كُتّاب الموقع
إيرن وسياسة النفس الطويل في المنطقة والاتفاق النووي

سركيس أبوزيد

الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2019

ثمة سباق بين العقوبات الأميركية والمناورات الإيرانية، بين سياسة التصعيد الأميركية الھادفة الى تضييق الخناق على إيران وجلبھا الى طاولة المفاوضات، وسياسة كسب الوقت الإيرانية الھادفة للوصول بسلام الى محطة الانتخابات الأميركية والرھان على سقوط ترامب. وفي الوقت الضائع، تدور لعبة الوساطات وتدخل أطراف وسيطة جديدة بعد سقوط الوساطة الفرنسية وبالضربة الإيرانية القاضية على يد المرشد الأعلى السيد خامنئي الذي قال:"إن الأوروبيين دخلوا في الظاھر كوسيط وتحدثوا كثيرا، لكن أحاديثھم كانت فارغة المحتوى"، معتبرا أن "دوافع العداء الأوروبي مع الجمھورية الإسلامية لا تختلف كثيرا مع العداء الأميركي، وأن الأوروبيين ورغم وعودھم بقوا ملتزمين بالحظر الأميركي، ولم يتخذوا أي إجراء، ومن المستبعد أن يتخذوا من الآن فصاعدا موقفا لصالح إيران، ومن ھنا، لا بد من قطع الأمل من الأوروبيين".


وفي أول حادث بحري يطال ناقلة نفط إيرانية في مياه الخليج، بعد سلسلة حوادث أصابت ناقلات سعودية وإماراتية وأجنبية، حيث أصيبت مؤخراً ناقلة النفط الإيرانية "سينوبا" بانفجار في البحر الأحمر بالقرب من جدة بالمملكة العربية السعودية ولفتت وكالة "رويترز" الى أن الإنفجار بالناقلة المملوكة للشركة الوطنية الإيرانية للنفط سبب أضرارا بالغة وتسرّبا نفطيا في البحر الأحمر. مما زاد من فتيل التوتر بين البلدين. وحرك وساطات عدة بينهما، والسؤال هنا، ھل نرى حوارا سعوديا - إيرانيا؟!


في الواقع، هناك جملة مؤشرات وإشارات سياسية ودبلوماسية تدفع الى طرح فرضية أو إمكانية قيام حوار بين إيران والسعودية، وأن تفتح للمرة الأولى منذ اندلاع حرب اليمن "ثغرة حوار" في جدار العلاقات المرتفع المسدود وذلك من خلال حركة الوساطات الناشطة على خط الخلاف المستحكم بين البلدين، وأبرزھا وساطة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المھدي الذي تقدم على إيقاع موقف عراقي متضامن مع السعودية ومنددا بالھجمات على منشآتھا النفطية في "أرامكو".


أما ثاني الوساطات، فتولاھا الرئيس الباكستاني عمران خان الذي كشف غداة عودته من الولايات المتحدة مؤخراً بأن البيت الأبيض والسعودية أيضا طلبا منه التوسط لدى إيران لتخفيف التوتر في المنطقة وتھدئة الأوضاع رغم الضربة التي تعرضت لھا منشآت "أرامكو". يضاف إليه موقف ولي العھد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي أعلن فيه الإستعداد للإنفتاح على حوار مع إيران، مفضلا الحل السياسي على الحل العسكري في مقاربة المشاكل معھا. وھذا الموقف تلقفته الأوساط الإيرانية ولمست فيه تطورا ومؤشرا على مرونة لم تكن موجودة.


أكثر ما يلفت في المرونة السعودية المستجدة ويشكل عنصر مفاجأة، أنھا جاءت بعد ھجمات "أرامكو" وخالفت التوقعات بحصول تصعيد ورد سعودي في أثرھا، ولكن حدث تحول مفاجئ من التصعيد واللغة العسكرية الى التھدئة واللغة السياسية.


 وضمن هذا الإطار أيضاً جاءت الزيارة التاريخية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً الى المملكة السعودية. ھذه الزيارة ھي على جانب كبير من الأھمية لأنھا دلت الى دخول العلاقات الثنائية الروسية - السعودية مرحلة جديدة باتجاه التطوير والتوسع في كافة المجالات الاقتصادية والعسكرية، ولكن النقطة الأھم الذي أوحته ھذه الزيارة هو تبدل في أجواء السعودية وسياساتھا وباتجاه تنويع العلاقات الخارجية وكسر إحتكار الولايات المتحدة لھذه العلاقات.


أما الأسباب والعوامل التي دفعت السعودية الى ھذه التغييرات في سياستھا العربية والإقليمية والدولية، فأبرزھا:


- حرب اليمن التي لم تحقق أھدافھا وثبت أنھا لا تنتھي بالحسم العسكري وإنما بالحل السياسي وبالإتفاق مع إيران.


 - الحرب السورية التي انتھت عمليا الى "بقاء الرئيس الأسد" والى تكريس دور روسيا الأساسي في رسم مستقبل سوريا السياسي.


-الخيبة من الرئيس الأميركي ترامب الذي لا يريد محاربة إيران وإنما الإتفاق معھا وتسبب بإشعال غضبھا على دول الخليج حلفاء أميركا.


أما على الصعيد الأوروبي فقد أسقطت طهران رهانها على "التعويض الأوروبي"، لذلك أقدمت طھران مؤخراً على خطوة عملية في التخلي عن إلتزامھا النووي، ونقلت غاز اليورانيوم إلى منشأة "ف ردو" الواقعة تحت الأرض بإشراف الوكالة الدولية، تمھيدا لبدء عملية تخصيب اليورانيوم بنسبة 5%. وجرى الإعلان عن ھذا الإجراء الجديد غداة إنتھاء مھلة أعطتھا طھران للدول الباقية ضمن الإتفاق، بھدف مساعدتھا على تجاوز تبعات الإنسحاب الأميركي من الإتفاق عام 2018.  


إعلان إيران خطوة رابعة من خفض إلتزامات الإتفاق النووي ضمن مسار الإنسحاب التدريجي الذي بدأ منذ أيار الماضي، حصل بھدف الضغط على الأوروبيين لتعويض خسائر العقوبات الأميركية التي شلّت العلاقات البنكية ومبيعات النفط. وكما في المرات السابقة، حضت باريس السلطات الإيرانية على الرجوع عن إنتھاكاتھا للإتفاق والإمتناع عن أي خطوة إضافية من ھذا النوع. وتقول مصادر دبلوماسية أوروبية إن الخطوة الإيرانية وضعت البلدان الأوروبية الثلاثة الموقعة على الإتفاق النووي (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) في موقف حرج، خصوصا أن معلومات متواترة سبق أن أفادت بأن الثلاثة قد حذروا طھران أن إستمرارھا في إنتھاك نصوص الإتفاق ربما سيدفعھم باللحاق بالولايات المتحدة الأميركية والتخلي بدورھم عنه.


بعد الخطوة الإيرانية الرابعة في خفض التزامات طھران الواردة في الإتفاق النووي، ينصبّ السؤال على فرص جديدة للدبلوماسية من جھة، ومن جھة أخرى موت قريب للإتفاق. وھو ما تتنوّع القراءات في شأنه لدى المتابعين في طھران، بما يوحي بأن الخطوة فتحت المسارين معا في انتظار تفاعل أوروبا، لكن أكثر ما تؤكده الخطوة ھو أن التجمد والطريق المسدود الحالي في الإتفاق النووي سيستمران على أقل تقدير حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة واتضاح مصير البيت الأبيض، وأن لا طھران ولا واشنطن تظھران مرونة ورغبة في التراجع عن سياساتھما.


إيران ربحت الجولة وأمسكت بزمام المبادرة في ھذه المواجھة التي تقف فيھا في موقع الھجوم والمبادر وإملاء الشروط لأي مفاوضات ولقاءات. وأثبتت إيران أنھا مقابل العقوبات القصوى من جانب أميركا، قادرة على إتباع الضغوط القصوى من جھتھا، وأنھا لن تتنازل تحت وطأة العقوبات ولن تدخل مفاوضات بشروط أميركية. وأن استراتيجيتھا ھي الصمود اقتصاديا حتى الانتخابات الأميركية وانتظار مصير ترامب والرھان على سقوطه ومجيء الديمقراطي جو بايدن رئيسا مكملا لنھج أوباما.