كُتّاب الموقع
واشنطن ومسيحيو لبنان: حين يكرّر التاريخ نفسه ألف مرة

غسان سعود

السبت 9 كانون الثاني 2021

إذا كانت أوروبا حرصت على إبداء اهتمام سطحي بمسيحيي الشرق، رغم إلحاق سياساتها ضرراً هائلاً بهؤلاء من نينوى إلى حلب، فإن الدبلوماسية الأميركية حرصت دوماً على إبداء عدم اهتمامها بأي شيء.
 
منذ أن فرضت الإدارة الأميركية عقوباتها على رئيس التكتل النيابي المسيحي الأكبر في لبنان منذ تأسيس المجلس النيابيّ، فُتِحت نقاشات متعددة بشأن العلاقة الأميركية - المسيحية. تاريخياً، يكشف التنقيب في كل ما تحتويه مكتبة الكونغرس الأميركي من مذكرات دبلوماسية عن عدم علم واشنطن أو عدم مبالاتها بكون الرئيس كميل شمعون مارونياً أو بوذياً أو درزياً، وبماهية مشروعه الوطني أو الطائفي.
 
عشية الحرب اللبنانية، لم تكن الإدارة الأميركية تغشّ القادة المسيحيين الذين يستنجدون بها. كانت تصارحهم بأن عليهم مساعدتها في تحويل "التوطين" إلى واقع إذا كانوا صادقين في توددهم إليها.
 
أما الرئيس أمين الجميل، فلا ينسى اجتماعه الثاني بريغان، يوم دخل إلى البيت الأبيض في العام 1983 حاملاً خرائط الحرب للإطاحة بنفوذ الرئيس السوري حافظ الأسد، بعدما أشعره ريغان في اجتماعهما الأول بأن المدمرة الأميركية "نيو جرسي" تنتظر إشارة منه، وإذ به يسلّمه رسالة شكر وغزل من الرئاسة الأميركية إلى الرئاسة السورية لمساعدتها في تحرير رئيس الجامعة الأميركية في بيروت ديفيد دودج.
 
 
أما الخيبة المجتمعية الأكبر، فتتمثل بمنح واشنطن الضوء الأخضر التاريخي للانسحاب الإسرائيليّ من الجبل، من دون تنسيق مع "القوات اللبنانية"، رغم كل ما فعلته لها، قبل أن يستكمل هذا المسار الأميركي بتجاهل مطلق ودائم لكل الخطاب المسيحي بشأن السيادة والخصوصية والتوازنات. 
 
وإذا كانت أوروبا قد حرصت دوماً على إبداء اهتمام سطحي بمسيحيي الشرق، رغم إلحاق سياساتها ضرراً هائلاً بهؤلاء من نينوى إلى حلب، فإن الدبلوماسية الأميركية حرصت دوماً على إبداء عدم اهتمامها بأي شيء، سواء بالأحلام والطموحات والهواجس المسيحية أو الدرزية أو الكردية أو السنية أو الشيعية. الهم الوحيد للأميركيين هو الأميركيون نفسهم و"إسرائيل"، دون أي شيء آخر، ولا مراوغة هنا أو خداع. هذا ما تقوله الدبلوماسية الأميركية يومياً بمختلف اللغات والأشكال.
 
هذا التاريخ كان حاضراً في ذهن رئيس تكتل "لبنان القوي" جبران باسيل على طاولة النقاشات مع وزير خارجية الولايات المتحدة مايكل بومبيو ومن يتابع الملف اللبنانيّ في إدارته. أميركياً، كان يحرص على تقديم نفسه بصفته وزير خارجية لبنان، لأنه يعلم أن صفته كرئيس لأكبر تكتل مسيحي لا تعني أي شيء للإدارات الأميركية المتعاقبة.
 
بالنسبة إلى بومبيو، يوجد مشروع أميركي كبير، ولا يوجد بموازاته مشاريع جانبية أو مشاريع صغيرة أو غيرها. حصة لبنان ضمن هذا المشروع الأميركي أمران فقط: التوطين وعزل حزب الله ومخاصمته إعلامياً وسياسياً. وعليه، لا يملك بومبيو ومن معه هامش المناورة أو التوسع أو إطلاق الوعود. 
 
المعادلة سهلة: تنفّذ، نصفق لك. لا تنفّذ، نعاقبك. ليس ثمة مقايضة أخرى أو ما يوازيها، كأن تتبنى مشروعنا وأهدافنا وطموحاتنا فنتبنى مشروعك وأهدافك وطموحاتك. وغداً، قد يتطور المشروع في بنده الثاني إلى صدام أهليّ مع حزب الله، وستبقى المعادلة نفسها: تنفذ، نصفق لك. لا تنفذ، نعاقبك، ولا يوجد ما يسمى "مساعدة الحلفاء لتقوية موقفهم" مثلاً، أو تعزيز ثقة الرأي العام بخياراتهم، فالعماد ميشال عون عمد بُعَيد تفاهمه مع حزب الله إلى إقناع ناسه بأهمية المكسب الوطني المتمثل بالاستقرار والسلم الأهلي، إضافةً إلى مجموعة المكتسبات الطائفية، من قانون الانتخاب، إلى نوع الحقائب الوزارية، إلى رئاسة الجمهورية وغيرها من العناوين التي تلاشت بعيد الانهيار الاقتصادي.
 
أما مع بومبيو أو من ينوب عنه، فلا مجال للتفكير في مكتسبات وطنية أو طائفية، كوعد سحب بند التوطين من المشروع الأميركي، أو الضغط حيث يجب لإعادة النازحين، أو تسريع استخراج النفط، ما يمكّن باسيل من القول إن خياره الاستراتيجي الجديد يحقق لناسه وللبنانيين هذه المكتسبات. عبث! لا مجال لذلك أبداً. النقاش في الهواجس غير وارد من أساسه. لا مجال لـ"الأخذ والردّ". أن تكون مع الأميركيين يعني أن تفعل ما يريدونه، من دون أي زيادة أو نقصان، وبمعزل مطلق عما تريده. مرة أخرى: تنفّذ، نصفّق لك. لا تنفّذ، نعاقبك. 
 
الإدارة الأميركية العظيمة الكبيرة لا يمكن أن تفكر في مصالح المجموعات الصغيرة. ويكفي من يسير معها فخر السير معها. يمكنه أن يتباهى وهو يُهجر أنه حاز شرف القتال من أجل المشروع الأميركي، ويمكنه أن يتباهى وهو يخسر المعركة السياسية والعسكرية والإعلامية والأمنية تلو المعركة أنه حاز شرف القتال من أجل المشروع الأميركي: التوطين وعزل مكون لبناني أو محاربته.
 
كانت التجربة المسيحية حاضرة بقوة في خلفية اللقاءات، لكن لم يكن أحد يتخيل أن تكون بهذا الوضوح الوقح كله. إذا واجهنا طارئاً ما، وحاولنا مهاتفتكم، هل ستكونون على السمع مثلاً! لا طبعاً، تقول التجربة الطويلة العريضة. ألم يقل الرئيس شمعون إن شمس واشنطن تُحرق كل من يقترب منها؟ ألم يسأل الرئيس الجميل الموفد الأميركي ريتشارد مورفي: هل الولايات المتحدة مدمنة على معاقبة أصدقائها؟ ألم تخلص تجربة العماد عون في قيادة الجيش إلى ثوابت حاسمة نهائية بشأن الأوهام الأميركية العظمى؟
 
المكتسبات على المستوى الفردي كثيرة، من الحصانة الأمنية والإعلامية إلى حرية نقل الأموال. أما المكتسبات الوطنية فمعدومة، ولا يعتقد أحد أنّ هذا هو حال المسيحيين فقط مع واشنطن، فهذا هو حال الجميع من دون استثناء، ليس في لبنان فحسب، إنما في العالم كله أيضاً. 
 
بعيداً من "إسرائيل"، ليس لتلك الإدارات المتعاقبة عدو ثابت أو صديق ثابت، وهي غير مستعدة لخوض أية معركة جانبية، مهما كانت صغيرة، من أجل دولة أخرى أو حليف أو مجموعة أو طائفة. البعض اتعظ وتعلّم، ولم يعد في خياراته الاستراتيجية أي وجود لواشنطن، مثل الرئيس عون وباسيل، والبعض الآخر وصل إلى قناعة بأن السير معها له حدوده، مثل سعد الحريري ووليد جنبلاط. 
 
هذه الحدود، كما يعبّر عنها الحريري، هي التقاتل الداخلي. يمكن أن تطلب واشنطن ما طلبته في حرب تموز/يوليو قبل أن تتركهم في منتصف الطريق، لأن المصلحة الإسرائيلية حالت دون الاستمرار في الحرب، ويمكنها أن تطلب ما طلبته في 4 أيار/مايو 2008، ثم تنكفئ لتتركهم وحدهم، ويمكن أن تحمّسهم كما حمّستهم في بداية الحرب على سوريا، ثم تعود وتحترم انتصارات الميدان على الأقمار الاصطناعية.
 
يتمسّك البعض، من مثل رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، بوفائه لواشنطن والرهان عليها، رغم اختباره بالدم واللحم الحي والتهجير والسجن لسنوات التخلي الأميركيّ عمن يعتقدون أنفسهم حلفاء لها، والاستخفاف والاستهتار المطلق بهم، ورغم معرفته الأكيدة بأن هدف الاهتمام الأميركي هو التوطين والاقتتال الداخلي فقط.
 
في النتيجة، ثمة خرافة لا يشك أحد في أنها خرافة حين تناقش التفاصيل المتعلقة بها، لكن بعض المجتمعات تواصل التمسك بها لأطول وقت ممكن. خرافة اهتمام واشنطن بلبنان أو بواحد أو أكثر من المكونات اللبنانية في تراجع متواصل. تلك الدولة العظمى لا يُعوّل عليها، وهي عظمى في أنانيّتها أولاً وأخيراً.
 
تتّسع رقعة من لُدغوا من الجحر نفسه عدة مرات. والأهم أن القناعة تزداد بعدم وجود شيء اسمه حلفاء أو أصدقاء أو تفاهمات، إنما مجرد أدوات صغيرة في المشروع الأميركي الكبير؛ أدوات ليس لدى الولايات المتحدة أي اهتمام بسماع مطالبها أو أحلامها أو هواجسها. بالنسبة إلى واشنطن، هؤلاء ليسوا أكثر من مرتزقة تستعين بهم لتحقيق أهدافها.
 
 
 
المصدر: الميادين