كُتّاب الموقع
تسقط المعاني كلّها، وحده القهر يستوطن مدويّا: كم عمرا تريدين بعد يا بيروت؟

هنادي سلمان

الجمعة 9 نيسان 2021

أعلنت وكالة الأنباء الأردنية، يوم السبت 3 نيسان/أبريل 2021، عن قيام أجهزة الأمن باعتقال عدد من الأشخاص بينهم الشريف حسن بن زيد، ورئيس الديوان الملكي السابق، باسم عوض الله، ومدير مكتب ولي العهد السابق، الأمير حمزة بن الحسين، لأسباب تشكل تهديدًا للأمن الوطني الأردني. بينما تحدثت وسائل إعلام أميركية عن وضع الأمير حمزة قيد الإقامة الجبرية، مع شيوع أنباء عن محاولة انقلابية. وعلى الرغم من أن الديوان الملكي نشر بيانًا موقّعًا من الأمير حمزة يضع فيه نفسه تحت تصرف الملك، ويعلن التزامه بدستور البلاد، فإنّ نشرَ مقطع صوتي للقاء عاصف بين الأمير ورئيس أركان الجيش الأردني دفع إلى التشكيك في انتهاء الأزمة. ولكن رسالة الملك إلى الأردنيين عادت وأكدت انتهاءها بوضع الأمير حمزة "تحت رعايته".
 
الإطار العام للأزمة
 
 
إن فصل "أزمة" الأمير حمزة عن الوضع العام في البلاد أمر في غاية الصعوبة؛ إذ يعاني الأردن مشكلات جوهرية سياسية واقتصادية واجتماعية، ساهمت في حصول تفاعل مجتمعي كبير مع أزمة الأمير. بهذا المعنى صار من الصعب الفصل بين المستويين العام والخاص للأزمة. أما على الصعيد العام، فقد تطورت الأزمة السياسية الداخلية خلال الأعوام الماضية بصورة واضحة. ففي عام 2018، خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين احتجاجًا على التعديلات على قانون ضريبة الدخل، واعتصموا في عمّان قرب مقر رئاسة مجلس الوزراء (الدوّار الرابع)، وتطورت مطالبهم لتصبح مرتبطة بالإصلاح السياسي؛ ما أدى إلى إطاحة حكومة هاني الملقي، وتكليف عمر الرزاز بقيادة الحكومة، مع وعود بالإصلاح السياسي، وتأسيس عقد اجتماعي جديد.
لكن حكومة الرزاز لم تلبث أن تعرّضت لانتقادات شديدة من أنصار التيار المحافظ في مؤسسات الدولة؛ ما دفعها إلى التخلي عن خطابها الإصلاحي في شقه السياسي، في حين استمرت في تنفيذ أجندتها الاقتصادية. وقد استغل خصوم الرزاز أزمة نقابة المعلمين (التي بدأت أزمة مهنية مرتبطة بحقوق المعلمين قبل أن تتحول إلى أزمة سياسية) لاتهام الحكومة بالتهاون والضعف أمام النقابة؛ ما أدى في نهاية المطاف إلى حل النقابة بعد تجدد الأزمة معها.
 
 
غادر الرزاز الحكم، وجاءت حكومة بشر الخصاونة، المحسوبة على التيار المحافظ. لكن دعوة الملك إلى مراجعة التشريعات الناظمة للإصلاح السياسي وتعديل قانون الانتخاب، ورسالته إلى مدير المخابرات التي دعا فيها إلى حصر دور الجهاز في الجانب الأمني فقط، لم تؤد إلى تغيير أو تحسين حال الحريات العامة في البلاد، بل تزامنت الرسائل الملكية مع حل حزب الشراكة والإنقاذ، واستمرار النهج الأمني في إدارة الأزمات السياسية.
 
 
في هذه الأثناء، بدأت تبرز جماعة معارضة في الخارج، وهي مجموعة من الإعلاميين المعارضين الذين انتقلوا من تبني خطاب إصلاحي إلى خطاب أكثر راديكالية انتقدوا فيه الملك عبد الله الثاني مباشرة، وحاولوا إعادة صياغة قواعد اللعبة السياسية، بتجاوز الحكومات وتركيز هجومهم على الأجهزة الأمنية، التي تدير المشهد السياسي عمليًا.
 
 
اكتسبت هذه الجماعة حضورًا غير مسبوق في المشهد الداخلي، وأخذ آلاف الأردنيين يتابعون برامجها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتجاوزت المشاهدات في بعض الحالات المئة ألف. 
 
 
خلال أزمة الأمير، التقى خطاب المعارضة الخارجية مع الحراك الاحتجاجي الداخلي المرتبط بارتفاع معدلات البطالة والفقر، خاصة في أوساط الشرق أردنيين الذين شكلوا تاريخيًا القاعدة الاجتماعية لجهاز الدولة في الأردن، والذين لديهم توقعات أكبر من الدولة لجهة توفير الخدمات والوظائف وغيرها، وبدا كأنّ هناك تعاطفًا مع الأمير حمزة الذي تزايد كما يبدو نشاطه الاجتماعي ذو الصبغة السياسية.
 
 
أما على المستوى الخاص المرتبط بشخص الأمير، الأخ غير الشقيق للملك عبد الله، فقد بدا تحركه كأنه مرتبط بظروف تهميشه وإبعاده؛ إذ كان وليًا للعهد في الفترة 1999-2004، قبل أن يتم إعفاؤه من منصبه تمهيدًا لتسمية ابن الملك وليًا للعهد عام 2009. لم يحضر الأمير حمزة في المشهد السياسي خلال العشرية الأولى من عهد الملك عبد الله الثاني، لكنّ خطابه النقدي عبر "تويتر" بدأ يظهر في الأعوام الثلاثة الماضية، بعد إنهاء خدمته العسكرية وإحالته إلى التقاعد برتبة عميد في القوات المسلّحة، وأصبحت مداخلاته وتغريداته محط اهتمام لدى الرأي العام بصورة واضحة، إضافة إلى زياراته وعلاقاته الاجتماعية، وشبهه الكبير بوالده في اللغة والخطاب.
 
 
ومع أنّه لم يطرح نفسه بديلًا أو يلمّح إلى ذلك، فإنّ حضور الأمير حمزة كان يمثل غطاء أو يعطي شرعية للأصوات المعارضة أو النقدية، وكان ذلك أمرًا غير مألوف كونه أخ الملك؛ ما طرح مقارنات بينه وبين الآخرين من أفراد الأسرة الحاكمة، ودفع جماعة المعارضة إلى التلميح إليه باعتباره بديلًا؛ فأصبح يمثل تحديًا حقيقيًا للحكم، خصوصًا مع تسارع جهود تأهيل نجل الملك، ولي العهد الأمير الحسين، لتولي شؤون لحكم. 
 
 
بهذا المعنى، بدا حمزة حجر عثرة في طريق ولي العهد، الذي كانت شعبيته في أوساط الشرق أردنيين موضع تساؤل، يغذيه أولئك الذين ترجموا سخطهم على النظام بإشارات إلى أصول الملكة وولي العهد بوصفه ابنها. وهي لغة خطيرة ومرفوضة لدى الرأي العام الأردني؛ لأنها بهذه الطريقة تمس بوحدة المملكة. ولا شك في أن هذه اللغة أضعفت موقف الأمير حمزة ذاته. 
 
تفجّر الأزمة
 
 
مثلّت حادثة مستشفى السلط، حيث توفي عدد من المصابين بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، بسبب الإهمال الإداري وانقطاع الأوكسجين، الشرارة التي أطلقت الأزمة. فقد سارع الملك إلى زيارة المستشفى للوقوف على الأوضاع فيها، وتمت إقالة وزير الصحة وأحيل مسؤولون في وزارة الصحة إلى القضاء. وأدت الحادثة إلى إحياء "حركة 24 آذار"، وشحنت المعارضة الخارجية الأجواء لتفجير الاحتجاجات. وحينما قام الأمير حمزة بزيارة أهالي الضحايا في السلط، اعتبر القصر الملكي ذلك رسالة استفزاز، فقد ذهب بعد الملك مباشرة، وبعدما طرد المحتجون رئيس الديوان الملكي من السلط؛ ما دفع الملك إلى إرسال ولي العهد.
 
 
 وقد بلغ التوتر ذروته، حينما هتف متظاهرون خلال إحياء ذكرى احتجاجات 24 آذار/ مارس 2011، في محافظة عجلون، باسم حمزة، وهي سابقة في الحراك الشعبي والسياسي الأردني، وتزامن ذلك مع بث المعارضة الخارجية لخطاب ضد الملك نفسه ومتعاطف مع حمزة، فكان القرار بإنهاء التحدي الذي شكله الأمير قبل أن تتجذّر الأزمة.
 
 
بدأت التسريبات حول وضع الأمير حمزة تحت الإقامة الجبرية، وقطع الاتصالات عنه صباح يوم السبت (3 نيسان/ أبريل)، وهي أخبار انفردت ببثها "المعارضة الخارجية". وفي اليوم التالي، عقد أيمن الصفدي، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية مؤتمرًا صحافيًا، تحدث فيه عن إحباط محاولة لزعزعة أمن الأردن، وعن وجود دائرة محيطة بالأمير حمزة تتواصل مع المعارضة الخارجية، وعن أجندات خارجية، وعن رصد مكالمات هاتفية وتحديد أوقات ومواعيد لتنفيذ مخطط وصفته القوات المسلحة سابقًا بأنّه "بعيد المدى ومعقد". وكان هذا المؤتمر من أهم مظاهر سوء إدارة الأزمة. فقد تساءل الناس لماذا وزير الخارجية؟ وما المقصود بالقوى الخارجية؟ وهل يفترض إن يخاطب النظام الشعب الأردني بواسطة وزير الخارجية؟ من الواضح أن النظام فهم أن خطأ وقع وحاول استدراكه، وخرج الملك برسالة إلى الشعب. وربما ما كان ليحتاج إلى ذلك لولا هذا المؤتمر الصحافي.
 
 
في المقابل، صدر عن الأمير حمزة تسجيلات مصورة باللغتين الإنكليزية والعربية تؤكد احتجازه، وتكشف حواره مع قائد الجيش، ووضعه في الإقامة الجبرية وقطع الاتصالات عنه. انتهت الأزمة بتدخل من عم الملك الأمير الحسن بن طلال، بتكليف من الملك، حيث وافق الأمير على بيان يؤكد فيه ولاءه للملك ولولي العهد. لكن أعقب صدور البيان تسريب صوتي لحوار جرى في منزل الأمير حمزة مع رئيس هيئة الأركان المشتركة، يظهر فيه الأمير وهو يوبخ قائد الجيش قبل أن يطرده؛ ما أثار شكوكًا بشأن انتهاء الأزمة.
 
نتائج الأزمة وتداعياتها المستقبلية
 
 
سوف تنتهي الأزمة على الأرجح بخروج الأمير حمزة من المشهد السياسي، وربما الحياة العامة (على نحو مؤقت أو دائم)، لكنّ الطريقة المرتبكة التي أدارت بها الدولة والمؤسسات الإعلامية الأزمة، وتضخيم الموضوع، عاملان عززا من شعبية الأمير ومنحاه نقاط قوة وحضورًا أكبر. وكما هو واضح لن يسمح الملك بتحويل أحد إخوانه إلى رمز للمعارضة السياسية في أي احتجاجات مقبلة، في ظروف اقتصادية ومالية صعبة، يزيدها وطأة جائحة كورونا، وفي ظل أزمة سياسية عنوانها فقدان الثقة بين الحكومة والشارع.
 
 
وعلى الرغم من أن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة ملتفة حول الملك، ومع أن الأمير لا يحظى بأي حضور حقيقي مباشر في هذه الأوساط، فإنه سجل نقاطًا كثيرة على صعيد الشارع، وضاعف من صعوبة التمهيد لدور ولي العهد، مع أن ولاية العهد محسومة وراثيًا في المملكة، وجرّأ الشارع أكثر على انتقاد السياسات الرسمية، وأبرز دور جماعة المعارضة الخارجية المتزايد وسط المشهد الداخلي.
 
 
وفي ضوء إعلان أكثر الدول العربية والقوى العالمية تأييدها للإجراءات التي اتخذها الملك، تبدو الإشارة إلى تورط جهات خارجية في العبث باستقرار الأردن مجرد دعاية سياسية، وعلى الأغلب المقصود بها المعارضة الخارجية، بينما يبقى الغموض يلفّ علاقة باسم عوض الله، رئيس الديوان الملكي السابق، ومستشار الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، بالأزمة. فإذا صح وجود علاقة واتصالات بين الأمير وباسم عوض الله، فهذا يمس بصدقية الأمير لدى قطاع من الجمهور الأردني درج على اتهام عوض الله بأنّه أحد أعمدة الفساد في الأردن.
 
 
من المتوقع بعد نشر الرسالة المكتوبة التي وجهها الملك الى الأردنيين في السابع من نيسان/ أبريل وأعلن فيها "وأد الفتنة" ووضع الأمير حمزة "في رعايته"، أن يستمر المسار القضائي لباقي المحتجزين، ما يعني أنّ جزءًا من الأزمة انتهى، وآخر مستمر، وهو أمر قد يفضي إلى حصول تغييرات مهمة تلحق مواقع سياسية وأمنية، بعد التقييم السلبي لإدارة الأزمة الذي أوضحته ردود الفعل الشعبية. وإذا كان للملك أن يستعيد زمام المبادرة، فمن الضروري التفكير جديًّا في إطلاق مسار الإصلاح السياسي، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في صنع القرار، ومعالجة الانطباع السائد في أوساط الرأي العام عن انتشار مظاهر الفساد، والتجاوب مع المطالبات بإنشاء عقد اجتماعي جديد يسمح بالتعامل مع التحديات الصعبة التي يواجهها الأردن. كما يتطلب ذلك تخلي أجزاء من المعارضة الأردنية عن خطاب هوياتي يسيء إلى وحدة المملكة والشعب الأردني، ويعرقل تطور أي معارضة ديمقراطية حقيقية وبناءة.
 
 
هل أنه حلّ سريعا واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟
 
هذه بلاد أفلست وماضيّة في طريقها وكأنّها لم تفلس. سياسيّا واجتماعيّا وأخلاقيّا منذ تأسيسها. لكنها، الآن هنا، باتت مفلسة، علنا، اقتصاديا وماليا، مرمي من فيها للعوز والقهر لأجل غير مسمى. غير منظور.
 
كان الرفاه النسبي، المتفاوت بحسب المناطق والحظوظ والقدرة على النفاق والتحايل، يسمح بغض الطرف والأطراف ويميّع رغبة بالتغيير. كلا، لم يكن هناك “ثوّار” يعملون من أجل إسقاط النظام. كان حاملو جواز سفر هذه الجمهوريّة، ومازالوا، مجموعات متباينة، بينهم المستفيد، والمهاجر والراضي، والعاجز، والجاهل، والثري، والرافض، والعاصي، وبينهم الّذي يكّد لبناء حياة لأبنائه وشيخوخة لائقة لأهله، وبينهم الساعي للرحيل، والمقهور لتعذّر الرحيل، وبين كلّ هؤلاء قلة من سعاة التغيّير: بالقلم، بالفن، بالتذمّر، أو بما تبقى من العمل السياسي والحزبي الفعليين من أجل القضاء على النظام الطائفي المتشابك والطبقيّة وأرباب الاحتكارات، و…السياسات الإقليميّة.
 
كيف أستتر الطبقي، ويستتر، تحت قناع الطائفي، ثم المذهبي، كي تستمر حفنة من الأسر، يزيد عددها أو ينخفض قليلاً، تتغير أسماؤها أحيانا والوجوه، في تحديد مصير ملايين البشر الذين لا يعرف أحد عددهم بعد؟ 
 
كيف كان لهذا العدد من الكفاءات المتميزة في الآداب والفنون والعلوم، وفي الوطنية، في الداخل وفي الخارج، أن يرضى بأن يحكمه من هو دونه حبا لحياته، للحياة كما ينبغي أن تكون؟ 
 
منفى العرب، واحة العرب، كتاب العرب، مقهى العرب، ملهى العرب، خمّارة العرب، ملجأ العرب، جامعة العرب، قاهر الفقراء من العرب، وصيّاد الأغنياء منهم، حاضن اللاجئين الفلسطينيين وقامعهم في آن، ممتعض علنا من لجوء النازحين السوريين ومستفيد من الهبات المخصّصة لهم. العنصري والمحتفي بالغريب في آن.
 
جبل، وبحر، وشنطة تسّوق. مقاومة من الأطياف كافة، أنهت الاحتلال الإسرائيلي ثم عادت وهزمته. مطّبعون ومطبّعات، خونة ووطنيون. وطنيون يختلفون على معنى الوطنية والوطن، خونة كل يرى في خيانته وجهة نظر.
 
مركز صاخب برّاق متباه، تبقيه الرُشى منغمسا في ذاته، ساع للمزيد من الرقص في الوقت الضائع. وأطراف لا أحد يعرف أسماءها، تعتاش مما يفيض عن غيرها: إن طرحت الأرض ما يسد الجوع، إن توظّف منها أحد في الرتب الدنيا من القطاع العام، إن ضحك القدر في وجه أحد أبنائها واستقبلته بلاد الغربة وخيراتها. بالسرقة، بالخروج عن القانون، بالدعاء، بالصبر الذي بلا نهاية.
 
مجرد عشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومترا، ومن في جنوبها لم يزر يوما شمالها والعكس. أفراد يعيش كل في قريته، منطقته، منطقه، جماعته، مذهبه، ولا يعرف كم أن “الآخر” يشبهه، حتى ليكاد يكونه.
 
كيف يمكن لهذا القدر من الغربة أن ينشأ بين فئات تعيش على أرض لا يفصل أقصاها عن أقصاها أكثر من ساعة أو ساعتين بالسيارة؟
 
هل تحولت هذه البلاد إلى وطن في السنوات المئة منذ أن أُعلن قيام الدولة؟
 
سريعا حلّ واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟
 
في تلك الطنّطنة، الّتي تحّل في 13 نيسان من كلّ عام، في ذكرى اندلاع الحرب الأهليّة، (بين الأهل). سيعود الخطاب ذاته، محدّثا بحسب ما آلت إليه الأوضاع اليوم، ليسود: فالمتكلّمون هنا صادروا الحداثة والتحديث أيضا. 
 
في تلك الطنّطنة، سيُعلك الكلام ذاتّه على الألسنة ذاتها، كما يحصل كلّ عام، بلا حياء.
 
لم يحلّ سريعا، بل كان يتغلغل ببطء. وكنّا نراه في تغلّغله.
 
وتلك الحرب، لمَ نحيى ذكراها هي دون عن سواها؟
 
كم من حرب غيرها وقعت على هذه الأرض؟ كم من حرب تدور رحاها اليوم بين زحام الركام الذي يسمى حياتنا؟
 
متى كانت هذه الرقعة الجغرافية وطنا؟
 
لم نحيى ذكراها ويومياتها المضنية وهي مازالت تعشش في مكانها بين الضلوع وبين الرئتين، تطبق على الصدور، وتلوث ما نتنفسه ونراه ونسمعه ونقوله ونفعله، فيما نحن نمعن دوما في رفض ولوج الطريق المؤلم الوحيد القادر على إخراجها منا وإخراجنا منها.
 
من يريد أن يقرأ اليوم أو يسمع تفاصيل تلك الحياة التي كانت تنحصر بين زقاقين ونيف، تدور بطيئة لزجة في الظلمة والعطش؟ حياة مفاتيحها بين أيدي فتيان مسلحين بلحى يأتمرون بأوامر أمراء شوارع نحيا ونموت على وقع أمزجتهم وحساباتهم.
 
كيف، وهم هم من يملكون منذ ذلك اليوم مفاتيح الموت والحياة؟
 
لكنه موت بطيء، ما نحياه اليوم. مازالت لعبتهم قائمة، وحسابات الربح والخسارة لم تتغير: نحن البيادق، وكلما جمع طرف منهم عددا أكبر منا، اقترب أكثر من الفوز. ونحن ننساق، في كل مرة. نتكتل كالأشياء بالقرب من أحدهم. نقتنع أن ما من وسيلة أخرى لرد العوز، والمرض، والجهل، والعراء عن أولادنا. أو نقتنع بأن الهجرة هي الحل.
 
نحن وقود نار نضرمها في كل مرة لتحرقنا. نحن ندور كالفراشة حول ضوء ليس ضياء، تلسعنا شراراته ونستمر، ونقنع أنفسنا أن ما من سبيل آخر.
 
والاستهتار بالأرواح الذي ساد بين العامين 1975 و1990 مازال سائدا. توقفوا عن قتلنا بالرصاص والصواريخ. باتت سبل القتل متنوعة: فساد، سرقة منظّمة، تجهيل، عوز، مياه ملوثة، نعرف بوجودها ولا نملك إلا أن نشرب منها. طرقات بحفر كفيلة بازهاق حصيلة يومية ثابتة من الأرواح. مبيدات محظورة لإنضاج ما نأكله ونطعمه لأطفالنا. مليارات الدولارات من شقائنا ومن مستقبل أولادنا لكهرباء مظلمة وظالمة. قوانين تطبق اعتباطيا، وأخرى لم يعد يتذكرها أحد. نساء بأولاد بلا جنسية. مغتربون لم يطأوا أرضها يقررون من يحكمها. سكاكين وأياد تتشابك في ملاعب مدارس يفترض أنها حكومية. مرضى يلفظون أنفاسهم الأخيرة على أبواب مستشفيات توصد في وجه آلامهم. أخطاء طبية قاتلة تحميها قوانين نقابية، تكاد تشرعها. مبان تنهار فوق أجساد أصحابها. أطراف تتجمد كل شتاء، ولا تجد إلا أغصان الأشجار النضرة وسيلة لرد البرد. غلاء مستشر. محاكم معطلة. هيئات أمنية تفتقر إلى المصداقية. أدوية فاسدة ومنتهية الصلاحية. زحمة سير، غني وفقير، قلة ذوق. وعلى فكرة، أين تقع عكار؟
 
أطفال دون الخامسة ينتزعون من أحضان أمهاتهم بحجة أن الأب أولى، وأجدر. نساء تذوين لأن لا قوانين تحميهن: في الزواج، في الطلاق، إن عنفن، إن ضربن، وحتى إن قتلن بداعي “الشرف”. رجال تمتهن كراماتهم في سعيهم للعيش الكريم. أصحاب حاجات خاصة مهملون، مخدرات على أبواب المدارس، “جامعات” خاصة بمناهج “خاصة جدا”. “فنانات” وفنانون على قدر عدد الفانات. سيارات أجرة عددها يكاد يفوق عدد الركاب. باصات عملاقة فارغة تجوب شوارع المدينة ومحيطها. مخيمات فلسطينية محاصرة، مهانة، وعرضة لهجوم مسلح في أي وقت.
 
سني وشيعي، عوني وقواتي. سوريا واسرائيل. مستوصفات ومدارس خاصة لكل المذكورين. حياة رديفة، رشوة مستترة، خدمات تضرم النار كلما خمدت.
 
لم تنته الحرب. انتهى تساقط الحمم المعدنية. كيف يستتر ما نعيشه اليوم تحت قناع السلم الأهلي؟
 
لم تنته الحرب، فقط تلاشى الأمل الذي كان يحفز على الصمود في وجهها، الأمل بما سيكون يوماً أن هي توقفت..
 
لم تنته الحرب. لم تنته قط. ما حصل هو أن قانون عفو صدر. هم أصدروه. هم عفوا عن أنفسهم. ونحن مازلنا نتكتل من حولهم.
 
وهم، لم يعفوا عنّا: تبييض أموال، نهب للمال العام، تهرّب ضريبي، إلخ.. ثمّ، لم يكتفوا، فاستولوا على ما في جيوبنا أيضا، وأعلنوا إفلاس البلاد، وزاد ثراؤهم.
 
ماذا يعني أن تجلس اليوم في منزلك، وتتمنى أن يطيعك قلبك ويتوقف عن الخفقان: ماذا سأفعل إذا؟ قوت ابنتي، أقساط المدرسة، ثمن الدواء، كلفة المرض، وشيء من الماضي اسمه الغدّ ….
 
ماذا أفعل بعد؟ لقد عملت من كل قلبي وعقلي لعشرات السنين. وفرّت ما يمكن أن يغطي كلفة تعليمها، ثم صادر المصرف الجنى والضنا. هكذا.
 
لا مسكن للألم في الصيدليات. رفوف محلات التسوق نصفها خاو. أسعار النصف الممتلئ تجعلك تسرع بالابتعاد عنها.
 
ماذا فعلت؟ ماذا فعلت غير ما يفعله الآخرون كلهم؟ درست. عملت. مرضت. تجاوزت عددا لا بأس به من الحروب. وقعت. نهضت. وقعت مجدّدا ثم عدت ونهضّت مرارا، بعدها عدت وعايشت حربين أو أكثر قليلا أو أقل. ثمّ نهضت وعدت إلى العمل. كما كلّ الناس.
 
كان لدي ما أفعله هنا. كان لدي ما أقوله هنا. كان هنا هو كل شيء. ثم، لفظني الهنا…لفظني حتّى جعلني ألفظه، لدرجة أني نبذت نفسي.
 
أين أذهب الآن؟ كيف أرسم غدها بعد؟
 
الكارثة حلّت، وأنت مازلت تجلس تخشاها تنتظرها وكأنّها لم تحلّ بعد وتعرف أنك، هذه المرة، لن تهزمها.. ولكن، وأنت جالس تنتظر (ما هو قائم)، ماذا تفعل؟
 
في كلّ ما كان قبل اليوم وحلّ، شعور واحدُ لم أعرفه يوما: الخوف. تعرّفت عليه أخيرا. من قبل، كان للطريق معالم ومسار ووجهة للوصول. لم يعد اليوم من طريق. لم يعد اليوم من وجهة. أضحى هناك فراغ كبير، يودي إلى مجهول هائل.
 
مع الوقت، مع القهر، تسقط المعاني عن الأشياء كلّها. ماذا يعني أن تستيقظ كلّ صباح وتغيّر ملابسك؟ أو تستحم؟ أو تغطيّ الشيب الذّي انتشر في شعرك؟
 
ماذا يعني كلّ ما اقتنيته على امتداد أعوام: كتب ولوحات وأسطوانات موسيقيّة، أي، أشياء “تحبّها”. ماذا يعني فستان جدّتي الّذي احتفظت به يوم وفاتها.. للذكرى؟
 
ماذا يعني أن تنظر إلى وجهك في المرآة؟
 
لماذا تتصّل بمن تحب أو تعرفه؟ ما ستقوله بات مكرّرا حتى فقد معناه: غلاء. مرض. غبن. خوف. لا أمل. لا ضوء في نهاية النفق. “كيفك؟” كيف أنا؟ كلّ شيء واضح ومكشوف. كيف يمكن أن أكون؟
 
حتى خبر الموت يكاد يتحوّل إلى مجرد معلومة تخفّ وطأة تأثيرها مع ارتفاع أعداد الموتى. تدفع النهار بيديك كي يمضي وتعود إلى النوم. لا شيء هنا. لا حياة.
 
أقاطع الأخبار، مكتوبة ومرئية ومسموعة، ثم ذات يوم أقرّر أن أتلصص على حياتي، فافتح على نشرة الأخبار، وأغيّر القناة بعد دقائق.
 
سريعا حلّ واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟
 
سريعا حلّ، بعدما كان يتغلّغل ببطء. القهر.
 
كورونا هنّا ليست سوى تفصيل طارئ. سبب آخر للموت المجاني على أبواب المستشفيات.
 
تسقط المعاني كلّها. حتى في عزّ الحرب كان شارع الحمرا لي، يشبهني وأشبهه. ما هذا الذّي حلّ مكانه الآن، هنا؟
 
صوت زخّات المطر، العصفور الصغير الذي يزور شرفتي كلّ صباح لدقائق قبل أن تحمله جناحاه إلى حيث يريد. الياسمينة التي أزهرت في الشهر الأول من السنة، الزرع الذي أراه من خلال الزجاج، من “مقرّي” على الكنبة، والذي ينمو لأنّني أهتّم به أحيانا. صوت الرعد الذي يدفعني في كلّ مرة كي أتمنّى لو أن لديّ حضنا يلفّني مع صرخاته. أشعة الشمس المتسلّلة بدفء كي تتفتّح شقائق النعمان في حقول فلسطين في آذار، “شهر الفصول المدللّ”. عيناها، ووجه أبي. كلّ هذه، لا أريد لمعناها أن يستمر في التسّرب من بين أصابعي. وحده معناها أريده أن يبقى.
 
أريد أن أصرخ بأعلى صوت. أريد لصوتي أن يطير نحو السماء، ويرتطم بالأرض، ويتخبّط يمينا ويسارا حتّى يصبح أعلى. لا أريد له مستمعين. أريد فقط أن ينطلق، يتبعثر، أن يحمل هذا الثقل الذي في قلبي إلى الخارج، إلى خارجي، وأعود كالجماد من جديد.
 
 
 
 
 
المصدر: على الطريق