كُتّاب الموقع
تاريخ الاستقواء في لبنان

موفق محادين

الأربعاء 24 شباط 2021

قبل ظهور حزب الله بسنوات طويلة كان اثنان من منظري الكيانية اللبنانية المناهضة للعروبة يحذران من الخطر الإسرائيلي على لبنان وهما ميشال شيحا وكمال الحاج.
 
 
من الأكاذيب السياسية الدارجة في بعض الأوساط اللبنانية، ردّ الأزمة الحالية إلى الاعتبارات التالية: الأول ما يسمّونه نفوذ حزب الله ودوره في سوريا (ضد الدواعش والإرهابيين) وعلاقته بإيران، أي إلى شكل من الاعتبارات الخارجية، ومتى؟ في الوقت الذي تدعو هذه الأوساط بالذات إلى الاستقواء على الحزب بقوى خارجية وبذرائع مختلفة، ليس آخرها الفصل السابع من نظام مجلس الأمن.
 
الاعتبار الثاني هو إغفال ما كتبه شيحا والحاج والعازوري عن الخطر الإسرائيلي قبل ظهور حزب الله بسنوات طويلة، والثالث هو تجنّبهم الإشارة إلى البنى والمفارقات الداخلية التي شكّلت، وما تزال، العنصر الأساسي في كل ما يعيشه لبنان من أزمات.
 
وفي شيء من التفاصيل:
 
أولاً، إنَّ التّدقيق في التاريخ السياسيّ لهذا البلد يأخذنا من دون عناء إلى أنه تاريخ من الاستقواء بالخارج قبل ميلاد حزب الله والثورة الإيرانية بعقود، من موقع لبنان في التجاذبات بين الاحتلالات الثلاثة، التركية والفرنسية والبريطانية، أيام ضاهر العمر والشهابيين والمعنيين، إلى الحرب الأهلية 1860 (فرنسا مع الموارنة، والإنجليز مع الدروز)، إلى الأزمنة الحديثة التي رافقت توسيع لبنان بقرار فرنسي باسم لبنان الكبير، الذي ضم أراضي واسعة من سوريا الطبيعة، بل إن وجهاء بيروت ترددوا في الموافقة على اعتبارها عاصمة للبنان الكبير آنذاك، إلى دور الفرنسيين والإنجليز وبرجوازية الشام السنّية في الصيغة الملتبسة المعروفة بميثاق 1943، والتي لا توجد وثائق محقّقة مكتوبة حولها.
 
وإضافةً إلى الإنجليز والفرنسيين، ظهرت البرجوازية الشامية كداعم أساسي، بل كوصية على أهل السنّة، كما أظهرت الحرب الأهلية، وبالأحرى مقاومة النفوذ والتدخل الأميركي لمصلحة شمعون 1958، كما انتقلت هذه الوصاية إلى القاهرة الناصرية التي دعمت تلك المقاومة بزعامة كمال جنبلاط في حينه.
 
مع وفاة عبد الناصر والانقلاب الساداتي الأميركي - الرجعي - النفطي، انتقلت تلك الوصاية إلى قيادة عرفات حتى ساعة خروجه، إذ انتقلت إلى فريق سعودي جديد هو تيار المستقبل (معظم كوادره وقياداته من أصول ناصرية، تحولت إلى فتح، ثم إلى الحريرية السياسية). يشار هنا إلى بعض الشيوعيين الذين غادروا حزبهم وانضموا إلى المشروع العرفاتي.
 
أما الموارنة، فقد توزّعوا بين الهوى الشامي، وخصوصاً المردة، والهوى الفرنسي والأميركي، والعدو الصهيوني، وواصلت القيادة الدرزية المناورة بين أكثر من عاصمة عربية ودولية.
 
ثانياً، قبل ظهور حزب الله بسنوات طويلة، كان اثنان من منظري ومهندسي الكيانية اللبنانية المناهضة للعروبة يحذران من الخطر الإسرائيلي على لبنان، تحت شعار: إما لبنان وإما "إسرائيل"، ولن يستقر لبنان، في رأيهما، قبل حسم هذا التناقض، وهما ميشال شيحا وكمال الحاج، ومثلهما لبناني ثالث، هو نجيب العازوري، صاحب كتاب "يقظة الأمة العربية"، الذي كان مقرباً حينها من باريس.
 
 
ثالثاً: المفارقات الداخلية 
 
أولاً: باستثناء العهد الشهابي (فؤاد شهاب - شارل الحلو - إلياس سركيس) والجنرالين إميل لحود وميشال عون، فقد توزعت العواصم الدولية والعربية في دعم أو ترشيح رؤساء الجمهورية في هذا البلد: ريمون إده الفرنسي - بشارة الخوري الإنجليزي - كميل شمعون الأميركي - فرنجية والهراوي ولحود (دمشق)، وسليمان (واشنطن – الرياض). 
 
ثانياً: إنّ العنصر الأساسي في لبنان ما يزال عنصر الطائفة والعائلة، إذ ما تزال الدولة رقعة جغرافية أكثر منها إطاراً اجتماعياً لطوائف وعائلات تتعايش وتتحالف وتتخاصم من دون أن تندمج في إطار مدني موحّد، ومن ذلك الطابع الطائفي لمعظم الأحزاب اللبنانية: مارونية الكتائب والقوات اللبنانية وجماعة فرنجية والكتلة الوطنية وحزب الأحرار - درزية الحزب التقدمي الاشتراكي - سنّية النجادة ومعظم الأحزاب الناصرية - شيعية أمل وحزب الله. 
 
أما الأحزاب التي عملت على كسر هذا الطابع، فهي الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الذي تجاوز أوساطه الأرثوذكسية إلى أوساط أوسع. 
 
كما يلاحظ أنَّ بعض الأحزاب حاول في البداية أن يتحرك في إطار أوسع من الطائفة، لكنه تحول في النهاية إلى أحزاب طوائف، مثل الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان يضمّ في عهد كمال جنبلاط قيادات من مختلف الطوائف، مثل أحمد خليل وهو شيعي، ومحسن دلول وإدمون نعيم، إلى أن تحوّل في عهد وليد جنبلاط إلى حزب درزي. كما أن حزب الوطنيين الأحرار كان يضمّ في البداية قيادات غير مارونية، مثل محمود عمار. 
 
ثالثاً: الطّابع الشّخصيّ والعائليّ: آل جنبلاط بزعامة المرحوم كمال جنبلاط للحزب التقدمي الاشتراكي (الدرزي)، وآل الجميل بزعامة المرحوم بيار الجميل لحزب الكتائب، وآل شمعون للوطنيين الأحرار، وآل فرنجية للمردة، وآل إده للكتلة الوطنية. وتبرز كذلك بصمات العديد من النساء، مثل نساء آل طوق (ستريدا جعجع ومريام سكاف ووالدة وليد جنبلاط وكامل الأسعد). 
 
رابعاً: التّوريث السّياسيّ، فقد خلف جنبلاط ابنه وليد، وخلف بيار الجميل ابنه بشير ثم أمين، وخلف شمعون ابنه دوري، وخلف إميل إده ابنه ريمون... والطّريف في الموضوع أنّ كلّ هؤلاء يسجّلون على نظام بشار الأسد حكاية التوريث السياسي وحكم العائلة والطائفة، ويطالبون الشعب السوري باللحاق بركب الديمقراطية وإنهاء عهد التوريث والعائلات. 
 
خامساً: حجم التصفيات والاغتيالات السياسيّة التي تعود إلى جذور أبعد بكثير من اتهام سوريا.
 
وبخلاف ما هو شائع، فإنَّ قادة ما يعرف بثورة الأرز والثورة البرتقالية وخطباء الديمقراطية ضد سوريا وحزب الله، هم الأكثر تورطاً في عمليات القتل ومحاولات الاغتيال المختلفة... فقادة حزب الكتائب، وذراعها العسكرية (القوات اللبنانية) قبل تحولها إلى حزب سياسي، نفّذوا القسم الأكبر من عمليات القتل أو محاولات القتل، وخصوصاً داخل الطائفة المارونية نفسها (تصفية داني شمعون وطوني فرنجية ومحاولة اغتيال ريمون إده...).
 
المفارقة السادسة: الصراع على التمديد لرئيس الجمهورية. ليس صحيحاً أن هذه المعركة بدأت مع التمديد للرئيس لحود، بل مع أول رئيس بعد الاستقلال (بشارة الخوري)، إذ سقطت هذه المحاولة بفضل ثورة شارك فيها معظم القوى اللبنانية، من كمال جنبلاط إلى بيار الجميل وكميل شمعون، كما أنَّ شمعون نفسه سقط بفعل ثورة ثانية قادها جنبلاط وعدنان الحكيم. والمفارقة هنا أنَّ جنبلاط نفسه حاول التمديد للرئيس فؤاد شهاب، وانتهت محاولته بتسوية انتخب فيها شارل الحلو رئيساً (من الخط الشهابي). 
 
المفارقة السابعة: إنَّ فلسفة الاتحاد مع سوريا، سواء في إطار سوريا الكبرى أو في إطار عروبي، لم تتأسَّس في سوريا، بل في لبنان، وازدهرت فيه أكثر من سوريا نفسها، بل جاءت من أوساط مسيحية، في ما يفترض أن لبنان تأسس في مناخات الوصاية الفرنسية المسيحية عليه، من الماروني فؤاد الشمالي الذي دعا إلى تأسيس حزب شيوعي واحد في لبنان وسوريا، إلى الأرثوذكسي أنطون سعادة الذي أسّس الحزب السوري القومي. 
 
المفارقة الثامنة: إنَّ مؤسّسة الجيش اللبناني، باستثناء بعض المحطات القصيرة، لم تتورّط في اللعبة الطائفية والحرب الأهليّة.
 
وبخلاف التحفّظات التي أبدتها أطراف قرنة شهوان على ترشيح الجنرالات لرئاسة الجمهورية، فإنَّ هؤلاء الجنرالات كانوا أكثر حرصاً على الوحدة والتعددية من الأحزاب والرموز السياسية.
 
 
 
 
المصدر: الميادين