كُتّاب الموقع
اليسار اللاتيني: يقع.. ولا يسقط

د. علوان أمين الدين

الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2019

في ظل صعود قوى اليسار على حساب اليمين، عادت وتبدلت خارطة أمريكا اللاتينية تبدلاً ملحوظاً، خلال السنوات الأخيرة، حيث يحكم مناصروه ما نسبته 65% من سكان القارة، مع حلول العام 2009.

هذا “اليسار الجديد”، بجناحيه الإصلاحي والراديكالي، عمل على الوصول إلى نوع من الوحدة الإقليمية الشاملة لكل دول القارة؛ مثلا، تزعمت فنزويلا اليسار الراديكالي لا سيما في الأمور الإقليمية، بينما تزعمت البرازيل الشق الإصلاحي من هذا اليسار.

فمع بداية القرن الـ 21، إجتاحت موجة غير مسبوقة من الإنتصارات الإنتخابية للمرشحين الرئاسيين اليساريين في بلدان أمريكا اللاتينية ما أُعد مؤشراً على الرغبة الحقيقية لدى المواطنين بالجنوح نحو اليسار، إذ وصف العديد من المراقبين حينها ما جرى بأنه “تغيير أحمر” سيغطي سماء القارة.

كر وفر

ما أن يدخل اليسار إلى الحكم حتى يخرج منه ليعود إليه مرة أخرى. إنها عملية كر وفر تشهدها دول القارة، يحكمها عاملان رئيسيان؛ العامل الأول، مدى قدرة هذه القوى على الإستفادة من المناخ الداخلي. والعامل الثاني، مدى تراجع تأثير واشنطن على هذا الداخل. وبالتالي، نرى بأن هناك علاقة جدلية بين هذين العاملين يؤثران على بعضهما البعض بشكل كبير وواسع.

فإذا ما أخدنا الأرجنتين كمثال، نرى بأن الرئيسة السابقة، كريستينا فرنانديز كيرشنر، حكمت البلاد من العام 2007 ولغاية العام 2015. إلا أن مواقفها النارية ضد الولايات المتحدة، التي إتهمتها بأنها أساس المشكلة الإقتصادية لبلادها، وبريطانيا، حول جزر الفوكلاند، والإعتراف بفلسطين كدولة، أسقطتها من الحكم ليأتي مكانها الرئيس اليميني، ماوريسيو ماكري، ومن ثم يعود اليسار إلى الحكم مع إنتخاب ألبرتو فرنانديز كرئيس مقبل للبلاد وعودة كيرشنر نائبة له.

وفي البرازيل، وصل اليسار جدياً إلى الحكم مع لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الذي حكم البلاد من العام 2003 ولغاية العام 2010 إلى أن صدر بحقه حكم بالفساد في العام 2017، يراه البعض مدبراً، ليودع في السجن. بعده، جاءت ديلما روسيف إلى سدة الحكم، من العام 2011 وحتى العام 2016، قبل الإطاحة بها في إنقلاب “مؤسساتي” من قِبل البرلمان، بمساعدة من نائبها ميشال تامر الذي حل مكانها رئيساً، بدعوى تورطها بقضايا فساد. ومع وصول بولسونارو إلى سدة الحكم، والمدعوم أمريكياً، تغيرت معه ملامح الدولة بشكل كبير. إلا أن عودة اليسار بالصعود مجدداً على أطراف البلاد، قد يكون سبباً جدياً للتأثير على أية إنتخابات مقبلة.

أما في بوليفيا، فما زال إيفو موراليس، مرشح اليسار، يحكم منذ العام 2006، وفي الأوروغواي حافظت “الجبهة العريضة” اليسارية على السلطة التي وصلتها في العام 2005، لكن من دون قادتها التاريخيين مثل الرئيس الحالي تاباري فازكيز، وسلفه خوسيه موخيكا.

أسباب الصعود

لا شك بأن صعود اليسار متصل بعوامل ثقافية عدة، كتجذر الإرث اليساري منتصف القرن الـ 20، إلى جانب الإعتبارات الإقتصادية والإجتماعية التي تتجلى في تدني مستوى المعيشة والتفاوت الطبقي الواضح جراء إخفاق تجارب التنمية الليبرالية، المدعومة أمريكياً خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بحيث شهدت تسعينيات القرن العشرين عودة الشعبوية مجدداً بعد أن خفتت لعقدين كاملين، بعد فشل تلك السياسات في إرضاء طموح ومطالب المواطنين، والتي ساهمت بعودة قوية لليسار أبرز تجلياتها وصول هوغو شافيز إلى سدة الرئاسة في فنزويلا.

إضافة إلى ذلك، شكلت الأزمات الإقتصادية الكثيرة، التي خلقها النظام الليبرالي من أجل إحكام سيطرة واشنطن على “الحديقة الخلفية”، وإنتقال أزمات المركز نفسه إليها وتأثرها الكبير بها، وليس أدل على ذلك من دليل إلا أزمة 2008 المالية التي عصفت بأغلب دول العالم وزادت الشعوب فقراً وحرماناً، دافعاً ومحفزاً من أجل الإسراع في تغيير أنظمة الحكم بشكل عكسي تماماً.

من هنا، يرى الكثير من المراقبين بأن صعود اليسار دائماً ما يأتي كرد فعل على سياسات “الليبرالية الجديدة” لا سيما على الصعيد الإقتصادي، كتخفيض الدعم الحكومي للسلع الأساسية، ولمدخلات العملية الإنتاجية، ومحاولة جذب الإستثمارات الأجنبية، فضلاً عن التوسع في عملية الخصخصة. أما على الصعيد الإجتماعي، عادة ما تكون السياسات الداخلية غير متوافقة مع المتطلبات الحقيقية للمواطنين، خصوصاً لجهة نوعية الخدمات وتقديمها للطبقتين الوسطى والفقيرة، اللذان تشكلان النسبة الأكبر من شرائح المجتمع، وأبرزها تدهور مستوى الخدمات الصحية، والتعليمية، وتراجع المداخيل، حيث تشير التقديرات بأن نسبة كبيرة من اللاتينيين، تصل إلى حدود الـ 71%، يعتقدون أنهم محكومون من قبل جماعات صغيرة، أو ما يمكن تسميتها بالطبقة الأوليغارشية، لا تراعي إلا مصالحها الخاصة ومصالح السوق.

من خلال هذا الواقع، إستفاد رؤساء اليسار من تجربة من سبقهم ونجاحاتهم بشكل كبير، لا سيما القدرة على حشد أصوات الناخبين للوصول إلى الحكم؛ وأبرز مثال على ذلك، إعتماد الرئيسة ديلما روسيف، وبشكل كبير، على شعبية الرئيس السابق دا سيلفا الذي شكَّل دعمه لحملتها الإنتخابية الأثر الأكبر في فوزها بولاية ثانية.

الدور الكوبي

كل ما ورد أعلاه مهم جداً؛ ولكن بالعودة إلى الجذور، نرى بأن صمود كوبا، منذ ستينيات القرن الـ 20، كان الرافعة الأساسية وراء قدرة اليسار على إستعادة السلطة، لا بل حتى صموده أمام الهجمات الأمريكية، الإقتصادية وكذلك العسكرية. لقد شكلت هافانا “الحصن المتقدم” بوجه إمبريالية واشنطن، ولا تزال حتى اليوم، وهو ما إستفادت منه فنزويلاً كثيراً، وما زالت، منذ تولي الرئيس الراحل هوغو تشافيز الحكم وصولاً إلى الرئيس نيكولاس مادورو.

ومع بداية التغيير في النظام العالمي، لا يمكن إغفال دور روسيا، تحديداً، في تثبيت وصمود نظام كراكاس على الرغم من محاولة الإنقلاب البرلمانية التي قادها خوان غوايدو، بطريقة تشابه ما حصل مع الرئيسية روسيف في البرازيل. أيضاً، لا يمكن إغفال دور الصين التي تحاول جذب القارة إليها، وسحب البساط من تحت واشنطن، عبر المشاريع الإقتصادية الهامة والكبيرة، مثل قناة نيكاراغوا وشبكة المواصلات الحديدية، التي تقوم على التنمية المتبادلة لا على التبعية.

خلاصة القول، إن اليسار اللاتيني يقع، يستعيد قواه، لينهض مجدداً.. لكنه لا يسقط ابداً. فهو من قاد وألهم العديد من ثورات هذا العالم، ولا تزال صور رموزه، كشي غيفارا، مرفوعة على يافطات المحتجين وموشومة على صدور الثائرين.





المصدر: مركز سيتا للدراسات الاستراتيجية