كُتّاب الموقع
لبنان.. أزمات مركبة وحلول مستعصية

وائل نجم

الثلاثاء 29 كانون لأول 2020

انتظر اللبنانيون أن يتم إعلان تشكيل الحكومة قبل عيدي الميلاد ورأس السنة في ضوء الأجواء الإيجابية التي أوحى بها الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، سعد الحريري، بعد لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون، وفي ضوء الوساطة التي قادها، بين الرئيسين، بطريرك الموارنة في لبنان بشارة الراعي. غير أن هذه الأجواء تبددت بسرعة وانتهى كل شيء وعادت الأمور إلى المربع الأول ومعها تلاشى الأمل بقرب الخروج من الأزمات والدوامة التي يعيشها لبنان ويعاني منها.

وقد أعلن الحريري، أن جهود ومساعي تشكيل الحكومة ستظل قائمة لكن التشكيل سيتأخر إلى مطلع العام المقبل، وهذا يعني إلى ما بعد استلام الإدارة الأمريكية الجديدة مقاليد السلطة في البيت الأبيض، ببساطة لأن واشنطن فاعل أساسي في المشهد اللبناني حاليًّا.

أزمات لبنان الحاليّة

يعيش لبنان حاليًّا مجموعة أزمات متعددة ومركبة في آن واحد، فهناك الأزمة الاقتصادية المالية التي تعصف به جراء السياسات المالية والاقتصادية التي اتُبعت على مدى العقود الماضية، وجراء تفشي ظاهرة الفساد بشكل واسع في الإدارة اللبنانية، وسياسات الحصار والعقوبات التي انتهجتها الإدارة الأمريكية ضد لبنان على خلفية محاولة معاقبة “حزب الله”، وجراء المواقف السياسية التي اتخذها لبنان من جملة من القضايا العربية خلال العقد الأخير، وقد كان لكل تلك الملفات تأثير كبير جعل حجم الدين العام يتجاوز المئة مليار دولار، وجعل لبنان بحاجة إلى الدعم الدولي الدائم من أجل استمرار الدورة الاقتصادية بعملها الطبيعي.

كما أن هذا العجز الكبير في الموازنة، فضلًا عن سياسات الحصار والعقوبات، جعل قيمة الليرة اللبنانية تهبط أمام العملات الأجنبية، وهذا ما سحق الطبقات الشعبية والطبقة الوسطى في البلد، وقضى على العديد من المؤسسات، لأن أغلب المواد المستهلكة في لبنان مستوردة من الخارج وبالعملة الأجنبية.

لقد جعلت هذه الأزمة دخل الفرد اللبناني لا يتجاوز 150 دولارًا في الشهر بعد أن كان دخله يساوي قرابة 800 دولار، وقد انعكس ذلك على كل الحراك الاقتصادي والمالي في البلد، ولبنان اليوم بحاجة إلى دعم مالي كبير للخروج من هذه الأزمة، وقد خاص مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لهذه الغاية، غير أن الصندوق اشترط إصلاحات إدارية واقتصادية وسياسية قبل أن يسهم ولو بفلس واحد.

من ناحية أخرى هناك الأزمة الصحية التي تعصف بالبلد وتعصف أيضًا بالاقتصاد، المتمثلة بوباء كورونا، فهذ الوباء شل البلد لفترة كبيرة في وقت كانت المعاناة الاقتصادية في ذروتها، وقد فاقم هذا الأمر من الأزمة الاقتصادية، وأربك الحلول أمام الحكومة، غير أنه أعطى فرصة للطبقة السياسية للتخلص من انتفاضة الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي تجاوزت الأسوار الطائفية والمذهبية والسياسية والحزبية، وراحت تطالب بمحاسبة كل الطبقة السياسية فضلًا عن رحيلها.

كما أن انفجار مرفأ بيروت في الـ4 من أغسطس/آب ترك آثارًا مأساوية في بيروت، فقد خلف أكثر من 200 ضحية و6 آلاف جريح، وعشرات آلاف المشردين والمدمرة بيوتهم، وهذا بحد ذاته ما يحتاج إلى ما لا يقل عن 5 إلى 6 مليارات دولار لإعادة الوضع إلى طبيعته التي كان عليها قبل الانفجار.

من ناحية ثالثة هناك الأزمة السياسية التي تتمثل بشكل أساسي بخلاف الطبقة السياسية على السلطة ومغانمها، على الرغم من مآسي اللبنانيين ووضعهم الاقتصادي، فانتفاضة الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي أطاحت بحكومة سعد الحريري لم تتمكن من إسقاط رئيس الجمهورية ولا المجلس النيابي، فكانت النتيجة القبول بحكومة لم تُقدم ولم تُؤخر شيئًا (حكومة الرئيس حسان دياب)، بل على العكس فاقمت من حجم الأزمات لأنها اعتبرت حكومة اللون الواحد (فريق حزب الله).

وانفجار المرفأ الذي أطاح بحكومة دياب لم يُفلح في إنتاج حكومة جديدة على الرغم من الوساطة الفرنسية التي أعادت تعويم الطبقة السياسية، وعلى الرغم من اختيار السفير مصطفى أديب الذي فشل في تشكيل الحكومة، ومن ثم اختيار سعد الحريري الذي ما زال يحاول تشكيلها.

كما أن من وجوه الأزمة السياسية في البلد طرح مسألة الحياد عن كل ما يحيط بلبنان من أزمات، وهو ما كان محور انقسام بين القوى السياسية وحتى المكونات اللبنانية المتعددة، فضلًا عن الانقسام على دور وسلاح “حزب الله”.

لكل ذلك، تُعقِّد هذه الأزمات المشهد اللبناني وتدفع باللبنانيين إلى البحث عن الحلول الممكنة في ظل هذا الواقع الذي بدا كأن كل المكونات السياسية والطائفية مأزومة فيه.

هواجس المكونات اللبنانية

إن الظرف الذي نشأ جراء هذه الأزمات المتتالية والمتعددة والمركبة فاقم من هواجس المكونات اللبنانية التي راح كل منها يفكر على طريقته الخاصة، ويبحث في أروقته الداخلية عن أفكار تبدد تلك الهواجس، فالمسيحيون في لبنان بدأوا يشعرون بالقلق على وجودهم في البلد، وليس على دورهم وحضورهم في السلطة فحسب، فهم كانوا يرون أن لبنان وطنهم في هذا الشرق، غير أنهم الآن يرون أن وجودهم فيه مهدد بالتراجع والانحسار، فضلًا عن دورهم فيه وحضورهم في إدارته، لذلك بدأ في الوسط المسيحي نقاش يتسرب يومًا بعد يوم عن إمكانية اعتماد نظام فيدرالي في لبنان يحفظ لهم وجودهم وحضورهم ودورهم، وبعضهم يرى أن تجربة نظام المتصرفية الذي كان معتمدًا في فترة السلطنة العثمانية ليس سيئًا، بل أفضل من النظام اللبناني الحاليّ بالنسبة لهم، وبعضهم الآخر صرح باعتماد نظام اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، فضلًا عن شبه إجماع مسيحي على ضرورة تحييد لبنان عن محاور المنطقة وصراعاتها.

في الجهة الأخرى يرى المسلمون السُنة في لبنان أن وجودهم إلى الآن غير مهدد، فالخزان البشري للمسلمين السنة في لبنان، سواء من اللبنانيين أم من اللاجئين الفلسطينيين والسورييين كبير وهائل، غير أن حضورهم ودورهم في النظام اللبناني يتم تهميشه يومًا بعد يوم، وتتم محاصرة المراكز التي يشغلونها في النظام والإدارة اللبنانية باستمرار، وهذا الشعور بات حاضرًا في كل الأوساط المسلمة السنية سواء كانت متفقة أم مختلفة على بعض العناوين، وهو ما جرى التعبير عنه مؤخرًا عندما ادعى المدعي العام في جريمة انفجار المرفأ على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بجرم الإهمال الوظيفي، لقد اعتبرت كل القيادات المسلمة السنية أن الادعاء سياسيٌ ويهدف إلى إضعاف موقع رئاسة الحكومة، لذلك تم رفضه من الجميع.

في الجهة الثالثة يرى شيعة لبنان أنهم مستهدفون من المجتمع الدولي ومن الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية اصطفافهم إلى جانب إيران، إضافة إلى انتماء أغلب قواهم إلى ما يُعرف بمحور المقاومة والممانعة، لذلك هم يعيشون هاجس الاستهداف الذي يمكن أن يقضي على دورهم وحضورهم الأساسي اليوم في البلد، إذ يُعتبر “حزب الله” الفاعل الرئيسي إن لم نقل الوحيد في البلد.

وفيما يخص دروز لبنان بقيادة وليد جنبلاط فإنهم يعيشون هواجس متعددة وكثيرة غير أنهم مقتنعون بحجم دورهم في السلطة وهم دائمًا يحاولون أن يكونوا متموضعين إلى جانب المسلمين السنة على اعتبار أنفسهم من هذا المكون.

الحلول المستعصية

يدرك الجميع في لبنان أن الحل الأساسي يبدأ من تشكيل حكومة جديدة تُقنع الشارع اللبناني الذي انتفض في الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019 من ناحية، وتُقنع المجتمع الدولي الذي يُعوَل عليه في موضوع المساعدات المالية من ناحية ثانية. إن أي حكومة لا تُقنع هذين الطرفين لا يمكن أن تنهض بأعباء البلد، ولا يمكن لها أن تحل أزماته.

غير أن تشكيل هذه الحكومة يصطدم حاليًّا بعقبات وعقد داخلية وخارجية، أما أبرز العقد الداخلية فتتمثل بمطالبة رئيس الجمهورية ميشال عون ومن خلفه التيار الوطني الحر برئاسة صهره جبران باسيل بأكثر من ثلث الوزراء في الحكومة المنتظرة، فضلًا عن المطالبة بأبرز الوزارات (الداخلية والعدل والدفاع) وهذا مطلب مرفوض من الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري، فضلًا عن قوى سياسية كثيرة في البلد.

وهذه العقبة ما زالت إلى اليوم تشكل العقبة الكأداء التي تحول دون الاتفاق على الحكومة على المستوى الداخلي، وأما عن سبب هذا التمسك من رئيس الجمهورية وتياره بهذا المطلب، فهناك من يُرجِعه إلى نية صهر الرئيس الإمساك بالبلد وفرض نفسه رئيسًا للبلاد بعد انتهاء ولاية عمه (ميشال عون) أو في حال وفاة الرجل قبل انتهاء ولايته بالنظر إلى تقدمه بالعمر.

وأما على مستوى العقد الخارجية، وهي بالمناسبة في هذه الفترة غير مرئية بشكل واضح، فهناك التنافس أو الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية وإيران من ناحية ثانية، فالولايات المتحدة تصرح بشكل واضح بأنها لا تريد “حزب الله” في الحكومة الجديدة، وهي لن تُسْهِم بأي مساعدة فيما لو كان الحزب جزءًا منها، كجزء من عملية محاصرة النفوذ الإيراني في المنطقة، وفي المقابل يصر الحزب على أن يكون جزءًا من الحكومة لأنه يمتلك كتلة نيابية وازنة (13 نائبًا) وبالتالي من حقه أن يكون حاضرًا في الحكومة، وهذا التنافس والصراع يؤخر بحد ذاته تشكيل الحكومة ويعيق ولادتها.

ثم إن أي حل للأزمات الأخرى، الاقتصادية والمعيشية والصحية وغيرها يحتاج إلى حكومة مُقْنِعة كما ورد سابقًا، لذلك فإن كل الحلول الباقية معلقة على الحل السياسي الذي ما زال ينتظر، غير أنه قد يأخذ لبنان في أي لحظة إلى المجهول أو إلى الفوضى أو إلى أي صيغة أخرى قد تعيد فرض التركيبة الحاليّة للنظام بهدف إنتاج نظام جديد مع أن ذلك ليس سهلًا بل دونه أيضًا الكثير من العقبات والمعوقات، وفي ظل ذلك سيبقى لبنان في حالة انتظار ما سيجري في المحيط، لكن ستظل أزماته تتناسل يومًا بعد يوم حتى يأذن الله بالفرج لكل المنطقة.