجوة خللًا حقيقيًّا تعجز به الدولة عن توفير احتياجاتها الأساسية.
 
 تكاليف ومزايا وعيوب الدولرة
 
 
فيما يتعلق بالتكاليف، فإن الطلب المتزايد على الدولار يزيد من قيمته، لكن هذا يأتي بتكلفة، إذ إن العملة الأقوى تجعل الواردات أرخص والصادرات أكثر تكلفة، ما قد يضر بالصناعات المحلية التي تبيع سلعها في الخارج ويؤدي إلى فقدان الوظائف.
 
وفي أوقات الاضطراب الاقتصادي، يسعى المستثمرون إلى أمان الدولار، ما يضغط على المصدّرين في أوقت صعبة.
 
أما من ناحية المزايا، فهي أداة لتقليل التضخم المفرط، ما يؤدي إلى تخفيض نسب الفوائد المحلية، وهذا ما يشجع ويجذب المستثمرين الأجانب للاستثمار في الدولة، ما يحقق مزيدًا من النمو والاستثمار، إذ تخلق الدولرة الكاملة معنويات إيجابية للمستثمرين، وتقضي تقريبًا على هجمات المضاربة على العملة المحلية وسعر الصرف.
 
والنتيجة هي سوق رأس مال أكثر استقرارًا، ونهاية تدفقات الرأس مال الخارجة المفاجئة، وميزان مدفوعات أقل عرضة للأزمات. ميزة أخرى أيضًا، يمكن أن تؤدي الدولرة الكاملة إلى تحسين الاقتصاد العالمي من خلال السماح بدمج الاقتصادات بشكل أسهل في السوق العالمية.
 
ولكن من العيوب التي ترافق الدولرة، هو فقدان الدولة تحكمها في سياستها النقدية والتأثير في الأسواق، وعدم قدرة الدولة على اتخاذ أي قرارات بما يتلاءم مع الأوضاع المحلية وحل المشاكل الاجتماعية، على الرغم من حل المشاكل المالية والاقتصادية، وذلك لأن الدولة التي تتبع نظام الدولرة تكون تحت رحمة التقلبات التي تحدث في العملة الأجنبية وقرارات البنك المركزي الأجنبي.
 
وفي الاقتصاد القائم على الدولار بالكامل، يفقد البنك المركزي أيضًا دوره كمُقرض والملاذ الأخير لنظامه المصرفي. عيب آخر بالنسبة إلى بلد يختار الدولرة الكاملة، هو أنه يجب إعادة شراء أوراقه المالية بالدولار الأميركي.
 
الدولرة حل لبعض الأزمات المالية
 
 
أجرت زيمبابوي اختبار الدولرة لمعرفة ما إذا كان اعتماد العملة الأجنبية يمكن أن يجنّب ارتفاع التضخم وتحقيق الاستقرار في اقتصادها، فقد بلغ معدل تضخم الدولار الزيمبابوي المعدل السنوي المقدر بـ 250 مليون في المئة في يوليو/ تموز 2008. 
 
أصبحت عملة زيمبابوي عديمة القيمة لدرجة أنها كانت تستخدم على نطاق واسع كعزل وحشو في الأثاث، وبدأ العديد من الزيمبابويين إما بتبني العملات الأجنبية للقيام بالأعمال التجارية وإما اللجوء إلى مقايضة بسيطة، ثم أعلن القائم بأعمال وزير المالية أنه سيتم قبول الدولار الأميركي كعملة قانونية لعدد مختار من التجار وتجار التجزئة.
 
بعد التجربة أعلن وزير المالية أن الدولة ستتبنى الدولار الأميركي، من خلال إضفاء الشرعية على استخدامه العام في عام 2009، ثم تعليق استخدام دولار زيمبابوي لاحقًا في عام 2015.
 
عملت الدولرة في زيمبابوي على الفور على خفض التضخم، ما أدى إلى الحد من عدم استقرار الاقتصاد الكلي للبلاد، وسمح لها بزيادة القوة الشرائية لمواطنيها وتحقيق نمو اقتصادي متزايد. بالإضافة إلى ذلك، أصبح التخطيط الاقتصادي طويل الأجل أسهل للبلاد، حيث اجتذب الدولار المستقر بعض الاستثمار الأجنبي.
 
ومع ذلك، لم تكن الدولرة رحلة سلسة تمامًا للبلد، وكانت هناك عيوب، إذ تم إنشاء وتنفيذ جميع السياسات النقدية من قبل الولايات المتحدة، على بعد آلاف الأميال من زيمبابوي، ولم تأخذ القرارات التي يتخذها مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الاعتبار المصالح الفضلى لزيمبابوي عند إنشاء السياسة وسنّها.
 
علاوة على ذلك، أصبحت زيمبابوي في وضع غير مواتٍ عند التعامل مع الشركاء المحليين، مثل زامبيا أو جنوب إفريقيا، إذ لم تستطع أن تجعل سلعها وخدماتها أرخص في السوق العالمية من خلال خفض قيمة عملتها، الأمر الذي من شأنه أن يجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية من هذه البلدان.
 
في عام 2019، عكست زيمبابوي مسارها من خلال إعادة تقديم دولار زيمبابوي جديد يعرَف باسم دولار التسوية الإجمالية في الوقت الحقيقي في فبراير/ شباط وحظر استخدام الدولار الأميركي والعملات الأجنبية الأخرى في يونيو/ حزيران. كان التضخم في دولارات زيمبابوي الجديدة حادًّا، واستمر الاستخدام الكبير للدولار الأميركي كعملة في السوق السوداء.
 
الدولرة والدول العربية
 
 
في الثمانينيات من القرن الماضي، اختار القطاع الخاص اللبناني الدولرة بحرّية، حفاظاً على قيمة المدخرات والقدرة الشرائية، بعد افتقاد الليرة وظائف النقد الأساسية مع التضخّم وتدهور سعر الصرف.
 
ومنذ العام 2019 يُفرض على القطاع الخاص الخروج من الدولرة، أي العملية المعاكسة، ولكن في ظلّ ظروف مشابهة تمامًا للثمانينيات، بين التضخّم وتدهور سعر الصرف، لا بل مع الدين العام المدولر بجزء كبير منه، عجز الدولة عن التسديد وانغماس الجهاز المصرفي في تمويل عجزه عن إعادة الودائع المُدولرة لأصحابها… بين التجربتين.
 
من أبرز مفارقات سياسة النقد والقطع اللبنانية، أن الأسباب نفسها التي أدخلت الدولرة إلى لبنان تدفع بها اليوم خارجًا. التضخم الهائل وتدهور سعر الصرف وفقدان العملة الوطنية وظائفها من حيث التسعير والتبادل والادخار ما يحافظ على القدرة الشرائية، فضلًا عن الدين العام وتدهور وضع المالية العامة وتراجع ميزان المدفوعات والطلب الزائد على الدولار الأميركي؛ هذه الأسباب التي أدّت في الثمانينيات إلى الهروب من تآكل القدرة الشرائية لليرة اللبنانية واختيار الدولار، وتقبّلها حينها الجهاز المصرفي اللبناني… هي نفسها اليوم تتسبّب بموجة معاكسة، يحاول من خلالها النظام المصرفي فرض استخدام الليرة لا بل "لبننة" الدولار المودع لديها.
 
الدولرة وسيادة الدولة
 
 
تحوّلت الدول على المستوى الاقتصادي والنقدي إلى البراغماتية للحاق بنظام العولمة على حساب ما يمكن وصفه بالسيادة الوطنية، خصوصًا أن العملة الوطنية تُعتبر أحد رموز السيادة. فاعتماد الدولرة، خصوصًا الكاملة منها، يقدِّم الاستقرار الاقتصادي والنقدي على الاعتبارات الوطنية الأخرى.
 
تشمل العوامل التي تساهم في هيمنة الدولار وقيمته المستقرة، حجم الاقتصاد الأميركي، والثقل الجيوسياسي للولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد بلد آخر لديه سوق لديونه على غرار سوق الولايات المتحدة، والذي مبلغهُ الإجمالي حوالي 18 تريليون دولار.
 
أخيرًا، نظرًا إلى أن العملة المحلية هي رمز لسيادة الدولة، فإن استخدام العملة الأجنبية بدلًا من العملة المحلية قد يضر بسيادة الدولة ويزعزع ثقة الشعب بالحكومة.
 
 
 
المصدر: نون بوست