كُتّاب الموقع
الليرة وسيناريو زيمبابوي: دوامة جهنمية من التضخّم المفرط

علي نور

الخميس 11 آذار 2021

لم يعد سرّاً أن البلاد دخلت خلال الأسابيع الماضية أخطر مراحل الأزمة الماليّة، التي توقّع الكثير من الاقتصاديين الوصول إليها. فوصول سعر صرف الليرة إلى مستوياته الحاليّة لم يعد يعبّر عن ضغوط ناتجة عن شح التحويلات الواردة إلى النظام المالي الرسمي، كما كان الحال في بداية الأزمة، بل بات يمكن القول أنّنا دخلنا دوامة التضخّم المفرط، التي لطالما حذّر منها الكثير من الخبراء. أي دوامة الانهيار الجنوني في قيمة العملة المحليّة، كالانهيار الذي شهدته دول كفنزويلا وزيمبابوي.
 
خطورة التضخم المفرط على المدى البعيد
 
 
في معظم سيناريوهات التضخم المفرط التي شهدتها أخرى حول العالم، غالباً ما بدأت دوامة الجحيم هذه بانهيار العائدات الضريبيّة نتيجة تراجع سعر الصرف. وهو ما دفع الحكومات إلى الإفراط في الاعتماد على المصارف المركزيّة لخلق النقد والاستدانة من جديد، وتمويل العجز. الأمر الذي أدّى إلى المزيد من التهاوي في سعر صرف العملة المحليّة، وهكذا دواليك. ولهذا السبب تحديداً، يكتسب التضخم المفرط صفة الدوّامة، لكونه عبارة سلسلة من التطورات السلبية المتكررة، التي تعلق فيها بعض البلدان كلبنان.
 
لم يختلف الأمر كثيراً في الحالة اللبنانيّة، فالسيولة النقديّة المتداولة اليوم خارج مصرف لبنان بالعملة المحليّة باتت توازي أكثر من خمسة أضعاف قيمة هذه السيولة في تشرين الأول من العام 2019، وهو ما تسبب في المحصّلة بدخول الليرة اللبنانيّة إلى نادي العملات المتهاوية، جنباً إلى جنب مع عملات الدول التي شهدت أبشع مظاهر البؤس والجوع الناتجين عن التضخم غير المألوف. لكن في حالتنا، أضاف اللبنانيون أسباباً أخرى لخلق النقد غير تمويل عجز الدولة، كخلق النقد لابتداع الهندسات الماليّة الجديدة، وتعويم رساميل المصارف، أو طباعة النقد لسداد ديون الدولة المستحقة أساساً بالليرة، أو حتى تمويل عمليّة سداد الودائع المدولرة بالليرة.
 
لكن بمعزل عن أسباب خلق النقد، تبقى النتيجة واحدة: دخلت البلاد هذه الدوامة العبثيّة والمقفلة. أما أخطر ما في الموضوع، فهو أن انهيار العملة بهذه المستويات سيجعل الخروج من نفق الانهيار الاقتصادي مسألة بغاية الصعوبة. وهذه التداعيات ستكون على المدى البعيد أخطر بكثير من التداعيات المعيشيّة المباشرة للضخّم المفرط التي نشهدها اليوم. فمعالجة مسألة انهيار القطاع المصرفي أو إفلاس الدولة كانت ممكنة منذ سنة، من خلال إعادة هيكلة معقولة للقطاع المصرفي والدين العام. لكنّ إضافة عامل انهيار سعر الصرف بهذه المستويات الكبيرة، ستعقّد كل جهود الحل خلال الفترة المقبلة، وسيكون الخروج من المأزق الحالي مهمّة صعبة جدّاً.
 
صعوبة توحيد أسعار الصرف
 
 
 
السبب الأساسي الذي سيزيد من صعوبة الخروج من الانهيار الحالي على المدى الطويل بعد كل هذا التهاوي في سعر الصرف، يكمن تحديداً في إشكاليّة توحيد أسعار الصرف. فعودة الانتظام إلى القطاع المالي، مستحيلة عمليّاً في ظل ظاهرة تعدد أسعار الصرف المعمول بها. ولهذا السبب، فأي خطة ماليّة تصحيحيّة لا يمكن أن تملك فرص النجاح، إذا لم تضع نصب أعينها خريطة طريق واضحة لمعالجة تشوّه سوق القطع، عبر توحيد أسعار الصرف في السوق. بمعنى آخر، على سعر الصرف في السوق الموازية أن يكون نفسه سعر الصرف المعمول به في المصارف، والمعمول به لاستيراد السلع الأساسيّة.
 
عمليّاً، مهّد مصرف لبنان لمعالجة مسألة سعر الصرف عبر الإعلان عن سعر صرف المنصّة، الذي كان يفترض أن يكون على المدى البعيد سعر الصرف الوحيد المعتمد في القطاع المالي، بعد توحيد أسعار الصرف. مع العلم أن خريطة الطريق لتوحيد أسعار الصرف كان يفترض أيضاً أن تشمل الاعتماد على رزم الدعم الخارجيّة، من صندوق النقد ومساعدات مؤتمر سيدر، لتسهيل عمليّة تعويم الليرة اللبنانيّة، من دون أن يشهد سعر الصرف المعوّم الكثير من الارتفاع، ولدفع سعر صرف السوق السوداء للانخفاض لاحقاً، وملاقاة سعر صرف المنصّة بعد تعويمه. وهذه الوصفة، التي عادة ما تترافق مع رفع تدريجي للدعم، غالباً ما يعتمدها ويحث عليها صندوق النقد في جميع برامجه، في الدول التي تمر بأزمات مشابهة. وهنا تقتضي الإشارة إلى أن العودة إلى نموذج توحيد سعر الصرف وفقاً لسعر ثابت، كما كان الحال قبل تشرين الأول من العام 2019، بات مسألة مستحيلة في جميع السيناريوهات، بالنظر إلى محدوديّة السيولة المتوفرة لدى مصرف لبنان، ومحدوديّة التحويلات الخارجيّة الواردة إلى النظام المالي.
 
في حالتنا اليوم، باتت كل هذه التصورات صعبة المنال، وخصوصاً مع اتساع الفارق بشكل كبير بين أسعار صرف المنصّة والسعر الرسمي القديم من جهة، وسعر صرف السوق السوداء من جهة أخرى. فأي تعويم أو توحيد لسعر الصرف سيعني اليوم عملياً دفع سعر الصرف الجديد المعوّم لارتفاع كبير، بالنظر إلى ارتفاع قيمة الدولار في السوق الموازية، مع كل ما يعنيه ذلك من تبعات أجتماعيّة قاسية. أما الاحتمال الآخر، فهو اعتماد البلاد على كميات أكبر من المساعدات الماليّة الخارجيّة، للحد من ارتفاع سعر الصرف بعد تعويمه. وهذه مسألة صعبة المنال بالنظر إلى محدوديّة المبالغ التي يستطيع لبنان الاستفادة منها من صندوق النقد.
 
كل هذه الأسباب، تعْلَق بعض الدول التي تدخل دوامة التضخم المفرط في سلسلة يصعب قطعها من الانهيارات المتتالية في سعر الصرف، من دون أن تتمكن من الخروج من هذه الدوامة إلا بإجراءات قاسية جداً، وبصعوبة شديدة. وفي حالة لبنان، لا يوجد حتّى اللحظة تصوّر ما لكيفيّة القيام بهذا الأمر، وهو ما يرجّح الاستمرار بالغرق في آتون التضخّم على المدى المتوسّط.
 
مخاطر ما بعد رفع الدعم
 
 
 
كما بات معلوماً، تتحضّر البلاد منذ فترة للدخول في مرحلة الرفع التدريجي للدعم، خصوصاً بعد أن استنزف مصرف لبنان الاحتياطات، التي يعتبرها الحاكم قابلة للاستخدام طوال الفترة الماضية. علماً أن حاكم المصرف المركزي أبلغ مجلّة "يورو موني" في الأسبوع الأول من الشهر الماضي، أن ما تبقى من سيولة قابلة للاستخدام بحوزته تكفي لنحو خمسة أو ستة أشهر من دعم استيراد الأدوية والقمح والمحروقات، فيما بات من الواضح أن مصرف لبنان بدأ منذ أسابيع بتقنين السيولة التي يوفّرها لاستيراد المستلزمات الطبية والمواد الغذائيّة.
 
عمليّاً، ومع الرفع التدريجي للدعم، سيضطر تجار السلع الأساسيّة إلى اللجوء إلى دولارات السوق الموازية للاستيراد. ومع ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية إلى مستويات قياسيّة اليوم، ستكون النتيجة ارتفاع ضخم في أسعار هذه السلع، وهو ما سيؤدّي إلى كارثة معيشيّة غير مسبوقة. مع العلم أن ارتفاع أسعار المحروقات عالميّاً ستزيد من وطأة هذه التطورات. وبذلك، سيكون أمام الدولة اللبنانيّة خياران، إما اللجوء إلى إطالة فترة الدعم إلى حين إيجاد البدائل أو المعالجات التي يمكن أن تقلّص التداعيات المعيشيّة لرفع الدعم. وهذا ما سيعني المساس بدولارات الاحتياطات الإلزاميّة، التي تمثّل آخر ما تبقى من دولارات المودعين. وإما المضي بمسار رفع الدعم مع كل ما سيعنيه ذلك من تداعيات يمكن أن تصل إلى حدود الانفجار الاجتماعي نتيجة غلاء السلع الأساسيّة.
 
السير نحو المجهول
 
 
 
كل ما تقدّم يقودنا إلى نتيجة واحدة: البلاد تسير نحو المجهول. أما السلطة التنفيذيّة، فمنشغلة بتسويق النظريات المؤامرتيّة لتبرير انهيار سعر صرف الليرة، من قبيل الحديث عن التطبيقات الالتكرونيّة المشبوهة التي تتلاعب بسعر الصرف، أو مضاربات تجار السوق السوداء، أو حتّى اعتبار رئيس الجمهوريّة انهيار سعر الصرف استهدافاً شخصياً له مشابه لاستهدافه بالمدافع خلال ترؤسه الحكومة العسكريّة خلال الحرب. وبذلك، يصبح من الواضح أن من يدير الدفّة اليوم لا يملك أدنى فكرة عن أسباب أو تداعيات ما يجري على المدى البعيد.
 
أما أهم ما في الموضوع، فهو أن ما جرى من تهاوٍ في سعر صرف الليرة لم يكن نتيجة فقط لغياب السياسات الرسميّة الكفيلة بالتعامل مع الانهيار، بل كان أيضاً نتيجة قرارات متعمّدة، توسعت في خلق النقد للتعامل مع بعض خسائر الانهيار المالي. وبغياب السياسات أو الخطط الحكوميّة مجدداً، لا يوجد ما يؤشّر إلى أي اختلاف متوقع في مسار انهيار سعر الصرف. وفي الخلاصة، ستكون النتيجة المزيد من التهاوي في القدرة الشرائيّة، إلى حد فقدان أبسط مقومات الحياة الطبيعيّة، والمزيد من الصعوبات في الخروج من حالة الانهيار الشامل.
 
 
 
المصدر: المدن