كُتّاب الموقع
بـــيــــن «الكــــورونـــــا فيروس» والحـــــدود الــدولــية

معين حداد

الإثنين 12 نيسان 2021

شهدت البشرية على مر التاريخ اوبئة عديدة كان لها انعكاسات ديموغرافية اقتصادية وسياسية خطيرة، نتوقف هنا عند ثلاث منها يمكن ان تعدّ من بين الاسوء، لجهة سعة انتشارها وشدة خطورتها، هي
 
- الطاعون الانطوني ( 180 - 145 ق.م ) في محيط البحر المتوسط وسائر انحاء الامبراطورية الرومانية وكان من بين المساهين الرئيسيين في اسقاطها،
 
- الطاعون الاسود (1347 - 1352 ) الذي غطى مساحات شاسعة من القارات القديمة، دام عدة سنوات، قدرت ضحاياه بعشرات الملايين، وهو ساهم بدوره في اضعاف الامبراطروية البيزنطية وتراجعها عن العديد من اراضيها تمهيدا لافولها فيما بعد.
 
-الانفلونزا الاسبانية (1918) تفشت في العالم على نحو كارثي بدءاً من عام 1917 ويبدو انها ساهمت في ترجيح كفة الحلفاء في الحرب العالمية الاولى.
 
غير ان هذه الجائحات على الرغم من مدى انتشارها ومضاعفاتها الخطيرة على الصعد الديموغرافية والاقتصادية والتاريخية، لم تكن لتشكل قضية سياسية عالمية، كما الكوفيد 19. ويعود ذلك على وجه التحديد الى عاملين متلازمين لم تكتمل مفاعيلهما الا منذ عقود قليلة، الاول اعتماد الحدود السياسية الخطية وترسيمها على الارض للفصل بين الدول السيدة على اراضيها ثم الثاني تعميم هذه الحدود على الكرة الارضية برمتها كما سنبيّن لاحقاً.
 
تجدر الاشارة هنا الى انه قبل العمل بالحدودالخطية كانت الفواصل بين الدول تغطي مساحات على الارض تضيق او تتسع تبعا لعوامل طبيعية وبشرية، عُرفت هذه المناطق الحدودية باسم التخوم و كانت تُترك احيانا في عهدة تشكيلات شبه سياسية تتخاصم فيما بينها وتدين بالولاء كل من جهتها للقوى المجاورة (على ما كان حاصلا في منطقتنا على سبيل المثال لا الحصر بين الروم والفرس في شرق المتوسط قبل الفتح الاسلامي حيث كانت المساحات الحدودية موزعة على الغساسنة الموالين للروم وعلى المناذرة الموالين للفرس). اما اليوم فيمكن القول ان التخوم باتت من الماضي وحلت مكانها خطوط الحدود السياسية التي هي من مستلزمات الدولة الحديثة القائمة على مبدأ السيادة السياسية القانونية والحقوقية على اراضيها ضمن حدودها المعترف بها دولياً. ذلك انه منذ معاهدة وستفاليا(1647) التي انهت الحروب الدينية (وغير الدينية) والتي امتدت على عشرات السنين، بين الممالك والامارات... في القارة الاوروبية، تم اقرار قانون دولي حديث ما يزال معمولا به حتى الان، اقله من الوجهتين النظرية والمبدئية، يقضي بالاعتراف بأن كل دولة من الدول هي صاحبة السيادة على اراضيها، وكل تدخل في شؤون دولة من قبل دولة أخرى يٌعدّ خرقا لمواد المعاهدة المذكورة.
 
وهكذا نتج عن الحروب التي توّجها الصلح في معاهدة وستفاليا خريطة اوروبية موزعة على كيانات سياسية منها الكبير ومنها الصغير انما جميعها صاحبة سيادة على اراضيها مع عدم المس بهذه السيادة من قبل الكيانات الاخرى. ثم جاءت فيما بعد التطورات العلمية والاقتصادية الثقافية والاجتماعية المتسارعة تواكبها جملة من التحولات السياسية العميقة لتُدخل المجتمعات الاوروبية في طور جديد عبرت عنه بحدة الثورة الفرنسية الشهيرة فانتقلت حصرية السيادة على اراضي الدولة من الملك الى الشعب ومجموع افراده، حيث انهار النظام القديم وتبلور شكل جديد للدولة قوامه تنبه المجتمع لمصالحه ووعيه لها وصارت ارادته تعلو على ارادة الحاكم او الملك. وبدل ان يكون المجتمع من اجل الدولة صارت الدولة من اجل المجتمع، وحلت الارادات الشعبية محل الارادات الملكية والدينية في تسيير الامور السياسية ومختلف الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وبات للمجتمع حق تقرير مصيره بارادته وصار للفرد الانساني تباعاً حقوقه المعترف بها من قبل دولته، وقد عرف الشكل الجديد للدولة بالدولة الامة او الدولة القومية وهو الشكل القائم اذن على الارادة الشعبية اي على الديموقراطية والاحتكام الى الدستور الذي يضعه الشعب او من يفوضه لوضعه، فأُعلي بذلك من شأن سيادة المجتمع على اراضيه وعلى الحكام الذي ينتقيهم . لم يعد اذن حق التصرف بأراضي الدولة من اختصاص الملك دون شعبه كما كان الامر في السابق بل صار من حق الدولة بما هي سلطة وشعب معا، من هنا بات الحرص على صيانة الحدود باعتبارها حاضنة اراضي الدولة، قضية قومية جامعة بامتياز، وفي هذا الاطار ما تزال تشهد الخطب السياسية والديبلوماسية اليوم، محليا، وطنيا ودوليا ولا سيما في اوساط منظمة الامم المتحدة تركيزا دائما على «الاراضي»، «الحدود» والسيادة»، حيث تتحدث الخطب المعنية بشؤون الخلافات والنزاعات بين الدول الاعضاء في منظمة الامم المتحدة عن «السيادة على كامل الاراضي» لهذه الدولة او تلك وكذلك عن «وحدة اراضي الدولة وسلامتها ضمن حدودها السياسية»، بما يؤكد ان معاهدة وستفاليا لا سيما بما اقرته بشأن السيادة على الاراضي ما تزال تشكل اقله نظريا اساس العلاقات الدولية الراهنة على الرغم من الخروقات المستمرة على اكثر من صعيد وفي اكثر من مكان. هذا وقد ادى تطور الاحداث منذ معاهدة وستفاليا وحتى اليوم تدريجيا الى ضرورة ان يتمتع تعيين الحدود السياسية باكبر قدر من الدقة تجنبا للاشكالات بين الدول، الى ان انتهى الامر بترسيم الحدود السياسية على الارض على شكل خطوط، يقابلها خطوط اخرى ممثلة لها على الخرائط، وكل ذلك تأكيدا لمبدأ احترام الممارسة السيادية للدول على اراضيها.
 
 في البعد السياسي 
 
استدعى ترسيم الحدود مستوى عاليا من التقنيات الهندسية والعلوم الفلكية والجغرافية، لذلك فهو لم يتحقق على النحو السوي الا في الحقب المتأخرة، ثم ان الحدود السياسية الخطية لم تتعمم على الكرة الارضية الا في الربع الاخير من القرن العشرين اي بعد ان توزعت المعمورة باسرها على دول محددة و لم يعد من سكان على الارض الا وينتمي الى دولة، بخلاف ما كان عليه الامر من قبل. من هنا تختلف جائحة الكوفيد 19 عن سابقاتها في ان انتشارها الواسع جعلها محط اهتمام دولي على قياس الكرة الارضية، بينما الجائحات الكبرى السابقة حدثت في الوقت الذي كان معظم سكان العالم يعيشون خارج اطار الدولة، اي خارج المجال السياسي، وحتى تاريخ الانفلونزا الاسبانية عام 1918، التي شهدت انتشارا طال عدة قارات لم يكن عدد دول العالم في حينه يتجاوز الاربعين بينما يصل عددها اليوم الى 194 دولة، والاوبئة المتأخرة اي التي حدثت بعد ازدياد عدد الدول في العالم بقيت ضمن حدود معينة. نسوق ذلك للقول ان جائحة الكوفيد 19 تتميز عن سابقاتها في انها تعني سكان الارض من حيث توزعهم جميعا على دول مؤطرة في شبكة من الحدود السياسية الخطية تلف المعمورة بمجملها، لذا لم تعد جائحة كوفيد 19 قضية امن صحي وحسب وانما باتت ايضا قضية سياسية عالمية بامتياز، على ما اشرنا اليه سابقا، القيت مسؤولية معالجتها، دفعة واحدة على جميع دول العالم. الامر الذي بستوجب التوقف امام ما يمكن ان يكون عليه مستوى فعالية اداء هذه الدولة او تلك في التصدي للجائحة الراهنة.
 
ان هذه الدول تأسست مبدئيا وفق نموذج الدولة الحديثة اي دولة الامة او الدولة القومية الديمقراطية فهي على تفاوت ملحوظ في موقع هذه الدولة او تلك من النموذج المذكور، حتى ان بعض دول العالم ما تزال تذكرنا بالممالك القديمة، او بالدول - المدن، كما أنه توجد دول شبه تيوقراطية ودول تقوم على منظومات قبائلية او طائفية، واخرى على منظومات عائلية، عشائرية او اتنية فطرية حتى لا نقول «بدائية». وعليه فإن الدول التي تقترب من نموذج الدولة الامة هي التي تمكنت وما تزال من تحقيق شروط نجاحها ونجاح مجتمعها على الصعد السياسية، الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية... بينما تخلفت الدول الاخرى التي عجزت شعوبها عن الدنو من النموذج المذكور، والتي تدفع ثمن تخلفها مما تلحقه بها الدول المتقدمة من اضرار مكلفة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية...، جراء التحكم بها... والسيطرة على ثرواتها... غير ان جائحة الكوفيد 19 ساوت بينها جميعا اقله في الشهور الاولى من انطلاقتها، حيث باغت اجتياح الفيروس السريع معطوفا على عدم المعرفة العلمية الكافية به الحكومات على اختلاف قدراتها، فعمدت جميعهاعلى تفاوت امكانياتها الى التشدد في مسألة الحدود على ما رأينا سابقا كما سعت قدر الامكان الى استجلاب مواطنيها من الخارج فبدت الى هذه الدرجة او تلك متشابهة فيما بينها. اما اذا طال الامر فمن المرجح ان تتفاوت النتائج بين الدول المقتدرة من جهة والدول العاجزة من جهة اخرى. من هنا جرى ويجري الحديث عن امكانية حصول كوارث قاتلة كبرى في دول الجنوب المتخلفة لا سيما الافريقية منها.
 
على انه من الوجهة العامة، كشفت مضاعفات جائحة الكوفيد 19 والتدابير المتخذة من قبل مختلف الدول بشأنها، عن الحاجة الى الحدود السياسية وضرورة تفعيل وظائفها لاسيما، في المحن الكبرى، وبالتالي الحاجة حكما الى الدولة التي تتحقق فيها شروط الاقتدار، اقله في المرحلة التاريخية الراهنة. وفي هذا السياق الذي اطلقته عودة الحياة الى الحدود السياسية واستطرادا عودة الحياة الى نموذج الدولة - الامة (كما ينبغي ان يكون) يمكننا ان نتوقع على المدى المنظور، الاستمرار في تفكك التكتلات الاقتصادية القارية تواكبه تغيّرات عميقة في مسار العولمة تفرض مقاربات جديدة تفضي الى استنتاجات متعددة من بينها تآكل التيارات السياسية العابرة للحدود بما فيها الدينية منها فضلا عن طوي صفحة صدام الحضارات.
 
 
 
 
المصدر: الديار