كُتّاب الموقع
الانفتاح على الشرق شرط التحرر من العبودية

حسن حمادة

الخميس 7 كانون الثاني 2021

 
العلاقات العربية – الروسيّة يُمكن فهمها بسهولة بقدر ما يُمكن مُقاربتها بأكبر قدرٍ من التعقيد. إنها سهلة ومعقدة في آن، وفق الزاوية التي يُنظر من خلالها إلى هذه العلاقات. فمن العرب من يتمسك بها كجزءٍ لا يتجزأ من ترسانته في مواجهة "إسرائيل" والأخطار الصهيونية، وبالتالي في مواجهة الاستعمار.
ومن العرب من يخشى حتى أن يتخيل احتمال غضب الاستعمار عليه فيرى في العلاقات مع روسيا شرّاً يجب اجتنابه مهما كلف الأمر. وهذا هو رأي كل الحكومات الملتزمة في منظومة الصهيونية - العربيّة وخلفها تنظيمات طائفية وحزبية و"منظمات مجتمع مدني". وهذه الأخيرة من الضروري أخذها في الحسبان نظراً لدرجة اعتماد الإدارة الميركية عليها كأداة حاسمة في المواجهات.
 
 
ممن يتشكل كلُّ فريق من الفريقين العربيين المختلفين في النظرة إلى العلاقات العربية – الروسيّة؟...
 
 
الفريق الأول الذي يُراهن على التحالف مع روسيا، وقبلاً مع الاتحاد السوفياتي، هذا الفريق الواضح في خياره: التحرّر من الاستعمار والصهيونية لا يُمكن تحقيقه من خلال التبعية للغرب، بل بالتحالف مع روسيا، التي ليس لها ماضي استعماري شرير مع بلادنا.
 
 
هذا التحالف الذي يحمي وجودنا على اعتبار أن "إسرائيل" هي صنيعة الغرب، وتُشكل أكبر قاعدة عسكرية في التاريخ تابعة للإمبراطورية الأنكلو – ساكسونية، بريطانيا في الأمس والولايات المتحدة اليوم. ولقد تقلَّص هذا الفريق ليصبح اليوم مكوناً من سورية (الجمهورية العربية السورية) وبعض الفصائل الفلسطينية، وبعض أجزاء من الفصائل، بالإضافة إلى كافة الحالات التنظيمية والشعبية المتضامنة تضامناً فعلياً مع سورية التي تتعرض لحرب عدوانيّةٍ أطلسيةٍ صهيونيةٍ تهدف إلى إزالتها عن الوجود، وذلك تحت شعارات وحجج وعناوين شتى.
 
 
أما الفريق الآخر، الناشط في منظومة الصهيونية العربيّة، أو ذاك المنصاع لهيمنة الصهيونية - العربية، فهو يخوض منذ عشرات السنين حروباً دعائيةً شرسةً بقيادة وتوجيه من الغرب الأنكلو- ساكسوني ضد مبدأ التحالف مع روسيا، تارةً بالزعم أنها تقود معسكر الإلحاد على المستوى الدولي (في زمن الاتحاد السوفياتي)، وتارةً بالزعم أنها متواطئة ضمناً مع "إسرائيل"، وصولاً إلى تحميلها المسؤولية الكاملة عن مختلف المشاكل التي يُواجهها العالم العربي بدءاً بالقضية الفلسطينية، وصولاً لما أصبحت الصهيونية العربية تُطلق عليه تسمية "الخطر الإيراني"، وذلك لتبرير تحالفها مع "إسرائيل"، على أرض الواقع أولاً، ومن ثم بعلانية الاعتراف المتبادل وفتح سفارات وبعثات تمثيلية، منها ما هو مُعلن ومنها ما هو غير مُعلن.
 
 
إن أوضاع حكومات الصهيونية العربية، والكتل الشعبية الثائرة خلفها، والهيئات التي درج على تسميتها دينية، فيما سلوكها مناهضٌ للدين بقوّة، تُسلّط الضوء على حالةٍ تكاد تكون فريدةً من نوعها في العالم: حالة بلدٍ أو بلدان، قوم أو أقوام، لا قضية لهم سوى أن يُحافظوا على نيّر العبودية الذي يُطوق رقابهم. قضيَّتهم هي قضية أسيادهم. وأسيادهم يُمعِنُون في الإساءة إليهم طالما أن ذلك يُكرس هذا الأمر الواقع، الغريب العجيب، ويُعمّق جذوره ويكفل ديمومة الاستعمار كقانونٍ يُنظم حقوق الأفراد والجماعات وواجباتهم. وهذا هو وضع الأكثرية الساحقة الماحقة من الدول العربيّة، وكذلك هو وضع دول ما يُسمّى بالعالم الإسلامي حيث لا قرار يعلو فوق القرار الأنكلو ساكسوني. وهنا بالذات يحتل النظام الأردوغاني المهمين في تركيا موقع الصدارة.
 
 
وهنا، لا بد من أن نتوقف قليلاً لملاحظة الخطّ البياني لآلية الانتقال من الهوية العثمانية إلى الولاء للاستعمار الغربي، بدءاً بالإنكليزي ثم الإنكليزي - الفرنسي وصولاً إلى الأميركي، ما يُعطي صورةً واضحةً عن كيفية تشكل الولاء إلى المعسكر الغربي. فالهوية الوطنية، المحجوبة من قِبَل الهوية العثمانية الطاغية، أخذت في التشكل التدريجي لتجد وجهة الكينونة السياسية الحديثة مع ظاهرة محمد علي في مصر، أي منذ نيفٍ وقرنين من الزمن. ولقد تداخلت عوامل عدة في هذه الحالة، منها على سبيل المثال وليس الحصر ما هو ديني – حرّفي متجمّدٍ ومُجمِّدْ، ومنها ما هو ديني – إصلاحي، ومنها ما هو مدني – وطني، ومنها ما هو مدني ملتحق بالآلة الاستعمارية – الأوروبية من باب الاقتصاد الحديث خصوصاً مع الفرنسيين (صناعة الحرير في المشرق العربي، زراعة الدوالي في المغرب العربي... كمثال غير حصري، بالإضافة إلى البنوك والتجارة العابرة للحدود....) خلافاً للإنكليز. وتُشير التجربة الممتدة من بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر ولغاية اليوم، اليوم الذي نعيشه الآن ونشهد فيه على ما يحدث في بلدٍ كتونس، مثلاً، حيث تُفتعل فيه الأزمات من قِبَل أتباع واشنطن لتقييد حركة الرئيس النزيه الإصلاحي العروبي العلماني القومي المتمسك بفلسطين، نُلاحظ أن الأغلبية في العالم العربي تجنح إلى الجهة التي يقودها الاستعمار الغربي الذي يُتقن استخدام، وأشدّد على عبارة "استخدام"، العنوان الديني ومتفرعاته لتسيير الجماهير واقتيادها في الاتجاه المناقض بالكامل لمصالحها، وذلك من خلال تقنيّةٍ تُودي بمعشر المسلمين، وخصوصاً منهم شريحة المفرطين في التظاهر بالتديّن، إلى الاستقرار فكراً وغريزةً في معادلةٍ تُريح العامة وتخدم الاستعمار في آن، وهي المعادلة التي تقوم على قاعدة العداء الثقافي للغرب مع التبعيّة السياسية للغرب. يعني التلازم الكامل والترابط بين العداء الثقافي والتبعية السياسيّة. هكذا يُطمئنُ المؤمنون أنفسهم بأنهم يُحافظون على تقاليدهم وأعرافهم (!!!...) برفضهم لثقافة الغرب ونمط حياته، بتفرعاتها كافة، أو من خلال انتقاد ما يُلائمهم منها، وفي الوقت نفسه يعتبرون أنهم يخدمون مصالحهم الشخصية كأفراد أو مجموعات أو دول، من خلال الارتباط بالسياسة الغربيّة. والاستعمار بدوره يَطْمئِنّ جداً إلى هذه القاعدة، ويدعو إلى احترامها والتقيد بها، لكونها تُحقق له هدفين استراتيجييّن دفعةً واحدة. فمن جهة إن العداء الثقافي للغرب يحرم أصحابه من مكتسبات معرفيةٍ عدة خصوصاً في ميدان التحديث، ومن جهة ثانية فإن التبعية السياسية للغرب هي التي تحتل أعلى سلّم أولويات الاستعمار، ولا يطلب سواها ولا يحلم بأفضل منها.
 
 
ولقد بلغ الرهان على هذه القاعدة ذروة تجلّياته من خلال المناورة الشيطانية التي حقق فيها الاستعمار الفرنسي أهدافه كاملة في الجزائر، بُعيد احتلاله لتلك البلاد، وهي المناورة التي قادها المستشرق ليون روش والتي سجلت اختراقاً للحالات الإسلامية بدءاً بمرجعياتها الكبرى التي جرى إقناعها بإصدار فتاوي تُحظر على المسلمين مُحاربة القوات العسكرية الفرنسية التي تحتل الجزائر.
 
 
كان المجتمع الجزائري يغلّي كالمرجل، وساعة الانفجار الكبير تقترب، وكان ليون روش الذي نجح في التقرب من الأمير عبدالقادر الجزائري، قد حصل على معلومات مثيرة للقلق الشديد بالنسبة إلى قوات الاحتلال، فباتت خشبة الخلاص الوحيدة هي المرجعيات الإسلامية ليس داخل الجزائر فحسب وإنما على امتداد العالم العربي حيث لعبد القادر مكانةً محترمةً مميزةً قلما كان يتمتع بمثلها رجال ذاك الزمان. كان لشخصيّته وهجها الذي تجاوز حدود المغرب العربي ليصل إلى المشرق العربي، إلى بلاد الشام التي صارت تُسمى "قلب العروبة النابض". فظهر فيها من راح يُراهن صراحةً على حركة عبدالقادر الجزائري "للنهوض بالجنس العربي"، بحيث يتحرّر من العثمانيين ولا يقع في أشباك الإمبراطوريات الأوروبية.
 
 
والملفت هنا أن هذا التفكير العروبي النهضوي كان يحمل بوضوح لا لبس فيه ملامح حراكٍ اجتماعي تحرري يتجاوز عقبات الأديان والطوائف والمذاهب. يكفي قراءة المراسلات التي جرت بين عبدالقادر وأحد زعماء لبنان، يوسف بك كرم، لمعرفة مدى قوة النبض العروبي التحرري الذي كان يتدفق في شرايين النهضويين في بلاد الشام وهو يقول "لا للعثمانيين، لا للأوروبيين". كانت هذه بوادر حداثة "عظيمة" سابقة لأوانها، تظهر بموازاة وبالتزامن مع المتغيرات الاجتماعية – السياسية – الثقافية التي أفرزتها الثورة الصناعية في أوروبا. هذه الحداثة كانت ستهدد مصالح الاستعمار إذا ما أخذت مداها، فكان لا بد من التحرك بسرعةٍ لتطويقها من الداخل بغية الإجهاز عليها خنقاً. والطريقة الوحيدة الناجعة لبلوغ هذا الهدف تمثلت باللّجوء إلى المؤسسة "الدينية" الكفيلة لوحدها بإجهاض الحالة التحررية بالكامل. فتوجَّه ليون روش إلى القيروان وتمكن من أن يستحصل من مرجعيّتها كل ما أرد، ومن خلال فتوى واضحة، صريحة، مباشرة، تُحظر على المسلمين مُقاتلة الفرنسيين في الجزائر.
هذه الفتوى شكلت بالنسبة إلى مهمة ليون روش أوراق اعتماد شرعت أمامه بوابات المرجعيات الإسلامية الأكثر تأثيراً بمعشر المسلمين، سواء في وادي النيل أو في بلاد الشام، وبلاد ما بين النهريين، وصولاً إلى المرجعيّة المكيّة حيث الشريف إبن الشريف المؤتمن الأمين. بدأت الفتاوي تتوالى كأحجار الدومينو. الأزهر الشريف أصدر فتواه، مُصدّقاً على ما جاء في فتوى القيروان. ونظراً لتزامن مهمة روش مع موسم الحج الكبير آثر صاحبها أن يتوّجه مباشرةً إلى مكة المكرّمة بحيث يلتقي في مكان واحدٍ بالمرجعيتين الدمشقية والبغداديّة، وبما طاب له من مرجعيات إن هو شاء. وهكذا كان فتوجه إلى الحجاز مستقوياً بالفتاوي الوازنة التي قطفها من الأزهر والقيروان، فكان له ما أراد من أهل الشام وبلاد ما بين دجلة والفرات. فتأبط هذا الإجماع الإسلامي وتوّجه به إلى محضر شريف مكة الكبير الذي لم يُسفّه ما جاءت به المرجعيات، بل صدّق عليها وزاد. ففازت فرنسا بغطاءٍ دينيِّ إسلاميِّ سهل لها تثبيت احتلالها لتلك البلاد العظيمة التي كادت أن تزن، في نظر باريس، وزن بلاد الهند في نظر لندن...
أمّا كيف تمكن المستعمر من قطاف الفتاوي كلّها... فأمر آخر.
 
 
من هذه الوقائع التاريخيّة نستخلص دروساً عدة، سنكتفي بإثنين منها:
 
 
الدرس الأوّل، أن الاستعمار يُتقن التلاعب بـ"الشأن الديني"، ويُقدّمه على أنه هو الدين نفسه. فما يميز "الشأن الديني" عن الدين هو أن الأوّل من خاصّة الناس، فيما الدين من خاصة الله. الدين صدق وأما "الشأن الديني" فغالباً ما يكون بعيداً كل البعد عن الصدق.
 
 
ثمة أمثلة حيّة كثيرة عن ذلك، لا تُحصى ولا تُعد، خصوصاً منها ما يظهر جليّاً مدى التناقض، بل مدى العداء المطلق، بين الإثنين، بين "الشأن الديني" والدين نفسه. ففي سياق استخدام السلاح الطائفي والمذهبي لتبرير الحرب العدوانية الأميركية – الصهيونية على سورية، يصدر عن أحد "العلماء المسلمين" (مسكين آينشتاين) الحاخام القرضاوي فتوى تقول بالحرف: "لو عاد الرسول، عليه الصلاة والسلام لتحالف مع الناتو"!!!... هنا يبلغ التزوير ذروته في "الشأن الديني". وهنا تحملني الذاكرة إلى قولٍ مُوثق بالحبر على الورق للمفكر واللاهوتي المطران جورج خضر الذي وصل بالنقد الذاتي إلى حد القول أن "الأئمة والمبشرون أشقاء ككل الناس"!!!...
 
 
هنا "الشأن الديني" يُشهر سيف العداء المطلق للدين، باسم الدين طبعاً، باسم التديّن طبعاً. فهل يطلب الاستعمار أفضل من ذلك، وهل تحلم الصهيونية بأفضل من ذلك؟؟؟...!!!... وما الفرق بين هذه الفتوى وتلك الفتاوي آنفة الذكر. ففي الحالتين تنهمر الفتاوي لتسّهل الغزوات الاستعماريّة المدمرة لبلادنا، وتدفع شعوبنا الأثمان... وأيُّ أثمان. ولا تنحصر المآسي ببلادنا بل نراها حيث يوجد تلاعب في "الشأن الديني" وتزوير باسم الدين. المثال الحيّ اليوم نراه بأمّ أعيننا في القوقاز، وفي سلوك الأردوغانية من فلسطين إلى القوقاز، وربما إلى أعماق آسيا الوسطى وصولاً إلى جماعات "إيغور" الصينية. ولا تغرب عن ذلك الهجمة السياسيّة لفرض "الخلافة" كأمرٍ واقع على صعيد نظمٍ – فرديّة، أو تنظيمات، كالنظام الأرودغاني ومن قبله القذافي، علناً، والسعودي ضمناً. ويتساوي في الطموح بالخلافة ملكيات وجمهوريات ملكيّة.
 
 
وكل ذلك بقصد إشراك السماء، بقرار بشري طبعاً، في إسباغ غطاءٍ دينيٍّ روحاني على هذا النظام أو ذاك، هذه المنظمة أو تلك، وسط ترحيبٍ من قِبَل الاستعمار، علنيٍّ حيناً، وضمنيّ في معظم الأحيان. وعلينا أن نتذكَّر دوماً كيف نجحت الدعايةُ الاستعمارية الغربيّة في تصنيف الكتل السياسيّة الدوليّة إلى كتلة ملحدة وكتلة مؤمنة، الأولى بقيادة الاتحاد السوفياتي والثانية تتزعمها الولايات المتحدة. وبذلك تكون هذه الأخيرة قد فرضت نفسها كحاميةٍ لحمى الإيمان، وبالتالي الدين، فتفوز بطبيعة الحال برضى ربِّ العالمين. هكذا نجحوا أيضاً في استحضار الجنة والنار، الشيطان والملائكة...إلخ...
 
 
ولعلّ أبرز نجاح تحقق في ميدان الدعاية الاستعماية هذه إنما تحقق من خلال التلاعب ببراعة في النصوص المكتوبة، في مُختلف المجالات، كما فعلوا في النص الشهير الذي تطرق فيه كارل ماركس إلى موضوع الدين حيث أجروا اجتزاءً من النص وقوّلوا ماركس أن "الدين أفيون الشعوب"، فيما هو اعتبر أن ثمة استخداماً للدين وتلاعباً في "الشأن الديني" بإسلوب يشلّ عصب الشعوب فتنعدم ردود أفعالهم فيستتب الأمر للطغاة المستغليّن. ما يحصل أنه باسم الدين والتديّن، يتقبل الناس كل المظالم ويسقطون طوعاً في آتون العبوديّة خوفاً من غول الكفر والإلحاد. هذه الحالة الشاذة الخبيثة تجعل من تأثير التدين على الناس الملعوب بعقولهم، من خلال التزوير الذي جرى إدخاله في "الشأن الديني"، ما يُشبه تأثير المخدر، كالإفيون مثلاً. هنا التهمة وجهت إلى التزوير الحاصل وإلى المزوّرين، وليس إلى الدين كدين. هكذا جرى طمس أجمل ما قاله كارل ماركس عن الدين، لا بل من أجمل ما قيل في الدين. لقد قال الثنائي ماركس وإنجلز بالحرف: "الدين هو تأوّه الخليقة المعذبة، هو روح عالم بلا قلب..." وشتان ما بين هذا الكلام وشعار "الدين أفيون الشعوب".
 
 
والدرس الثاني، الذي يُمكن استخلاصه من الوقائع التاريخية آنفة الذكر، يتلخص في العداء الشرس من جانب الاستعمار لكل طرحٍ سياسي مدني – علماني، ولرموز هذه الطروحات بين أهل السياسة. فمن خلال ما أشرنا إليه عن إشعاع حالةِ الأمير عبد القادر الجزائري في المشرق، نُلاحظ كيف أقدم الفرنسيون على نفي يوسف بك كرم الذي كان مغضوباً عليه من قِبَل العثمانيين. كانت فرنسا ترغب من يوسف بك كرم أن يلعب دوراً طائفياً وأن يُطالب بالحماية الفرنسيّة، لكن كرم أظهر ميلاً إلى التحرر يتجاوز طاقة احتمال دولة الثورة الفرنسيّة صاحبة شعار "حرية – مساواة – أُخوّة". فهذه شعارات معدة للاستخدام في الداخل الفرنسي فقط، وليس من قِبَل الشعوب التي تطمح فرنسا إلى احتلال بلدانها وتسخير قدراتها واستخدامها في الحروب والحملات الاستعماريّة لجلّد وتطويع شعوب فقيرة أُخرى أو غنية يجب إفقارها.
فكيف إذا كان من ينتظر منه المجاهرة بالولاء للاستعمار الأوروبي، من منطلقٍ دينيِّ على الأقل، يُجاهر في طرح خيارٍ عروبي تحرري يتجاوز الفروقات الدينية، والطائفية، والمذهبيّة وينفتح في حقيقة الأمر على ما جاءت به الثورة الفرنسية من تنظيمات تُشكل أساس التحولات المعاصرة وتضع ركائز للتحديث والتطوّر.
 
 
إن الطرح القومي، المدني، التحرري، المنفتح على العصرنة والحداثة طرحٌ مرفوض رفضاً مطلقاً من جانب الاستعمار. الإصلاح الوحيد المقبول من الاستعمار هو الإصلاح اللفظي. أما أن يتحوّل ذلك إلى برنامج سياسي، ومخطط تطبيقي، فإنه يُصبح في نظر الدول الاستعمارية من الكبائر، أي فعل تمرّدٍ يُهدّد السلامة العامّة، وفي القاموس المعمول به اليوم يُصنّف عملاً إرهابياً يستحق العقوبة القصوى وتشكيل تحالفات دولية و"مجتمع دولي" بقصد القضاء على التحديث. فكيف بطروحاتٍ تدعو إلى انفتاح العرب على بعضهم البعض على قاعدة الحرية والتحرّر والسيادة والتعاون!!!... إن هذا التوّجه الذي ظهر في القرن التاسع عشر صار عرضةً للمعاقبة في القرنين العشرين والواحد والعشرين.
 
 
فلنتأمل قليلاً القسوة التي تعرضت لها سورية في القرن العشرين، منذ اتفاقية سايكس - بيكو وبعد قيام الدولة السورية المعاصرة. مشروع تهويد على غرار تهويد فلسطين، حمله سرّاً أوّل مفوض سامي فرنسي مدني، هنري دو جوفينيل. وزادت قسوة العقوبة بفعل الثورة السوريّة الكبرى (1925-1927) وشعاراتها التحديثية المدنيّة، وأبرزها شعار "الدين للّه والوطن للجميع" الذي اعتمده قائد الثورة سلطان باشا الأطرش في ندائه إلى حمل السلاح ومُقاتلة الجيش الفرنسي، وهذا الشعار الذي أطلقه من قلب جبل لبنان في القرن التاسع عشر أحد أبرز روّاد النهضة المعلم بطرس البستاني رائد الصحافة من خلال جريدة "نفير سورية". وللتذكير فإن المؤرخ السوفياتي المرموق فلاديمير لودسكي وضع كتاباً شاملاً عن الثورة السورية الكبرى خلص فيه إلى القول أنها "أوّل ثورة ضد الامبريالية وثالث الثورات الكبرى بعد الثورة الفرنسية 1789 والثورة البلشفية 1917". وهل نستغرب لماذا عُوقبت سورية ولا تزال تُعاقب.
 
 
يقودنا كل ذلك إلى الاستنتاج أن استمرار التبعيّة العمياء للغرب، وفق قواعد عمل الصهيونيّة العربيّة، يُشكل النموذج الوحيد المقبول من الاستعمار الغربي، وما عداه فيستحق الإبادة، ولا شيء أقل من الزوال. بهذه البدائيّة تعامل الاستعمار مع مصر عبد الناصر والسبب هو عدم تقبل الاستعمار لفكرة التنمية والتحديث في بلادنا. من هنا موجة الغضب العارم التي اجتاحت العواصم الاستعماريّة من طرح مبدأ "الحياد الإيجابي" أثناء لقاء "بريوني" الشهير بين الماريشال تيتو والرئيس جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر، خصوصاً بعد أن عرَّف الزعيم الهندي الحياد الإيجابي بكلمةٍ واحدةٍ: "التنمية".
 
 
إن عشرات السنين التي أعقبت حركة الاستقلالات من الاستعمار بصيغته التقليدية تُؤكد بأن ما يُسمى بـ"عواصم القرار" في الغرب لم تتحرك قيد أُنملةٍ عن نظرتها التقليدية إلى شعوب العالم كما كانت في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين. إن الذي تغيّر هو ذلك الدخول الأميركي إلى الساحة الدوليّة، من الباب العريض، في مؤتمر الصلح إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى. لكن هذا الدخول حمل معه نمطاً جديداً من الأكاذيب، تمثل في ما يُعرف بـ"مبادىء الرئيس ويلسون" وخصوصاً منها المبدأ الثاني عشر الذي كشف عورات الكذب كلها في جلسة السادس من شباط 1919 من مؤتمر الصلح. إنه هجوم الولايات المتحدة للبدء بحصر إرث الاستعمار الأوروبي المنهمك يومها في حصر إرث السلطنة العثمانية.
 
 
فمن خصخص الدين، وخصخص البشر من خلال العبودية كيف له أن لا يُخصخص الاقتصاد، الوسيلة الفعالة في الإبقاء على العبودية وفق صيغٍ مُخادعةٍ، خصوصاً أن التنظيمات الاقتصادية النيوليبرالية لا يُمكنها الاستمرار على قيد الحياة من دون الـ"نيو عبودية"، أي العبوديّة الجديدة التي تصنعها أنماط الإنتاج الحديثة وارتباط العمال والمستخدمين بها في ظلِّ تآكل مكتسباتهم الاجتماعية التي كانت قد تحققت بفضل تضحيات عظيمة وتدمير ما تبقى من هذه المكتسبات. فالنيوليبرالية لا تستيطع أن تتعايش مع مبدأ العدالة الاجتماعية xولا مع دولة القانون ولا مع الشفافية، وبالتالي لا تستطيع أن تتعايش مع الديمقراطية وحقوق الإنسان. وما دام الأمر كذلك فمن الطبيعي أن تقدم قوى الاستعمار نظامها النيوليبرالي إلى شعوب العالم الثالث الذين تنظر إليهم أساساً بفوقية عنصرية.
 
 
هذا الغرب الاستعماري لم يعد عنده أي قيمة إنسانية ليقدمها لنا. عنده النهب والمجازر والعنصرية والحروب والتدمير. ولا شيء غير ذلك. يكفي أن ننظر إلى مثلث فلسطين – سورية – لبنان، إلى بلاد الشام لنفهم تمام الفهم ما هي نظرة الغرب الاستعماري إلينا، وماذا ينتظرنا حاضراً ومستقبلاً من هذا الغرب اللعين وحضارته المادية البحتة.
طبعاً، إن الاستعمار الغربي، الذي أدخل إلى منطقتنا منذ التاسع عشر منظومة التدمير الذاتي الشامل المتمثلة بفيروس الطائفية والمذهبيّة، لن يتخلى عن هذا السلاح الفتاك الكفيل بتسهيل إعداد فيالق من بغال طروادة الأطلسيين داخل مناطقنا الشرقية، بما في ذلك الحصنيّن الروسي والصيني.
 
 
من هنا واجب التضامن والتعاون والتنسيق بشكل متواصل، أيّاً تكن العقبات، فالمسألة مسألة حياةٍ أو موت. إن مدننا كلها معرضة لقصفٍ أطلسي هيروشيمي كالذي حدث في مرفأ بيروت. إنها رسالة الغرب لنا جميعاً، إما أن تنصاعوا وإما أن تلقوا مصير مرفأ بيروت.
 
 
إن الانفتاح على الشرق هو الضمانة الوحيدة لبقائنا على قيد الحياة أحراراً وليس عبيد.
 
 
لعل المثال الأبرز عن حتمية الاختيار ما بين الانفتاح على الشرق أو الزوال في أتون العبوديه هو مثال لبنان اليوم.
 
 
لقد جرى تدمير النظام المصرفي اللبناني لصالح المصارف الإسرائيلية، على مستوى المنطقه، وتحقق بذلك الإفقار الجماعي للبنانيين دفعة واحدة، و زوال الطبقه الوسطى بعد أن خاضت هذه صراعات طويلة للبقاء على قيد الحياة. تمكن نظام التفرقة "العنصرية APARTHEID " المعمول به منذ أربع و تسعين سنة (94) من أن يمنع أيّ تجاوب مع عروض الشرق الإنقاذية. كل ذلك انصياعاً لأوامر الإمبراطورية. ثم دمروا مرفأ بيروت ومحيطه تدميراً هيروشيمياً لصالح مرفأ حيفا، فهبت روسيا و الصين و إيران للمساعده فصار هم النظام الفاسد المفسد اللعين طمس الدور الانقاذي لكل من روسيا و إيران وأدار ظهره بالكامل للصين ... كل ذلك انصياعاً لأوامر الإمبراطورية الشريرة نفسها ....
 
 
هكذا يكون خيار العبوديه. هذا النموذج الصارخ للانصياع هو الذي يوفر للإمبراطورية ظروف المزيد من الاستقواء والإستبداد وليس قوتها الإقتصادية والسياسيه المتراجعة بشكل ملحوظ. وهنا المعركة الحقيقية ما بين الحرية والعبودية، ولا يوجد درب ثالث.
 
 
• هذه الدراسة هي افتتاحية عدد مجلة "تحولات مشرقية" التي صدرت في تشرين الثاني 2020، وهو عدد خاص عن "روسيا والمشرق"، ويتضمن دراسات لكُتاب رُوس ، قدم هذا العدد البروفيسور فيتالي نعومكين، رئيس معهد دراسات الشرق الأوسط - عضو اكاديمية العلوم الروسية.